أيام المغسلة.. يوميات معتقل (3)
ماهر البنا
السجن نظام بيروقراطي احترافي تم تصميمه لهدف أساسي هو الفشل في تطبيق النظام نفسه.. هكذا يردد النشطاء المهتمون بدراسة أوضاع السجون وأحوال السجناء، فالشعار المعلن أن السجون مؤسسات للتهذيب والإصلاح، هو شعار مفضوح منذ البداية، فالواقع يقول إن السجون مؤسسات لتعليم الجريمة وتنشيطها، كما تلعب دور أندية الجريمة التي يتعارف فيها المجرمون الجنائيون ويجندون الكثير من العناصر الجديدة التي قادتها ظروف عارضة على السجن، ودمجهم في منظمات الجريمة، داخل السجون وخارجها..
ما يهمنا في هذا المقال ليس تتبع حالة السجون كمدارس لتعليم الجريمة، لكن محاولة فهم مقولة "الفشل المخطط لنظام السجون" التي اتخذ منها بعض القانونيين ونشطاء الإصلاح ركيزة لمحاولة تطوير السجون كمؤسسات علاجية تخدم المجتمع بدلا من التعامل معها كمؤسسات عقابية لتدمير حياة السجناء وقطع صلاتهم الودودة بالمجتمع..
المشكلة في تنفيذ هذا الهدف الرومانسي، هو أن السلطات السياسية التي تشيد السجون والسلطات الأمنية التي تديرها، تحاول طول الوقت أن تثبت أنها الأكثر اهتماما بذلك الهدف، فهي تخصص وقتا يتريض فيها النزلاء، وتنشيء لهم المكتبات، وتهتم بالرعية الصحية والعيادات الطبية متنوعة التخصصات، وتعين مصلحين نفسيين واجتماعيين ووعاظ دين، وتدرب السجناء على اكتساب حرف جديدة والعمل في ورش ومصانع صغيرة مقابل أجر يتم ادخاره للسجين وتسليمه له بعد الانتهاء من تنفيذ مدة حبسه، للاستعانة به في حياته الجديدة بعد تهذيبه!!..
كل هذا طبعا يتم تخطيطه وكتابته على الورق، وتخصص له الميزانيات المالية وعشرات المشرفين والمساعدين، بينما الحال في الواقع يكون مختلفا تماما..
وحتى لا نبتعد عن اهتمامنا بيوميات المعتقلين السياسيين، أوضح انهم محرومون في الغالب الأعظم من حق العمل، ويتم استبعادهم من حق التشغيل والتوظيف داخل السجن، وكثيرون منهم يتم حرمانهم من المكتبات وقراءة الصحف أو سماع الراديو، على عكس السجناء الجنائيين الذين يتمتعون بحياة فندقية حسب الامكانية المالية لكل سجين.
وفي هذا المقال أركز على تجربتي مع أول مؤسسة رعاية أنشأها سجن طرة لحماية النزلاء من عدوى فيروس كورونا، وأطلقوا عليها أسماء متعددة مثل: "عنبر الاستقبال" أو "العزل" أو "الإيراد"..
تم ترحيلي من النيابة إلى السجن فجرا في ليل شتوي ممطر وبارد جدا، استوقفني حراس السجن على الباب وتسلموا متعلقاتي من رجال أمن الدولة الذين أخلوا مسؤوليتهم مني ومن أشيائي، وبدأ الحرس في استعراض كل شيء لفرز ما يمكن السماح بدخوله معي من ملابس أو طعام أو أغراض أخرى، وإيداع المتعلقات الممنوع دخولها في الأمانات حتى يتسلمها الأهل في أول زيارة، وصدرت الأوامر بخلع كل ملابسي وأنا أقف في العراء على بوابة السجن، وعندما اعترضت واستنكرت أن يحدث ذلك في العراء في ظل الجو القارس، وعدم تجهيز غرفة لذلك سادت حالة من التنمر والغوغائية والحديث عن الأوامر والإجراءات النظامية للسجون، فقد يكون السجين مصابا بجرح أو جرب أو مشكلة صحية تؤذي السجناء في الداخل، أو يستخدمها زورا في اتهام السجن بأنه تسبب في ذلك، وتم إيقاظ الطبيب المناوب من نومه، ليكتب تقريره عن حالة النزيل الجديد ويسمح بدخوله أو بأي شيء آخر يراه، وجال بخاطري أن الطبيب قد يوبخ الحراس على إجبارهم للسجين على خلع ملابسه في العراء القارس، مما قد يؤدي إلى إصابته بالتهاب رئوي أو مشكلة صحية ما، لكن الطبيب لم يهتم بأي شيء من هذا ولم يستغرق أكثر من دقيقة في النظر لجسد السجين العاري الذي يرتعد في البرد، ثم أمر بتسليمه ملابس السجن لارتدائها بدلا من ملابسه التي تم احتجازها في "الأمانات".
كانت ملابس السجن عبارة عن بنطلون من القطن الأبيض الرقيق وقميص من نفس القماش مع قطعة أخرى المفترض أنه غطاء للرأس على شكل "كاب"، ملابس خفيفة رديئة الحياكة لا تناسب جو الشتاء، ولا تعكس أي اتقان أو اهتمام بتفصيل الملابس لبشر سيرتدونها بلاد بديل لفترات طويلة!
لم يتم تسليمي فرش أو بطانية للغطاء، وصدرت الأوامر بنقلي إلى العزل، حيث تقضي اللائحة الجديدة بعد انتشار فيروس كورونا بأن يقضي الوارد الجديد 15 يوما في غرفة العزل قبل توزيعه على الزنازين والعنابر المجهزة للإقامة الدائمة، حتى لا يكون مصابا بالفيروس ويؤدي اختلاطه بالسجناء على أزمة صحية يصعب السيطرة عليها..
تفهمت الحجج والتوضيحات والتعليمات التي كانت تصدر من أفواه كثيرة لا أعرف صفاتها، وتم اصطحابي إلى غرفة في الطابق الثاني من مبني العنابر، ولكنها منعزلة في جانب بعيد عنه، فتح الحراس الباب، فلم أجد في الغرفة أية تجهيزات لإقامة بشر، عدد قليل من السجناء يتكورون على بطانية مفروشة على أرضية من السيراميك البارد، ويغطون انفسهم ببطانية اخرى، وسجين آخر ينفرد بنفسه في زواية منفصلة وينام في وضع القرفصاء ويغطي قدميه وكتفيه ببطانية، ووعاء كبير من البلاستيك يستخدم للتبول لعدم وجود حمام بالغرفة، وبالغرفة نافذتان مغلقتان بقضبان حديدية وأسلاك معدنية، وصوت الهواء الداخل من الفتحات يصفر فيجلب معه المزيد من الإحساس بالبرودة..
وقفت مصدوما وحائرا بينما يغلق الحارس الباب ويذهب ليكمل نومه، لا يوجد مكان أنام فيه ولا أجلس إليه إلا السيراميك وقطعة كرتون في أحد أركان الغرفة!
بينما أنا واقف واجم حائر أفكر في الموقف، يرفع السجين المنفرد رأسه ببطء ويقول بالإنجليزية: "فاك إيجيبت"..
ازدادت صدمتي.. من هذا؟، وأين هي الاحتياطات الصحية التي اتخذتها إدارة السجن للحفاظ على المقيم وعلى الوارد؟
ورق ورق ورق... كلام كلام كلام
استيقظ سجين من كتلة اللحم التي تحتمي ببعضها في الركن الآخر من الغرفة:
هز زميله النائم يشخر بجواره: اصحي يا حبيب أخوك
ثم وجه كلامه لي وهو يفسح مكانا على البطانية: اتفضل هنا يا أستاذ؟.. أنت جاي في إيه؟
ـ سياسة
* استلمت بطاطين؟
ـ ولا أي حاجة
* ارتاح دلوقتي وهنبقى نشوف معاهم لما يغيروا النبطشية.. الساعة تمانية بيمشي الحارس اللي وصلك ويستلم واحد غيره نبقى نطلب منه فرش زيادة.
لاحظ السجين المضياف أن زميل العزل الأجنبي استيقظ من "نومة القرفصاء" فنظر ناحيته وهو يقول بأنجليزية شعبية: "جود مونينج ايريك"
رد إيريك بألفة: "مورنينج صقر"
ساد جو لطيف في "الاصطباحة" بعد استيقاظ حمام الشرقاوي وسيد ناهيا والمهندس عصام الذي كان يقوم بمهمة الترجمة والتواصل بين "ايريك" والشباب الشعبي الذي يدير غرفة العزل بمهارة ويتعامل بجرأة مع الحرس: يا عم حسين.. عاوزين ميه يا عم حسين.. يا عم حسين افتح بقى عاوزين ندخل الحمام.. افتح بقى يا جدع ما جتش على نص ساعة.. افتح بطني بتتقطع..
كان صقر العرباوي الأعلى صوتا والأسرع في كل شيء، وبين الحين والآخر كان يوجه كلامه لإيريك قائلا: "فاك ايجيبت"
فيرد عليه ايريك وهو يضحك: ييس.. فاك ايجيبت
وعلمت منهم أن الشاب الأبيض جنوب أفريقي اسمه "ايريك جاير"، وقد تم ضبطه في مطار القاهرة وبحوزته كمية من الكوكايين تقترب من كيلوجرامين..
لم أستطع النوم بعد استيقاظ الجميع وبداية الحركة في السجن والاستعداد للإفطار وبرنامج اليوم الذي لا أعرف عنه شيئا، والمؤسف بشدة أن سيارة الترحيلات، ستأتي قبل العاشرة لإعادتي على النيابة لاستكمال التحقيق..
قضيت أياما منهكة في غرفة العزل، استهلكت مناعتي وأرهقت عضلات الظهر والفقرات، فلم أعد أقوى على الوقوف ولا المشي إلا بدعم من الشباب الذي أظهر تعاونا وقوة في تسيير الأيام الأولى الصعبة في السجن.
في اليوم الثالث جاءت سيارة الترحيلات ونادى الحرس على اسمي للخروج، فقلت للأولاد: لن أخرج.. لا استطيع الوقوف على قدمي.
قالوا: عاوز تتعذر؟
عرفت أنه يمكن الاعتذار عن حضور جلسة التحقيق إذا وافق مأمور السجن، وكتب أن هناك عذر يمنع حضور المتهم.
أبلغنا الحرس بذلك، فعادوا وقالوا، مفيش اعتذار البس واخرج.. المأمور في إجازة ولازم تروح معاهم
قلت: مش هروح.. مش قادر امشي هتاخدوني بالعافية؟
قال الحارس بلهجة حريصة مخليا مسؤوليته الضميرية: ما أضمنش إيه اللي ممكن يحصل يا أستاذ، مرة أحمد دومة عمل زيك كده.. وأكل علقة معتبرة وشالوه هيلا بيلا على المحكمة.
أقنعني الشباب بالتحامل على نفسي والذهاب للتحقيق وإبلاغ وكيل النيابة بحالتي الصحية، وطلب تأجيل التحقيقات، والتحويل للمستشفى أو العيادة الداخلية للعلاج..
فعلت ما نصحني به الشباب، وبالفعل كتب وكيل النيابة طلبا لإدارة السجن بعلاج المتهم، وتوقعت أن أذهب على المستشفى أو يعالجني طبيب السجن بمسكنات أو أي شيء يساعد في تخفيف الألم، ولم يحدث أي شيء لمدة يومين، والمفترض انني أذهب في اليوم الثالث لجلسة التحقيق..
بدأت أتعلم أول دروس السجن: لا وعود تتحقق.. لا تتفاءل بأي عناوبن أو شعارات أو كلام مبشر.. كل شيء ينتهي إلى لا شيء..
وعرفت أن غرفة العزل التي قصمت ظهري، غير مخصصة في الأساس لإقامة أي إنسان.. أرضية من السيراميك ونوافذ مفتوحة على الفناء، ولا يوجد صنبور ماء ولا حمام، وأنها في الأصل كانت مخصصة لغسل ملابس الحرس والإدارة، فلما قررت الدولة اتباع معايير منظمة الصحة العالمية واتخاذ احتياطات لعدم انتشار الفيروس، صدرت التعليمات بتطبيق بروتوكول العزل، لفصل الوارد عن النزلاء مدة حضانة الفيروس التي تقدر بأسبوعين تظهر خلالهما الأعراض، وتم التنفيذ دون أي مراعاة لتحقيق الهدف، فقط تنفيذ التعليمات على الورق وليذهب السجناء إلى الجحيم..
هكذا يفكرون ويخططون وينفذون لتطبيق "نظام تم تصميمه ليفشل"، وندفع نحن ثمن الفشل في كل المجالات والأحوال، وليس في السجون فقط..
في المقال المقبل نواصل يوميات السجن..
maher21arabi@gmail.com
لغز زجاجة الماء.. يوميات معتقل (2)
انت جيت هنا ليه؟.. يوميات معتقل (4)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق