الجمعة، 6 ديسمبر 2024

ما بعد الطوفان .

 

ما بعد الطوفان


إذًا نحن أمام تحالف أمريكي صلب مع الدول الأوروبية الرئيسية (بريطانيا وفرنسا وألمانيا) يوضّحه استفرادهم في ملف وقف إطلاق النار في لبنان، أو بالأحرى إعادة التحكم في لبنان، وهو لا شك يُؤرّق الأتراك والروس؛ فكلاهما مُستبعَدان.


تشهد المنطقة حاليًّا، ومن بداية طوفان الأقصى، ملامح ولادة جديدة يصاحبها احتضار الشيخ الهرم الذي تجاوز المئة عام، ولم يبقَ لإعلان موته سوى سقوط العصا التي يتكئ عليها؛ فالمنطقة كلها هي نتاج انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، وما تلاه من إسقاط الدولة العثمانية وتفتيتها، وتقاسم أجزائها؛ فالجمهورية التركية الأتاتوركية التابعة للغرب هي ما تبقَّى من الدولة.

وأما العراق وبلاد الشام فتم تقاسمها بين بريطانيا التي كانت عظمى، وحليفتها فرنسا، وتم تشكيل العراق من عدة ولايات عثمانية، تضم ولايتي البصرة وبغداد أساسًا، وما عداهما من مناطق مثل ما يسمى حاليًّا كردستان العراق والموصل وكركوك؛ فهي مناطق مُلحَقة بتفاهمات بين الإنجليز وجمهورية أتاتورك.

ومثلها سوريا، فشمالها وجنوب تركيا تقاسمه الفرنسيون والأتراك وفق تفاهمات يشوبها كثير من الإشكالات؛ فسوريا تُطالب بلواء الإسكندرونة، وتركيا تطالب بحلب.

وبقي ثلاثة كيانات؛ فلبنان اقتُطِعَ ليكون وطنًا للموارنة، وما يزال تحت رعاية فرنسا المتراجعة على الساحة الدولية، وبقيت فلسطين التي نفَّذ فيها الإنجليز مشروع توطين اليهود وإقامة دولتهم من الألف إلى الياء، وكذلك شرق الأردن الذي أُقيمت فيه إمارة شرق الأردن، وتم إعطاؤها لقائد الجيش الهاشمي المهزوم لتكون بديلاً عن المملكة العربية الكبرى التي كان يحلم بها أبوه الشريف حسين.

نعم، لقد تهاوى هذا الكيان فقد تجاوز عمره الافتراضي، وتولَّت أمريكا بنفسها ما تُسمّيه الهدم وإعادة البناء؛ فنحن أمام مشروع كردستان الكبرى الذي يشمل أجزاء كبيرة من تركيا والعراق وإيران وسوريا، ينفذ برعاية أمريكية مباشرة، وكذلك نُلاحظ تسهيل الغرب لمشروع إستراتيجي، وهو ما يسمى بالهلال الشيعي الذي يمتدّ من إيران والعراق إلى البحر الأبيض المتوسط، مرورًا بحلب، ويُنفذ إيرانيًّا بمظلة أمريكية؛ ليكون منطقة عازلة تقسم السُّنة في المنطقة إلى قسمين، ويمنع تواصل تركيا مع السُّنة جنوبًا؛ حيث ينفذ المخطط الكبير، وهو ما أطلق عليه نتنياهو «الشرق الأوسط الجديد»؛ القائم على انطلاق العدو في مرحلة جديدة عنوانها التحول من قوة رادعة إلى قوة مهيمنة في المنطقة.

وكان من الثقة بقرب تحقق المشروع بحيث تكرَّر منه رفع خرائط المنطقة، وتقسيمها إلى مناطق خضراء، وأخرى سوداء، وقال: «إن العالم يجب أن يختار بين «النعمة» و«اللعنة». واللافت أن الخرائط تُدْخِل الضفة والقطاع ضمن كيانه، وأيضًا فإن المنطقة الخضراء تشمل مصر والسودان والأردن وجزيرة العرب ما عدا اليمن.

ولا يخفى هنا على أهل السياسة أن المُعلَن هو المُتحقّق، وأما المأمول فيبقى مُعلنًا على ألسنة الصحفيين والباحثين؛ فهناك مَن يُدْخِل لبنان وسوريا وأجزاء من الأناضول ضمن "إسرائيل" الكبرى؛ فمن ناحية قتل الباحث في الآثار اليهودية زئيف (جابو) أرليخ، البالغ من العمر 71 عامًا، وهو كما قال وزير التراث الوزير المتطرف، عمحاي إلياهو، في منشور عبر منصة «إكس»«لقد اختار أرليخ الوقوف في لبنان والقتال من أجل المستقبل، كما كان يقاتل من أجل الماضي دون مساومة».

وأما هدف التمدُّد شمالاً فقد تكررت التصريحات التركية بخطورة المشروع ال"إسرائيل"ي على تركيا؛ حيث أكَّد أردوغان أن "إسرائيل"، بسبب أحلامها بتحقيق «أرض الميعاد»، تُمثِّل تهديدًا لتركيا، وحذَّر من خطورة احتلال "إسرائيل" لدمشق، وتم بحث هذه التهديدات في جلسات لمجلس النواب في عملية تهيئة شعبية لاحتمال الدخول في صراع، وحتى ذكر أحد الصحفيين القريبين من السلطة أن الحرب قادمة، وأن الدول التي لا تستعدّ لها سوف تختفي.

ومن هنا نفهم التوتر التركي من تطوُّر الأحداث في غزة ولبنان الذي جمع بين الاندفاع الأمريكي والأوروبي في رعاية الكيان، وتأمين الغطاء له؛ فمن يستخدم حق النقض ضد قرار لوقف حرب الإبادة في غزة هو نفسه الذي يفتخر بنجاحه في فرض إيقاف إطلاق النار في لبنان؛ خدمةً لـ "إسرائيل"!!

والتردد التركي الشديد في اتخاذ خطوات عملية تتجاوز التهديد والوعيد التي قد يكون سببه عدم وضوح الموقف الروسي من الأحداث، ومدى إمكانية وكيفية انخراطها العلني في الأحداث؛ فالروس وجودهم مبنيّ على تفاهم مع أمريكا، وطلب من النظام بواسطة إيران (سليماني)؛ لتقديم الدعم اللازم لإنقاذ النظام، وكان ثمن المساعدة هو بَسْط الروس السيطرة الفعلية على الساحل ودمشق، وصولاً إلى درعا في الجنوب، وكل هذا قبل دخول الروس في مشروع تعدُّد الأقطاب، وما تلاه من سحبهم إلى المستنقع الأوكراني.

والذي يهمّنا حاليًّا من الموقف الروسي هو تأثير التغيرات الحاصلة، فوجود الروس كان قائمًا على رغبة أمريكية لم تَعُد موجودة، وكذلك على تقارب مع إيران وتركيا، والتنسيق في إدارة الأزمة السورية واتفاقية خفض التصعيد الثلاثية التي تم التغاضي عنها مِن قِبَل إيران، واستمرت اللقاءات بين أردوغان وبوتين، ولم يعد الرئيس الإيراني يظهر في الصورة، وهو نتيجة أحد احتمالين؛ إما رغبة إيرانية بالتنصل من الاتفاقات أو ابتعاد خط الرئيسين عن الخط الإيراني الذي يعتمد في تمدُّده وبقائه على تحالف إستراتيجي مع الغرب بقي صامدًا حتى الآن؛ على الرغم من الاحتكاك العنيف مع "إسرائيل". ويؤكده حرص أمريكا على عدم خروج الاختلاف الإسرائيلي الإيراني عن السيطرة، مما يعني فقد أحدهما، وهو بالطبع إيران التي قد تضطر للارتماء في أحضان الصين وروسيا، وهو ما يمثل خسارة إستراتيجية للغرب.

إذًا نحن أمام تحالف أمريكي صلب مع الدول الأوروبية الرئيسية (بريطانيا وفرنسا وألمانيا) يوضّحه استفرادهم في ملف وقف إطلاق النار في لبنان، أو بالأحرى إعادة التحكم في لبنان، وهو لا شك يُؤرّق الأتراك والروس؛ فكلاهما مُستبعَدان.

يُضاف إليه موضوع حساس آخر، وهو التقارب بين الأسد والدول العربية القريبة من أمريكا؛ مما يعني احتمالية جرّ سوريا إلى ما يمكن تسميته محور التطبيع الذي يُضاف إليه تشدُّد الأسد في رفض الحوار مع تركيا قبل سحب قواتها رغم الوساطة الروسية، وهو ما يعني انهيار اتفاقية خفض التصيد، واستمرار عمليات القصف في الشمال مِن قِبَل قوات الأسد والميليشيات التابعة لإيران، ولذا فقد سمحت تركيا لقوى المعارضة في الشمال بتنفيذ عملية للدخول إلى حلب، وهي عملية مُعلَنة منذ فترة، ولكنَّ تنفيذها كان مفاجئًا، وكذلك نجاحها أيضًا كان مفاجئًا، ولم تستطيع تركيا التنصُّل من دعمها للعملية، ولذا أعلنت دعمها لعملية محدودة للوصول إلى الحدود المتفق عليها مع روسيا وإيران.

ولكنّ الحقيقة أن القراءة المتأنية لمسار العمليات يوضح ما يلي:

أولاً: العملية مكوَّنة من شقين بقيادتين منفصلتين؛ فواحدة سُمِّيت عملية «رد العدوان»، وتزعمتها تحرير الشام بقيادة الجولاني، وهي التي كانت تسمى «النصرة»، وكذلك «فتح الشام»، ومعها مجموعة من بقايا حركات الثوار التي حُجِّمَت وابتلاعها مِن قِبَل جماعة الجولاني، وقد نجحت هذه المجموعات بسرعة في تطهير محافظة إدلب، والوصول إلى حلب، والسيطرة على معظمها، ومِن ثَمَّ اتجهت جنوبًا صوب حماة وحمص. وأما الأخرى فسُمِّيت العملية بـ«فجر الحرية»، أطلقها الجيش الوطني المدعوم من تركيا، وركَّزت على العمل بين حلب والحدود التركية، وطرد الأحزاب الكردية المسلحة من هذه المناطق.

ثانيًا: كان الهدف المشترك للمجموعتين هو أخذ حلب من إيران، وتحطيم الهلال الشيعي. وأما الأهداف الأخرى فمواجهة المسلحين الأكراد همٌّ تُركيّ، وأملُ إسقاط النظام همُّ مجموعات الثوار التي تحتاج إلى الكثير من التخطيط والتأني، وعدم التمدد السريع غير المنضبط؛ حتى لا تتعرَّض لنكسات مؤلمة.

ثالثًا: من الواضح تخبُّط إيران، فمع إعلانها دعم الأسد، فإنها تحاول التفاوض مع تركيا، وأما الأسد فهو يُعوِّل كثيرًا على الدعم العسكري الروسي الذي مع مشاركته في عمليات قصف محدودة، فإن إعادة تسليح جيش النظام يبدو صعبًا في الأوضاع الحالية، فمثلاً مشكلة الذخيرة أصبحت عالمية مع استنزاف المخزونات في حربي غزة وأوكرانيا.

رابعًا: يمكن أن نُسمِّي العمليات الجارية بسوريا بالطوفان الثاني، والتي إن كانت قد أخرجت النظام من حلب، وصدمت الأكراد؛ فإنه مِن المُستبعَد أن تُسْقِط النظام الذي سيضطر إلى التفاوض مع الروس والأتراك على أُسُس تعامل جديدة.

وفي الختام؛ فإن الأحداث لا شك أنها تُمثِّل نقلة كبيرة في الملف السوري، ولم يكن ممكنًا هذا العمل بدون ما جرى في غزة الصامدة ولبنان، والذي أراه من ردود أفعال الدول أنها حذرة جدًّا من التورط؛ فالاختراق قد تم في موضوع الهلال الشيعي، والمسمار قد دُقَّ في نعش كردستان الكبرى، ومع استمرار حرب غزة وتطاولها، ووصول جيش يهود إلى مرحلة الإنهاك؛ فنحن مقبلون على محاولة الوصول إلى هدنة، فموافقة نتنياهو على هدنة مع حزب الله يزيد الضغط الداخلي عليه لقبول هدنة لإطلاق الأسرى.

وقراءة بيان حماس حول وقف إطلاق النار في لبنان؛ تُوضِّح ثبات الحركة، واطمئنانها للمستقبل؛ فمسار الأحداث، واحتمال تمدُّد الصراع في سوريا ليشمل العراق، مع تهديد الجيش العراقي بالتدخل؛ يُوجِب إيقاف الحروب في المنطقة قبل وصولها إلى مرحلة اللاعودة، وفقدان الغرب للسيطرة، وعدم قدرته على التحكم؛ فانهيار الهلال الشيعي يجعل مناطق النفوذ التركي تحاذي ما يراه الغرب واليهود منطقة نفوذهم وهيمنتهم، وهو وضع خَطِر جدًّا.

نسأل الله تعالى أن يُهيِّئ لهذه الأمة أمرًا رشدًا؛ فإنه إذا أراد الله أمرًا هيَّأ أسبابه، وصدق الله القائل في كتابه العزيز:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [سورة يس: 82].


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق