الأربعاء، 23 أبريل 2025

لتحديثيون والمحافظون: الحالة التونسية

التحديثيون والمحافظون: الحالة التونسية 

نور الدين العلوي

استاذ علم الاجتماع بالجامعة التونسية

الفكرة التي تترسخ عندنا كل يوم وتسهل التحليل الموضوعي هي أن بلدتنا (تونس) لا تتغير من داخلها بل تنتظر قوة خارجية لتطلق فيها عملية تغيير فوقي بالقوة ثم تتفاعل مع القوة الخارجية فتقبل الضغوط وتعلن التأقلم الذكي، وكان هذا ديدنها عبر التاريخ. (فينيقون/ بيزنطيون/ عرب / مسلمون مرابطون/ موحدون/ أتراك/ فرنسيون والحبل على الجرار).

في الجملة هذه بلدة تنفعل ولا تفعل. بطيئة جدا في تفاعلها وقبولها للتغيير. بلدة لا تبني لها خطة خاصة أو إبداعية، بل تتأقلم وتهضم لكنها في العمق بلدة محافظة. لا يمكنني أن أقيسها على بلدان عربية مشابهة ولكني أرى تشابها كبيرا بينها وبين مصر (هذه البلدان يسميها ابن خلدون شعوب البسائط أو السهول) وعيشها الغالب من الزراعة وساكنوها مرتبطون بالأرض في الأعم الأغلب. يمكن لفلاح منها أن يوسع حقله لكن لا يمكنه التحول إلى صناعي مغامر. وإذا غامر في الصناعة يلتصق كالعلقة بنسق تصنيعي أقوى ليخدم له مناولا بأخف الأكلاف (على غرار مغامرة النسيج التي أوحت لنا بها فرنسا مع الهادي نويرة/ حقبة السبعينيات).


التغيير يجري من حولنا.

في النصف الثاني من القرن العشرين والربع الأول من القرن 21 (75سنة) تغير العالم من حولنا بنسق سريع جدا. تغيرات ثقافية مهولة تلاشت ثقافات ونشأت أخرى بوسائل الاتصال الحديثة خاصة وتغيرات اجتماعية (طبقية) متسارعة. انهارت طبقات وقامت أخرى (المقارنات تجعل من هذا المقال كتابا وليس مجرد عرض فكرة مختصرة).

في دولة الاستقلال (دولتنا) وهي في جوهرها هدية من فرنسا، وليست ثمرة مقاومة ثورية مسلحة ذات مشروع، ألقيت إلينا فكرة تحديث تقوم على أن كل تحديث يقوم بالقوة على مسح الهوية السابقة. وهي فكرة فرنسية (ديكارتية تمسح الطاولة) أكثر منها فكرة تحديث غربي، فالتحديث في عموم الغرب لم يسر على نفس المنوال الفرنسي الثوري.

لم تنبت هذه الفكرة من رحم ثقافتنا، وهي في جوهرها تغيير من الخارج. استطبنا الفكرة لأنها مغرية (أن تنام متخلفا وتقوم صباحا تقدميا حداثيا فرنسيا تلثغ بالغين)، تعليمنا عامة وجامعتنا خاصة بنيت على هذه الفكرة واشتغلت بها من أول كراسة حتى آخر أطروحة. لكن هل تغيرنا فعلا؟

حدث تغيير في جوانب كثيرة من حياتنا، حتى عمق مطبخنا تغير. ولكن لم نطرح السؤال هل نحن نتغير بإرادتنا أم نخضع لتغيير مملى علينا؟ (صحيح أن العالم القرية يغير بعضه بعضا ونحن لا يمكن أن نعيش في جزيرة بتول) لكن المقارنات تفرض نفسها، هناك شعوب كثيرة من حولنا تتغير وتتفاعل لكنها توفق بين تاريخها وتراثها وبين تيارات التغيير الكونية (العين هنا على شعوب آسيا وإفريقيا).

فكرة التحديث الوافدة تبنتها فئات منا وحكمت بها وحصلت بها مكاسب مادية ومواقع نفوذ ممتعة (تموقع طبقي)، ومكاسبها حولتها إلى فئات محافظة ترفض أي نقد أو تغيير. أي أنها حولت فكرة التحديث إلى عقيدة دينية ثابتة. فغلب السلوك المحافظ على سلوك التغيير خاصة في الجانب السياسي. وفي الدروس النظرية أن كل تغيير وتحديث إما أن يكون شاملا ودائما أو لا يكون (عندنا الآن تحديثيون محافظون على زعم التحديث دون جوهره).

التحديث السياسي كان يعني الخروج من وضع الرئيس الواحد والحزب الواحد إلى الديمقراطية القائمة على التعدد والمشاركة لكن عندما ظهر في دولتنا تيار إسلامي (ديني) فهم كتيار معاد للتحديث الوافد خاصة وقد نَعَتَ الإسلاميون التحديثَ بالتغريب. فقام الصراع بين تحديثيين ومحافظين وُصموا بالرجعية الدينية.

كشف الصراع أن التيار الديني يتطور نحو فكرة دمج الثقافة الأصلية بالتحديث الغربي لذلك لم يجد غضاضة أن يكون متدينا ويؤمن بالديمقراطية السياسية/جوهر التحديث السياسي الغربي. وكلما ذهب هذا التيار(المحافظ) نحو تطوير فكرة التوفيق بين الدين والديمقراطية قابله التيار التحديثي بالإقصاء حتى انقلب الوضع، المحافظ صار حداثيا يتبنى الديمقراطية السياسية يعاديه تيار تحديثي محافظ يرفض الديمقراطية السياسية (هذا القياس قابل للتعميم عربيا إننا نراه يطل برأسه في سوريا).

وهذه فكرة/ محاولة تغيير من الداخل (وتعتبر نقضا للفكرة الأصلية) لكنها أفشلت من الخارج ومن الداخل. ونحن نعيش فشلها الآن جليا. نحن نعيش أغرب مرحلة قد يعيشها شعب في تاريخه السياسي والثقافي. المتدينون المحافظون (الرجعيون بالوصم) يعملون على تحديث سياسي عبر الديمقراطية، والتحديثيون يرفضون كل تغيير يهز الأسس التي تبنوها عن التحديث. وكان الربيع العربي حقل تجربة لهذا التناقض العجيب. والنتيجة هي انهيار عملية التغيير من الداخل التي وعدت بها الديمقراطية.

لنذكر هنا: الإسلاميون (المحافظون بالنعت) كانوا مع التغيير بالديمقراطية في انتخابات 1981 و1989 أي قبل الربيع العربي وفي 2011 و2019 بينما عمل التحديثيون على منع ذلك في المواعيد المذكورة ووقفوا وإلى الآن مع منظومة الحكم التي زعمت قيادة التحديث لكن دون ديمقراطية. والمواقع الآن مثبتة تحديثيون (بالوصم) واقفون مع النظام غير الديمقراطي ورجعيون (بالوصم) يعارضونه على قاعدة الديمقراطية.


لا تغيير، ولكن محافظة (تقدمية)

تقدمي محافظ ورجعي ديمقراطي هذه ليست نكتة في تونس. نتيجتها انهيار التغيير من الداخل والوضع يتجه إلى انهيار اقتصادي وسياسي برعاية التحديثيين الذين زعموا قيادة التغيير والتحديث والتقدمية. الوضع يعود بنا إلى انتظار قوة خارجية لتغيره.

نعود هنا إلى تأكيد الفكرة الأولى: انتظار التغيير من الخارج. والخارج لم يكن أبدا صديقا لذلك فإن أي تغيير سيكون في اتجاه يحفظ مصالح الخارج أي إعادة تدوير نظام المصالح أي تغيير داخل الركود التاريخي (نسخة أخرى من بن علي)، بتغيير الفاعلين الظاهرين بآخرين من جنسهم يحفظون نظام المصالح للقوى المحافظة فعليا في الداخل (أي التقدميين) ضد القوى الساعية إلى الديمقراطية رغم وصمها بالرجعية. هل علينا بالصبر والتريث حتى يفي التحديثيون إلى الديمقراطية فيتفقون مع المحافظين في المطلب الديمقراطي؟ هذا أفق مغلق في تقديري. أصحاب المصلحة في التغيير (الإسلاميون ومعهم قلة من الديمقراطيين) أضعف من أن يقلبوا المسار فيعيدونه إلى مسار ديمقراطي. لأنهم فشلوا في الاستحواذ على مواقع النفوذ الاقتصادي. إن عددهم الذي ظهر في الصناديق الانتخابية ليس كافيا لقلب المعادلة لأنه لم يتسلح بقوة اقتصادية (لا بأس من القياس مع مصر).

القوة الاقتصادية (مشبهة نظريا بقوة البرجوازية الغربية التي قادت التحديث الفعلي في بلدان الغرب) لكنها عندنا تفكر بعقل ما قبل رأسمالي أي إقطاعي في العمق. شكلها برجوازية تحديث بينما عمقها إقطاع محافظ ومتسلح بفاشية سياسية. بينما القوى المحافظة بالوصم هي بروليتاريا رثة وإن تشكلت في حزب جماهيري.

المنظومة (التقدمية بالوصم) المحافظة عمليا أقوى مما نظن لا لقوة فكرتها، بل لقوة دورها في حفظ مصالح خارجية تقوم بإسنادها من الخارج. لذلك فإنها تشتغل على حفظ مصالح حُمَاتِها الخارجيين لتحفظ بذلك مصالحها المحلية. وحفظ هذه المصالح يتعارض مع الديمقراطية المحلية. هنا يقوم التحالف واضحا بين رأس مال خارجي مهيمن وبين رأس مال محلي (تابع) يخدمه أيديولوجيا التقدميين التونسيين. وأي تغيير سياسي قد يكسر هذه المعادلة مرفوض ويحارب وللغرابة بخطاب تقدمي. نحن هنا نقرأ بأدوات ماركسية مبسطة ولكنها فعالة. فنجد الماركسيين (اليسار عامة) جزء من القوى”التقدمية” المعادية للتيار الديني المحافظ (نظريا) يخدمون(عمليا) وضع الجمود السياسي.


انقلاب فكري غريب وعجيب

كل تنظيرات الماركسية التقدمية (العربية) تصب في أن القوى الاقتصادية المحلية هي قوى تابعة أو كمبرادور رجعي خياني لا يؤمن بالسيادة الوطنية. بما يجعل كل مؤمن بالماركسية يعارضه ويحاربه. لكن العكس يجري أمام أنظارنا، ففي القياس الكلاسيكي المعتمد، فإن تحالفا موضوعيا يقوم بين الإسلاميين وبين طبقة رأس المال باعتبار إن كليهما قوة محافظة (رجعية)، ضد قوى التحديث لأنها بالقياس نفسه تقود ثورة ضد رأس المال الرجعي (العميل)، لكن العكس هو الذي يحصل في تونس ومثيلاتها العربية. تحالف التقدميين ومنهم تيارات اليسار وشخصياته ضد التيار الإسلامي، الذي وجد نفسه ثوريا برغمه أو مؤهل لدور ثوري تقدمي على الأرض يعمل على تحقيق الديمقراطية السياسية ولو بشكلها التمثيلي.

هل الإسلاميون (المحافظون) ديمقراطيون فعلا؟ لم يمنح الإسلاميون في تونس (وفي كل البلدان العربية المشابهة) فرصة كاملة للمشاركة السياسية ليتم الحكم عليهم أو لهمظ، واختبار نواياهم المعلنة. لقد استعمل الحداثيون قوة الدولة لمنعهم من المشاركة فظلوا احتمالا غير يقيني واستمر المنع طيلة عمر الدولة. فهم حتى الآن في وضع الضحية التي يمكنها ترويج خطاب بريء.

لكن كيف نفهم ونفسر هذه الوضعية التي لم يفكر فيها ماركس الذي وصم كل دين بأنه أفيون مخدر لإرادة التحرر؟ لا جدوى من إجابة، فحالتنا تحتاج ماركسية جديدة أو نظرية جديدة لنفهم بها كيف يقف ماركسي متحرر من كل عقيدة محافظة مع رأسمالي محلي يشتغل مناولا عن شركات السياحة الدولية. ففي تونس جزء مهم من طبقة رأس المال هي جماعات تستثمر في الخدمات السياحية غير المنتجة لرأس مال وطني (بعض المستثمرين في السياحة يبنون مساجد لتطهير أموالهم). ولدينا علم بأن بعضها يتبنى جماعات يسارية ويمولها لتقوم بدور وصم الإسلاميين بالرجعية.

هذا الوضع الثقافي والسياسي والاقتصادي صنع المرحلة السياسية التي تعيشها تونس الآن ويمنع بالقوة الغاشمة تغيُّرها من الداخل، بما يثبت فكرتنا عن انعدام القدرة الذاتية للتغيير في انتظار بلوغ حالة الانحباس أقصاها ليتم توجيه من الخارج للقوى المحافظة فعلا لتغير جلدتها بخطاب تغيير وتحافظ على مواقعها/ مصالحها فعليا. وتمنع كل قوى التغيير الفعلية إسلامية أو غيرها من المشاركة الفعالة.

تونس تقدم حالة نموذجية/ مدرسية في شذوذها السياسي، فالتحديثيون العرب هم أشد القوى محافظة على وضع الدكتاتورية السياسة خادمة الغرب الرأسمالي المهيمن. إن قول ماركس عن الدين الأفيون ينطبق بشكل مدرسي على خطاب التحديث الذي تحول إلى دين جديد. بما يجعل الماركسيين العرب قساوسة بلا قلنسوات الرهبان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق