نور الحق وظُلمة العناد!
بقلم: د. محمود القاعود
يروي القرآن الكريم قصص الأمم السابقة ويُبيّن مواقفها مِن دعوة الأنبياء لتكون عبرة للأمم اللاحقة وعظة للقلوب المؤمنة..
ومِن بين هذه القصص ما ورد في سورة الأعراف وسورة الحجر.. حيث يُصوِّر الله تعالى عناد الكفار وإصرارهم على رفض الحق مهما جاءتهم مِن آيات بينات ودلائل واضحات.. تفسيرا ابن كثير وفخر الدين الرازي يسلطان الضوء على هذا العناد.. ويكشفان عن أسبابه مما يعزز الإيمان في قلوب المؤمنين بأنَّ الحق لا يحتاج إلى إذعان الجاحدين ليثبت.. وأنَّ الله تعالى هو الهادي والمضل بحكمته وقدرته.
في سورة الأعراف يُخبرنا الله تعالى عن موقف قوم فرعون من دعوة موسى عليه السلام حيث قالوا: «وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ» (الأعراف: 132)..
يُوضّح ابن كثير أنَّ هذا القول يعكس تمرد قوم فرعون وعتوهم.. حيث رفضوا كل دليل وكل حجة، معتبرين الآيات سحرًا، ومصرين على عدم الإيمان مهما كانت قوة الدلائل.. وهذا العناد ليس مجرد جهل..
بل هو إصرار واعٍ على الباطل نابع مِن الكِبر والتعالي والخوف مِن فقدان السلطة والنفوذ.
هذا الموقف يرشدنا إلى التأمل في عظمة الإيمان فالقلب المؤمن يتلقى الحق بنور البصيرة.. بينما القلب المُصر على الجحود يعميه الكبر عن رؤية الحقيقة.
إنَّ الله تعالى بقدرته وحكمته يُرسل الآيات لتكون رحمة وهداية لكنه لا يُجبر أحدًا على الإيمان لأن الإيمان اختيار ينبع مِن القلب الخاشع.
في سورة الحجر يُصوِّر الله تعالى موقفًا مشابهًا مِن الكفار.. حيث يقول عزَّ وجل: «وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسْتَهْزِءُونَ» (الحجر: 11).
يُبين فخر الدين الرازي أنَّ هذا الاستهزاء ليس حدثًا عابرًا.. بل عادة متأصلة في نفوس المشركين.. ويعدد الرازي أسباب هذا السلوك.. منها استثقالهم للطاعات ورفضهم ترك أديانهم الباطلة وكبرهم على خدمة الرسول خاصة إذا كان فقيرًا أو قليل الأنصار.. وأخيرًا خذلان الله لهم بإلقاء دواعي الكفر في قلوبهم..
هذه الأسباب تكشف عن طبيعة النفس البشرية حين تُغلق أبوابها أمام الحق فتصبح أسيرة هواها وكِبرها.
لكن هذه الآية الكريمة تحمل في طياتها تسلية لسيد الكائنات ﷺ وللمؤمنين..
فهي تؤكد أنَّ هذا الاستهزاء ليس جديدًا.. بل هو سنة مستمرة مع كل الأنبياء..
وهنا يتجلى الإيمان العظيم حيث يصبر المؤمن على الأذى واثقًا بأن الله تعالى ناصر دينه وأن الحق سيظهر مهما طال أمد الجحود.
ينتقل الخطاب الإلهي إلى تقرير حقيقة المعاندين: «كَذَٰلِكَ نَسْلُكُهُۥ فِي قُلُوبِ ٱلۡمُجۡرِمِينَ» (الحجر: 12) قضية دقيقة تتعلق بالهداية والضلال.. يرى الرازي أنَّ هذه الآية الكريمة تثير نقاشًا حول تفسير «السَّلك» حيث يذهب البعض إلى أن الله يخلق الكفر في قلوب الكفار بينما يرى المعتزلة أن المقصود هو إدخال القرآن في قلوبهم.. لكنهم يرفضونه عنادًا وجهلًا.. هذا النقاش يبرز حكمة الله في ابتلاء الناس فهو يهدي من يشاء ويضل من يشاء، لكنه لا يظلم أحدًا.
إنَّ الكفر الذي يتسلل إلى القلوب هو نتيجة اختيار الإنسان للباطل.. حيث يُغلق قلبه عن الحق فيُخذله الله بسبب إصراره على الضلال.
هذا المعنى يُعزز إيمان المؤمن بأن الهداية نعمة عظيمة تستوجب الشكر والدعاء الدائم بأن يثبت الله القلوب على الحق.. كما يذكرنا بأن العناد والكبر هما طريق الضلال.. وأن التواضع والانفتاح على الحق هما سبيل الهداية.
وتصل الآيات الكريمات إلى ذروة تصوير العناد في قوله تعالى: «وَلَوۡ فَتَحۡنَا عَلَيۡهِم بَابࣰا مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ فَظَلُّوا۟ فِيهِ يَعۡرُجُونَ لَقَالُوۤا۟ إِنَّمَا سُكِّرَتۡ أَبۡصَـٰرُنَا بَلۡ نَحۡنُ قَوۡمࣱ مَّسۡحُورُونَ» (الحجر: 14-15).
يوضح الرازي أنَّ هذه الآية الكريمة تبين أن الكفار حتى لو شاهدوا معجزة عظيمة كفتح باب مِن السماء وصعودهم فيه لرفضوا الإيمان.. مدعين أن أبصارهم قد سُحرت.. هذا الموقف يكشف عن عمى البصيرة حيث يرفض القلب الحق حتى في مواجهة الأدلة المعجزة.
هذا المشهد يملأ القلب إيمانًا بقدرة الله عزّ وجل وحكمته فهو يعلم أن الكفار لن يؤمنوا لأن قلوبهم قد أغلقت أبوابها أمام الحق..
ومع ذلك فإن الله تعالى يرسل الآيات رحمة وإنذارًا.. لتكون الحجة قائمة على الجميع..
ولذلك فإنَّ هذا الجحود يبرز عظمة الصبر النبوي .. حيث تحمل الأنبياء أذى أقوامهم واثقين بنصر الله وتأييده.
إنَّ الهداية إلى الحق هي نعمة تستوجب الشكر والدعاء الدائم بثبات القلب..
فالكفار الذين أغلقوا قلوبهم عن الحق يذكروننا بقيمة الإيمان وأهمية المحافظة عليه.
إنَّ آيات سورة الأعراف وسورة الحجر تكشف عن حقيقة عناد الكفار وإصرارهم على الجحود، مهما كانت الآيات واضحة ومعجزة..
هذه الآيات هي دعوة لتعزيز الإيمان في قلوب المؤمنين وتذكير بأن الحق ثابت بنفسه ولا يحتاج إلى إذعان الجاحدين.
فلنحمد الله تعالى على نعمة الإيمان ولنسأله أنْ يُثبِّت قلوبنا على الحق.
في 19 إبريل 2025م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق