السبت، 26 أبريل 2025

القدس .. ونهاية القرن الامريكي

القدس ونهاية القرن الآمريكي


 بقلم: سيف الهاجري

الأمين العام لحزب الأمة ـ الكويت


لا تكتفي قوةٌ خيّرة أو شريرة بنفسها، إذ تجوب قوى الشر العالمَ للهيمنة ونشر الفساد إذا ما غابت قوى الخير المؤمنة عن أن تجوب العالم لنشر الخير والعدل.. تتلقى الأمة المسلمة، في حال ضعفها منذ قرنين، قرارات الغرب وهي محل قبول وترتيبات، عدا ما يمنع العدو من أقدار الله ومُدافعة المؤمنين..


تصريحان عن حال الأمة

“إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين” بلفور

“قبل سبعين عاما اعترفت الولايات المتحدة أثناء حكم الرئيس هاري ترومان بدولة إسرائيل، ومنذ ذلك الوقت أقامت إسرائيل عاصمتها في مدينة القدس” ترامب

من خطاب بلفور عام ١٩١٧م إلى خطاب ترامب عام ٢٠١٧م مرّ قرن على احتلال القدس الشريف ليعيد التاريخ نفسه بالنظام الدولي والإقليمي والعربي نفسه الذي تشكل بعد الحرب العالمية الأولى بعد سقوط الخلافة العثمانية الإسلامية.

ومن عجائب الأقدار تشابه ما قامت به بريطانيا بالأمس وأمريكا اليوم من خطط وترتيبات دولية وإقليمية سبقت الخطابين.

ففي عام ١٨٨٢م احتلت بريطانيا مصر ومنها انطلقت نحو العمل على إسقاط الخلافة العثمانية وإعادة تشكيل المنطقة العربية وبالفعل بدأت مرحلة سقوط الخلافة العثمانية مع انقلاب ١٩٠٨م والذي أسقط الخليفة عبدالحميد الثاني الرافض لإقامة وطن يهودي في فلسطين.

دور أمراء الخليج وشيوخ القبائل العربية

ومع قيام الحرب العالمية الأولى وبعد عجز الجيش البريطاني في تجاوز دفاعات الجيش العثماني في غزة فلسطين رتبت بريطانيا لمؤتمر الكويت ١٩١٥م والذي حضره أمراء الخليج وشيوخ القبائل العربية لدعم الشريف حسين الذي خرج على الخلافة العثمانية عام ١٩١٦م لتنهار بعد ذلك دفاعات الجيش العثماني في الشام والعراق والجزيرة العربية بعد هذا الاختراق الداخلي من قبل ما عرف بعد ذلك بالنظام العربي الرسمي.

وفي ظل هذا الانهيار صدر وعد بلفور بعد التنسيق مع أمريكا (كتاب الجبروت والجبار – مادلين أولبرايت) قبل شهر من دخول الجنرال اللنبي القدس عام ١٩١٧م ليبدأ مع هذا السقوط مرحلة مئوية سيطرت فيها الحملة الصليبية الأخيرة على العالم العربي والإسلامي كما أسماها لويل توماس في مسرحيته التاريخية الشهيرة.

نظام عالمي جديد على أنقاض الخلافة

وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى ووفقا لمقررات مؤتمر فرساي عام ١٩١٨م تشكل نظام عالمي جديد على أنقاض الخلافة العثمانية وإمبراطورية الهابسبورج النمساوية والإمبراطورية الألمانية والقيصرية الروسية..

وظهرت عصبة الأمم بشعاراتها البراقة الداعية لحرية الشعوب واستقلالها وجعلتها تحت الوصاية الدولية لتهيئتها لحكم نفسها بنفسها ليعيد الاستعمار الدولي إنتاج نفسه من جديد باسم الشرعية الدولية كما هو الحال اليوم مع الأمم المتحدة ومجلس الأمن.

وأما العالم العربي فقد عقد وزير المستعمرات تشرشل مؤتمر القاهرة عام ١٩٢١م (كامب ديفيد ذلك العصر) ووضع فيه أسس النظام العربي الذي حكم العالم العربي إلى يومنا هذا وفق منظومة سياسية وعسكرية وقضائية واقتصادية وثقافية مرتبطة ارتباطا عضويا بالدول الاستعمارية التي تدير النظام الدولي المتحكم بالمنطقة والعالم.


اتجاه أحداث اليوم

وجاء ترامب اليوم بعد مرور قرن كامل على هذه الأحداث التاريخية ليعلن بشكل نهائي أن القدس هي العاصمة التاريخية والمختارة للشعب اليهودي وبنفس عبارات بلفور من قبل.

وهذا الإعلان من ترامب لم يأت كوعد انتخابي فقط كما يدعي بل جاء ضمن سياق ترتيبات دولية وإقليمية لإعادة ترتيب المشهد العربي من جديد بعد قيام الثورة العربية.

ولفهم ما يجري اليوم من أحداث لنرجع قليلا إلى فترة السبعينات، وهي الفترة التي خرجت بريطانيا من الخليج والجزيرة العربية وحلت أمريكا محلها وبدأت مرحلة جديدة من النظام الدولي والمتأثر بالحرب الباردة لكن العالم العربي ظل محكوما بالمنظومة الدولية نفسها ولم يتغير شئ كثير..

إعادة ترتيب المشهد السياسي العربي غربيا

حتى بدأت المرحلة الأسوأ في تاريخ المنطقة وهي مرحلة كامب ديفيد عام ١٩٧٨م ليعيد التاريخ نفسه انطلاقا من القاهرة، لتبدأ أمريكا بإعادة ترتيب المشهد السياسي العربي بما يتوافق مع سياستها ومصالحها..

وانطلقت الترتيبات الأمريكية مع الحرب العراقية الإيرانية وحرب الكويت ومؤتمر مدريد وحصار العراق واحتلاله وحصار غزة وحربها وكانت هذه الترتيبات تطبخ خلف الكواليس ويُهيأ لها الشارع العربي بهذه الحروب المدمرة لإيصاله إلى القبول بمشروع الشرق الأوسط الذي أطلقه شمعون بيريز في عام ١٩٩٣م والذي طوره بوش الابن بعد احتلال العراق تحت اسم مشروع الشرق الأوسط الكبير من المغرب إلى إندونيسيا لإعادة تشكيل العالم العربي والإسلامي لتحقيق الحلم الأمريكي التاريخي والديني لجعل القرن (٢١) قرنا أمريكيا.

لكن مصير هذا المشروع ارتبط بالمقاومة العراقية ومدى نجاحها(١) ـ وهو ما أكدته أحداث المقاومة العراقية التي استطاعت وقف مشروع بوش على أسوار بغداد وإفشاله.

مرحلة إدارة أوباما

وجاءت إدارة أوباما لتبدأ العمل على تحقيق هذا المشروع الأمريكي للشرق الأوسط والذي يعتبر النظام العربي والتركي أهم الأسس لنجاحه..

فجاء خطاب أوباما في القاهرة وضع الأسس والمنطلق لهذا المشروع، وواجهت إدارة أوباما الفشل الذريع وانهارت مخططاتها للسلام والتطبيع كأرضية للقرن الأمريكي مع قيام الثورة العربية عام ٢٠١٠م التي هزت النظام العربي وأسقطت رموزه.(٢)

بالرغم من توظيف أمريكا لإيران ومشروعها الصفوي الطائفي كمخلب وتفاهمهما لمواجهة الثورة العربية في سوريا والعراق واليمن ـ بعد عجز الأنظمة العربية الوظيفية عن مواجهة الثورة ـ هذا التفاهم الذي توج بالاتفاق النووي الأمريكي الإيراني، وواجهت كذلك فشل الانقلاب في تركيا عام ٢٠١٦م.

مرحلة ترامب، وترتيبات سابقة

وفي عام ٢٠١٧م ومع قدوم ترامب استلم ملف القرن الأمريكي ليتوِّج قرنا من الاحتلال بالإعلان عن القدس عاصمة لإسرائيل، لكن ترامب لم يقدم على هذا الإعلان إلا بعد ترتيبات دولية وإقليمية سبقته وأراد بهذه الترتيبات وتتويجها بهذا الإعلان تحقيق غايتين:

الأولى: إنهاء ثورة الربيع العربي وإعادة إنتاج النظام العربي من جديد.

الثانية: التطبيع والسلام مع إسرائيل وإعلان القرن الأمريكي تحت شعار (MAKE AMERICA GREAT AGAIN) ـ لنعيد أمريكا عظيمة مرة أخرى ـ انطلاقا من صفقة القرن؛ فكما قال نابليون بونبارت ففي الشرق تصنع الأمجاد.

بدأت هذه الترتيبات الأمريكية مع الدعوة لعقد قمة عربية إسلامية أمريكية في الرياض ٢٠١٧م وصدر بيانها الرسمي بتشكيل تحالف عسكري لمواجهة الإرهاب كما يدعى وليعلن ترمب من تل أبيب بداية عصر جديد من التطبيع تمهيدا لصفقة القرن.

إجراءات قبل القرار

وبدأت الأدوات الوظيفية في التمهيد لهذه الصفقة..

فأعلن عن تسويات سياسية في كافة ساحات الثورة لإنهائها كما يتمنون..

وبدأت الخطوات العملية بحصار الدول الداعمة للربيع العربي كقطر وتركيا لتهيئة المشهد العربي للمرحلة الجديدة بعد إنهيار مرحلة كامب ديفيد وانتهاء دورها..

ترتيبات بعد قمة الرياض

فجاءت الترتيبات الأمريكية للمشهد العربي بعد قمة الرياض على النحو التالي:

  • حصار قطر وإنهاء دورها في دعم الربيع العربي.
  • حصار المسجد الأقصى لتهيئة وضعه القانوني والشرعي للتسوية القادمة.
  • استفتاء كردستان بالانفصال عن العراق لعزل تركيا واشغالها بالملف الكردي.
  • المصالحة الفلسطينية برعاية مصرية لتهيئة الساحة الفلسطينية.
  • إعادة ترتيب المشهد السوري بقبول المعارضة السورية بالمرحلة الانتقالية بوجود الأسد والمحافظة على الجيش والأمن.
  • إعادة ترتيب المشهد اليمني بعودة علي عبد الله صالح وحزبه للسلطة والمحافظة على الجيش والأمن.(٣)
  • عقد القمة الخليجية في الكويت وتبنيها ودعمها للترتيبات الأمريكية للمشهد العربي وبحضور وزير الدفاع الأمريكي.
  • الإعلان عن القدس عاصمة لإسرائيل.

هكذا أرادت أمريكا للمشهد في المنطقة أن يكون وفق هذه الترتيبات لكنها فشلت في تحقيق ما وضعت لأجله، ولعل أهمها هو مقتل علي عبدالله صالح، والذي هز الثورة المضادة وأركانها وظهرت تداعياته على نتائج القمة الخليجية في الكويت ومستوى التمثيل المتواضع، ومغادرة وزير الدفاع الأمريكي المبكرة..


نهاية كامنة في البداية

ليأتي إعلان ترامب المشؤوم على المشروع الأمريكي وأهله وهو فاقد للأرضية اللازمة لإنجاحه وليكون إعلانا لبداية القرن الأمريكي ليصبح إعلانا رسميا لنهاية القرن الأمريكي.

إن إعلان ترامب هذا قد أدخل الأمة وثورتها وربيعها مرحلة جديدة مع دخول القدس والأقصى وفلسطين في الصراع مع قوى الاحتلال والاستبداد.. وأدركت الأمة حقيقة هذا الصراع وطبيعته العقائدية والتي يأبى الغرب إلا أن يظهرها بين الحين والآخر ليؤكدها ترامب بشكل واضح وجلي بوصفه للقدس في خطابه أنها (العاصمة المختارة للشعب اليهودي في العصور القديمة).


دور الأمة

وهكذا ليس أمام الأمة اليوم إلا الرجوع للإسلام وأحكامه، وطبع ثورتها به؛ لمواجهة المشاريع التي تداعت عليها لتحاربها في أوطانها وتنهب ثرواتها وتقتل شعوبها تحت شعارات مختلفة من شعار محاربة الإرهاب إلى شعار إقامة الأمن والسلام.

‏ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾

الخميس 18 ربيع الأول 1439هـ 7 / 12 / 2017م

المصدر



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق