تحرير حلب وانتصارات الشعب السوري
عامر عبد المنعملم يكن أحد يتصور أن تتجمد الجيوش التي تحتل سوريا وتتساقط المليشيات التي تدافع عن بشار الأسد بهذه السرعة، ففي ساعات قليلة دخلت قوات المعارضة السورية مدينة حلب، واندفعت جحافل السوريين بقوة لفتح المدن الواحدة بعد الأخرى، وخلال أيام قليلة تغيرت الخريطة والأوضاع على الأرض، وأربكت الانتصارات المتتالية كل الحسابات، وأصابت صناع القرار في الدول المتورطة في الملف السوري بالحيرة، وجعلتهم يتابعون في ذهول تحركات المقاتلين السوريين التي فاجأت الجميع.
طوال 13 عاما تعرَّض الشعب السوري للإبادة على يد نظام حكم متسلط، رفض الرحيل أو الاستجابة للتغيير، وقرر الانتقام من الشعب بالقتل والتهجير، وكان يلقي البراميل المتفجرة بلا رحمة على المدن التي تشتعل بها الثورة؛ الأمر الذي تسبَّب في الخراب وتحويل الملايين إلى لاجئين في دول العالم، وغرقى في البحر، ونازحين ينتقلون من مدينة إلى أخرى، حتى حُشر من تبقى في إدلب.
عندما عجز النظام السوري عن الصمود أمام الثورة السلمية، وكاد بشار يسقط، وجدت القوى الدولية والإقليمية الطامعة فرصتها لدخول سوريا، واحتلت الجيوش الأجنبية أرض السوريين ثم اقتسمتها بالقوة العسكرية، ولأن الشعب الثائر رفض الاستسلام؛ قررت دول الاحتلال التخلص من أصحاب الأرض بإخلاء المدن والقرى بالقصف الجوي الإجرامي، وتدمير أسباب الحياة مثل محطات المياه والكهرباء والمستشفيات والمدارس ومقار الخدمة المدنية.
وقف الشعب السوري وحيدا في مواجهة طيف واسع من القوى الغازية، يضم الجيش الأمريكي ومعه جيوش أوروبية تحتل شرق سوريا، والروس الذين أنشؤوا قاعدة بحرية لأسطولهم على الساحل، وجلبوا الآلاف من جنودهم وانتشروا في أنحاء البلاد، واستخدموا سلاح الجو المتطور في التدمير كما فعلوا في غروزني، وأدخل الإيرانيون الحرس الثوري وحزب الله ومجموعات تابعة من العراق وباكستان وأفغانستان، والعجيب أنه رغم الخلافات بين هذه الدول فإن التفاهمات بينها جعلتها تتعايش بدون صدام.
تصادم الاستراتيجيات
منذ اشتعال الحرب في أوكرانيا ثم الضربة الكبرى للاحتلال الإسرائيلي في طوفان الأقصى بدأت ملامح التصدع في النظام الدولي بالظهور، فالحسابات تغيرت، كما أن التحالفات تغيرت، فالصراع بين الولايات المتحدة وروسيا تصاعد وازداد سخونة، وهناك تقديرات بأن الصدام النووي بين الدولتين لم يعد مستبعدا، وهذا الصراع وإن كان بالأساس بسبب أوكرانيا فإن سوريا في القلب منه، كما أن العداء بين الأمريكيين والإيرانيين بسبب “إسرائيل” وضع نهاية للتعايش بينهما في سوريا.
بالنسبة لتركيا فإنها تواجه تهديدا لا تحتمله، وهو الدعم الأمريكي والروسي للانفصاليين الأكراد، وتمكين حزب العمال الكردستاني وحركة الحماية الكردية من فرض إدارة للحكم الذاتي في الشمال السوري، وتشجيع النزعة الانفصالية والتمرد داخل تركيا، إضافة إلى ما تتسبب فيه عمليات القصف الروسي وطائرات بشار من تدفق المزيد من اللاجئين إلى الداخل التركي.
تُعَد تركيا الطرف الوحيد الذي يعمل لصالح الشعب السوري، ليس فقط بدافع الدين، وإن كان هذا دافعا أساسيا، ولكن لأن في ذلك مصلحة استراتيجية، فكل الموجودين على الأرض معادين لها ويشاركون في تطويق الأتراك من الجنوب، وكلهم يدعمون الحزام الكردي الانفصالي الذي يهدد الدولة التركية، ولهذا تتفق الأطراف رغم ما بينها من خلافات وصراعات ضد تركيا.
المعارضة السورية تستعيد زمام المبادرة
عندما قامت المعارضة السورية بهجومها لتحرير حلب، كان لديها الدافع الذاتي لاستعادة الأرض وإعادة ملايين المهجَّرين والنازحين إلى بيوتهم، وليس لخدمة استراتيجيات دولة أخرى، فقد قتل بشار والجيوش الأجنبية منذ عام 2011 نحو مليون سوري، وطردوا ما يقرب من 10 ملايين، وعندما قرأ السوريون ما يجري من تحولات وتصادم الاستراتيجيات، قرروا انتهاز الفرصة وضرب ضربتهم التي انتظروها لأكثر من عقد من المجازر والفظائع.
حلب التي كانت بداية التحرير هي ثانية كبرى المدن في سوريا، وقد هجرها الملايين منذ سنوات بسبب القصف الجوي الذي أجبر معظم سكانها على الهروب من الموت وجحيم القنابل، فالذين حملوا السلاح وعادوا إلى بيوتهم فاتحين هم الجيل الذي نجا من القتل، ومنهم مَن كان صغيرا عندما اغتالوا والديه وأسرته وطردوه من بيته.
بالتأكيد هناك دول يغضبها ما حدث لما يترتب عليه من نتائج تؤدي إلى الخروج من سوريا، مثل روسيا وإيران. وهناك من يشعرون بالقلق مثل الإسرائيليين الذين يزعجهم نوعية المقاتلين المنتصرين وتوجهاتهم الإسلامية، ويهددون بضرب ما يزعمون أنها “أسلحة نوعية” قد تقع في أيدي الثائرين. وهناك دول تشعر ببعض الارتياح مثل أمريكا لأن الإيرانيين أول الخاسرين، لكنها تخشى القضاء على مشروعها الكردي الانفصالي. وتُعَد تركيا أكبر الرابحين، فالأتراك سيتخلصون من التهديد الكردي الذي لم تستطع القضاء عليه بسبب تكتل المتصارعين ضدها، وستحل مشكلة ملايين اللاجئين الذين يعيشون في تركيا.
ليس أمام الدول التي تحتل سوريا الكثير
المتغير الجديد الحاسم في سوريا هو عودة الشعب المهجَّر والمطارد، وانتزاع زمام المبادرة، وهذه المرة استوعب السوريون الدروس، فتخلصوا من الانقسام الذي كانت تعتاش عليه دول الاحتلال، فتوحدوا وتركوا المسميات والشعارات القديمة وراءهم، وتحركوا تحت راية واحدة هي علم الاستقلال، وحددوا هدفهم وهو تحرير بلدهم من كل المحتلين والنظام الفاسد الذي استدعاهم ومنحهم الشرعية الزائفة.
الأمريكيون يحتلون شرق الفرات ويسيطرون على آبار النفط، وينفقون من الثروات السورية المسروقة على قواتهم وعلى الكيان الكردي الانفصالي، هم الآن يخشون أن يكونوا الهدف التالي للمعارضة، بعد أن استولت على كميات هائلة من الأسلحة التي تركتها مليشيات النظام وهربت، خاصة أن أغلبية السوريين في شرق الفرات من العرب الذين جرى إخضاعهم بالقوة، بتسليح مليشيات الأقلية الكردية (قسد) لتحكمهم بغطاء جوي أمريكي.
الروس تعرَّضوا لصدمة، ويبدو أن بوتين لم يتدخل بسلاح الجو الذي اعتاد استخدامه حتى لا يخسر كل شيء، خاصة القاعدة البحرية الوحيدة في البحر المتوسط، فالرئيس الروسي إذا قرر التدخل فسيدفع الثمن غاليا، وستكون خسارته في سوريا ضربة موجعة ليست في صالح صراعه مع حلف شمال الأطلسي (الناتو) في أوكرانيا، لذلك فإن السيناريو المنطقي أنه سيطلب من أردوغان التوسط للتعاون والبحث عن اتفاق مع المعارضة.
أما الإيرانيون فسيتوقف مشروعهم بمد خط ديموغرافي من العراق حتى الساحل السوري، وأمامهم فرصة تاريخية -إن اقتنصوها- بإعلان الانسحاب من سوريا وتصحيح الأخطاء الاستراتيجية ذات البعد الطائفي، خاصة بعد موقفهم من دعم الفلسطينيين الذي حظي بتقدير قطاعات واسعة في العالمَين العربي والإسلامي، والذي يقتضي البناء عليه بتعديل السياسة الإيرانية بما يصب في صالح التقريب الحقيقي في مواجهة التحديات المتنامية.
أيّا كانت مواقف الدول التي أرسلت جيوشها إلى سوريا، فإن الشعب السوري الذي صهرته المحنة انطلق كالإعصار، يريد استعادة دولته، وسيزيح كل من يقف أمامه، وهو الذي سيعيد رسم خريطة الشام، فالأرض لأهلها وليست للغرباء، ومن لا يستوعب حجم التغيير الجاري اليوم، ويرفض الخروج السريع قبل فوات الأوان، فعليه أن ينتظر الريح العاتية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق