لماذا لا يجب أن تدير ظهرك لغزة؟
منذ أكثر من 10 أشهر يتابع العالم حرب إبادة من شاشة صغيرة، أخبار عاجلة، صور تتبدل بسرعة قادمة من غزة، تلك الأرض الصغيرة المحاصرة، التي أصبحت مركز حديث العالم، ليس لأن العالم تحرك لنجدتها. بل لأن الصور كانت أكثر حدة، والدماء أكثر وضوحًا. تلك الصور لم تعد تتلاشى بمجرد تغيير القناة، بل اعتقد أن صارت عالقة في أذهان الكثيرين كوشمٍ لا يمحى.
أعود لغرفتي كل يوم في المساء بعد يوم طويل، وأحاول أن أسأل: أين العالم من كل هذا؟ أين ما تعلمناه في المدارس والمؤتمرات عن التضامن الإنساني؟ ذلك المفهوم الذي كان دائما ما يؤكده معلمونا أنه ليس مجرد فعل نبيل، بل ضرورة حتمية لاستمرار الحياة على هذا الكوكب. فالتضامن هو القاعدة التي توازن بين قوى الخير والشر في هذا العالم، وهو الحبل الذي يتشبث به من يشعر بالألم والحزن، ومن يعاني من الظلم والقهر. لكن هل حقًا نحن ندرك هذه الحقيقة؟ أم أننا مجرد متفرجين عاجزين عن الفعل، نكتفي بالتحديق في الشاشة ونندب حظنا لأننا لا نملك القوة لتغيير شيء؟
عندما أفكر في غزة، أتذكر أن هذه البقعة الصغيرة من الأرض ليست مجرد نزاع سياسي. إنها رمزٌ للصمود والكرامة في وجه الظلم، وهي أيضًا اختبار لقيمنا الإنسانية. فغزة ليست مجرد عنوان في الأخبار، إنها مأساة إنسانية بامتياز، مليئة بالتضحيات والآلام والأحلام الموءودة.
فالاحتلال الإسرائيلي ليس مجرد قوة عسكرية أو سياسية، بل هو رمز للوحشية التي لا تخطئها العين في كل لحظة ينتزع فيها حياة بريئة. في كل مرة يهدم فيها منازل الفلسطينيين أصحاب الأرض، ويسلب فيها حياة عائلات بأكملها، أمام أعيننا وكأنه يتحدى العالم بأكمله، بتدمير أي معاني عن الإنسانية، هادماً أجساد الفلسطينيين وكل شئ عرفته البشرية عن القيم والأخلاق.
يرى إريك فروم، الفيلسوف وعالم النفس الاجتماعي، أن الحب هو الرابط الأساسي الذي يجمع البشر ويمنحهم القدرة على العيش معًا بسلام. هذا الحب لا يقتصر على العلاقات الشخصية، بل يمتد ليشمل كل جوانب الحياة، بما في ذلك التضامن مع الآخرين في أوقات الشدة. الحب، بالنسبة لفروم، هو القدرة على رؤية الآخر كجزء من الذات، وهو ما يجعلنا نتحرك لمساعدة الآخر.
إذا نظرنا إلى ما يحدث في غزة من منظور فروم، سنجد أن التضامن مع هذا الشعب هو نوع من الحب الإنساني العميق الضروري لاستمرار الحياة بشكلها الذي نعرفه، فإدراكنا بأن معاناتهم هي معاناتنا، وأن صمودهم هو صمودنا جميعًا، سندرك أن مساندتنا لهم ليست مجرد مساعدة شعب مضطهد، بل هي سعي للمحافظة على إنسانيتنا والقيم الأساسية للتعايش.
لذلك، يستمر الاحتلال في ارتكاب المجازر في غزة سعياً منه لترسيخ مشهد الظلم والمجازر في عقولنا كمشهد عادي يحدث فليس بالأمر الكبير عندما يحدث ضد الضعفاء، فنفقد كبشر قدرتنا على الحب بمعناه العميق شيئا فشيئا، و نستبدلناها باللامبالاة والتخاذل.
حينها يصبح هذا لتخاذل ليس مجرد موقف سياسي، بل هو جريمة أخلاقية بحق أنفسنا قبل أن يكون بحق الآخرين. إنه دليل على أن الإنسانية بدأت تفقد قدرتها على التعاطف، وأن القسوة بدأت تتسلل إلى عالمنا دون أن ندرك.
مرَّت أكثر من عشرة شهور منذ أن بدأت المجازر في غزة، والعالم ما زال يشاهد بصمت. لقد كنا نعتقد أن قصص الإبادة الجماعية التي نُقلت إلينا عبر التاريخ كانت شيئًا من الماضي، بعيدة عنا جغرافيًا وزمانيًا. كنا نتساءل كيف يمكن لشعب أن يبيد شعبًا آخر دون أن يتحرك العالم لإيقافه. لكن اليوم، ونحن نرى الدعم العسكري الهائل الذي تقدمه الإمبراطورية الأمريكية لإسرائيل في إبادة شعب محاصر منذ أكثر من عقد، ندرك أن الوحشية لم تكن يومًا جزءًا من الماضي، بل هي جزء من حاضرنا أيضًا.
هذه الإمبراطورية، التي تمتلك من القوة ما يمكنها من فرض إرادتها على العالم بأسره، لا ترى في غزة سوى فرصة لإثبات قوتها وهيمنتها. وفي هذه اللحظة التاريخية، يقف العالم متفرجًا، يدير ظهره، وكأن ما يحدث في غزة لا يمسه ولا يخصه. لكن الحقيقة المريرة هي أن صمت العالم هو إذعان من البشر لتقبل وحشية العالم وتصدر القوة بدلاً من القيم.
إن ما يحدث في غزة ليس مجرد اختبار لقوة المقاومة الفلسطينية، بل هو اختبار للإنسانية جمعاء. إنه امتحان لقدرتنا على الحفاظ على قيمنا وأخلاقنا في وجه القسوة والظلم. إذا فشلنا في هذا الاختبار، إذا سمحنا للعالم بأن يدير ظهره لغزة، فإننا بذلك نسمح للعالم بأن يتخلى عن إنسانيته.
إريك فروم كان يرى أن الإنسان بدون حب، بدون قدرة على التضامن مع الآخرين، يفقد قدرته على العيش كإنسان. وهذا ما نراه يحدث أمام أعيننا اليوم. إن الصمت الدولي أمام ما يحدث في غزة ليس فقط دليلًا على اللامبالاة، بل هو إشارة إلى أن الإنسانية بدأت تفقد بوصلة قيمها. إذا استمر هذا الصمت، فإن حروب الإبادة ستصبح أمرًا معتادًا، وستتآكل القيم الإنسانية حتى لا يبقى منها شيء.
في النهاية، يبقى لنا أن نتذكر أن غزة ليست مجرد ضحية، بل هي رمز للكرامة والصمود. شعب غزة لا ينتظر شفقة العالم، بل ينتظر دعمه وتضامنه. هؤلاء الذين يعيشون تحت الحصار والقصف اليومي يعلمون أن العالم ربما تخلى عنهم، لكنهم لم يتخلوا عن أنفسهم. إنهم يقاومون لأنهم يؤمنون بأن الكرامة لا تُمنح، بل تُنتزع. هذه الكرامة هي ما يجعلهم يقفون في وجه قوى الاحتلال بلا تردد، وهي ما يجعلهم يستمرون في الحياة رغم كل الصعوبات.
إذا كان للعالم أن يستيقظ من غفوته، فعليه أن يدرك أن التضامن مع غزة ليس مجرد فعل سياسي، بل هو فعل أخلاقي وإنساني. هو اختبار لإرادتنا في الحفاظ على ما تبقى من قيمنا وأخلاقنا. غزة، التي تبدو صغيرة على الخريطة، هي في الحقيقة مركز الإنسانية اليوم.
عندما نتضامن مع غزة، نحن لا نقف فقط ضد الظلم فقط، بل نقف مع أنفسنا، مع قدرتنا على الحب، على التضامن، على أن نكون بشرًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق