عبد الناصر 2025... السي سادات

وائل قنديل
لم يترك عبد الحكيم جمال عبد الناصر الحيرة تستبدّ برؤوس الجماهير طويلاً، فخرج بسرعة ليعلن أنه مصدر تسريب المكالمة بين والده، الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، والعقيد معمّر القذّافي، تلك المكالمة التي أشعلت الجدل منذ يومين، إذ تقدّم نسخةً من جمال عبد الناصر مطابقةً للمواصفات المطلوبة في هذه اللحظة من العام 2025.
خرج ابن عبد الناصر في تصريحات صحافية أمس ليعلن بفخر أنه مصدر التسريب، ولديه المزيد، ثمّ يقول ببراءة الأطفال: "المحادثة ليست تسريبأ... لا أعرف من يستفيد من نشرها، لكن الحقائق تظلّ حقائق.
عبد الناصر لم يقل إطلاقاً إنه سيرمى إسرائيل فى البحر أو يحرّر فلسطين من النهر للبحر.. سأرفع العديد من المواد الأخرى على قناة Nasser TV على يوتيوب (الشروق)".
حاول ابن عبد الناصر توريط مكتبة الإسكندرية في الموضوع بالقول إن التسجيل مودع مع تسجيلات أخرى عديدة في المكتبة التي سارعت إلى نفي أيّ علاقة لها بنشر المكالمة التي أثارت هذا الجدل، إذ إن مضمون المكالمة الشخصية المنشورة من طريق الابن الأصغر بين والده عبد الناصر والقذافي، التي يقال إنها كانت في أغسطس/ آب 1970، قبل وفاة عبد الناصر بشهر تقريباً، يقدم لنا عبد الناصر مختلفاً عمّا استقرّ في الذاكرة الجمعية، بل يمكن القول إنها نسخة ساداتية، أو حتى سيسية، من عبد الناصر، ملائمة تماماً لمعايير اللحظة الراهنة، إذ تظهره المكالمة ضعيفاً يائساً انهزامياً مسلّماً بالتفوّق المطلق للكيان الصهيوني، ومقرّاً بأن لا طاقة له ولمصر في مواجهته، ولا سبيل (والحال كذلك) سوى الاستسلام لما تريد الولايات المتحدة فرضه من معادلات في الشرق الأوسط.
تظهر المحادثة عبد الناصر وقد ضجّ بعروبته وانكفأ على مصرّيته، يكاد يعلن انسحابه واستقالته من القضية الفلسطينية، إن لم يستجب العرب للمسار الذي تفرضه مبادرة روجرز، أو فليذهبوا هم لمحاربة الكيان الصهيوني، لكنّنا لن نحارب، نحن هنا قاعدون ولن نضحّي بأولادنا ويمكن أن ندفع خمسين مليون دولار لمساعدة من يريد أن يحارب. كما يبدو الرجل غاضباً وساخطاً على الجميع، حكومات عربية وفصائل فلسطينية، وهو الغضب الذي يفسرّه ابنه عبد الحكيم في تصريحاته (أمس) بأن "الدول التى انتقدت جمال عبد الناصر كانت تزايد عليه من دون أن تفعل شيئاً، وتخلّوا عنه، رافعين شعار ضرورة الحرب بلا نهاية حتى آخر جندى مصري".
ينسف هذا المضمون صورة جمال عبد الناصر، ويشعل النار في الرجل وتاريخه وذكراه، بوصفه ذلك الزعيم الذي امتلك قلوب جماهير الأمة العربية، وقال في رثائه نزار قباني "قتلناك يا آخر الأنبياء"، وهنا لا تكون صعوبة في التعرّف إلى المستفيد من اختراع هذه النسخة من عبد الناصر في هذا التوقيت، الذي تتهيأ فيه المنطقة للانتقال من حالة عربية تعادي الاحتلال الصهيوني إلى حالة شرق أوسطية تتعاون فيها معه وتذعن لهيمنته عليها، والسبب، كما يقدّمه عبد الناصر في التسريب، أنه لا قبل لأحد بمحاربة إسرائيل وأميركا، ولا مكان للمقاومة، وعلى الجميع التخلّي عن أسلحتهم والجلوس بين يدي روجرز وكيسنجر وترامب.
المستفيد هنا هو نظام عربي انتهى، أو أوشك على التخلّص من إسلام سياسي معاصر يتّخذ المقاومة سبيلاً لانتزاع الحقوق، واحتفل بمقتل رموز المقاومة كلّها، واحداًَ وراء الآخر، إسماعيل هنية وحسن نصر الله ويحيى السنوار ومحمّد الضيف، وابتهج بعزل حزب الله في لبنان وحصار "حماس" و"الجهاد الإسلامي" في فلسطين، ولم يعد باقياً من مسبّبات الإزعاج سوى ظلال الرموز القديمة التي رفعت شعارات مثل "لا صلح لا اعتراض لا تفاوض"، و"ما أخذ بالقوة لا يستردّ بغير القوة"، فلنحرق رموز الماضي كما أحرقنا الحاضر المقاوم.
الصدمة من جرأة الابن الأصغر لعبد الناصر على إشعال النار في تاريخ الوالد، دفعت كثيرين إلى الميل إلى فرضية أن مكالمة شخصية بهذه الحساسية والخطورة قد تكون من منتجات تقنيات الذكاء الاصطناعي. وبصرف النظر عن صحّة ذلك من عدمه، فإن هذه النسخة "السيساداتية" المسرّبة من عبد الناصر تصطدم بمعطيات الواقع الحقيقي لتلك الفترة، ولدينا هنا مجموعة حقائق أن عبد الناصر الذي تظهره المكالمة وقد كفر بالعرب والعروبة، وصبّ غضبه على المقاومة الفلسطينية والأردن ودول عربية، وعلى الكفاح المسلّح، هو نفسه عبد الناصر الذي دعا بعد أيام من تاريخ المكالمة المزعومة إلى قمّة عربية طارئة في القاهرة لوقف حمام الدم الفلسطيني في الأردن، والتوصّل إلى مصالحة بين ملك الأردن وقيادات المقاومة، وهي القمّة التي فاضت روح عبد الناصر بعد ختام أعمالها مباشرة.
لدينا كذلك، في السياق نفسه، عديد الشهادات من رجال عبد الناصر وخصومه لم تذكر واحدةٌ منها أن الرجل كان قد تملّكه اليأس والضعف فآثر خيار الاستسلام، بل عكس ذلك هو الصحيح، إذ كان قد استنفر طاقات الدولة والأمّة كلّها، للاستعداد للهجوم على العدو، وهذا موضوعٌ بحاجة إلى تفصيل.
يبقى أنه منذ اليوم الأول لوصول الجنرال عبد الفتّاح السيسي إلى السلطة، لا يترك ابن عبد الناصر الأصغر مناسبةً تمرّ من دون أن يوظّف تاريخ والده لخدمة الجنرال.
وكما قلتُ مبكّراً في كلّ مرة يفتح خزانة ملابس والده، ويستخرج قطعة يضعها على عبد الفتّاح السيسي، ثمّ يهتف مثل أطفال الحارة "بابا رجع"، من دون أن يدري أنه في اللحظة التي يحاول أن يستر السيسي فيها بقميص والده، فإنه يعرّي تاريخ الأب، وينزله إلى مستوىً لا يرضاه له جمهوره.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق