بعد التظاهر بحب الديمقراطية، أمريكا تعود لتدعم طغاة مصر
جلين جرينوالد
صحفي أمريكي ومحامي دستوري ومؤلف عدد من أكثر الكتب مبيعا في السياسة والقانون
ترجمة وتحرير نون بوست
من الصعب للغاية اختيار إحدى الحلقات الأكثر تطرفا في مسلسل الدعاية المضللة الذي تتبناه وسائل الإعلام الأمريكية، لكن إذا اضطررنا أن نختار، فإن التغطية الأمريكية للثورة المصرية ومظاهرات ميدان التحرير في فبراير 2011 ستكون مثالا ممتازا.
لأسابيع، انحازت وسائل الإعلام الأمريكية بشكل علني للمتظاهرين، وصورت الاضطرابان كأنها معركة عظيمة بين الطاغية حسني مبارك، وجحافل من المصريين المقهورين الذين يتوقون للديمقراطية والحرية على الطريقة الأمريكية.
هذه المسرحية التي عرضتها وسائل الإعلام الأمريكية لم تتضمن الحقيقة غير السارة بأن مبارك كان واحدا من أقرب الحلفاء للإدارة الأمريكية على مدار ثلاث عقود من الحكم الحديدي، تم تمكينه خلالها من القتل والتعذيب والاحتجاز، بطرق متعددة من الدعم الأمريكي.
طوال فترة حكم مبارك، غذت واشنطن نظام القاهرة بما يقارب 2 مليار دولار سنويا، معظمها كانت مساعدات عسكرية، وقنابل غاز مسيل للدموع، وأسلحة استخدمتها الشرطة ضد المتظاهرين وكُتب عليها “صُنع في الولايات المتحدة” .
في برقية دبلوماسية أُرسلت عام 2009 ونشرتها ويكيليكس قال الدبلوماسيون الأمريكيون في القاهرة إن “حقوق الإنسان والحريات في مصر تعيش أوضاعا حرجة” لكن البرقية أكدت على فوائد استمرار نظام مبارك ودعمه، حيث أن “مصر لا تزال تعيش في سلام مع إسرائيل، والجيش الأمريكي يتمتع بأولوية الدخول في المجال الجوي المصري وقناة السويس”.
برقية أخرى كانت أكثر وضوحا وقالت إن “المصريين على استعداد أن يواجهوا إيران وأن يعملوا بقرب أكثر مع إسرائيل”.
خلال العام نفسه، أعلنت هيلاري كلينتون أنها ترى “الرئيس مبارك وحرمه من أصدقاء العائلة”.
ويكيليكس نشرت برقية أخرى تتحدث عن أول اجتماع متوقع بين أوباما ومبارك في 2009، حيث أكدت أن “الإدارة تريد استعادة الدفء في العلاقات الذي تميزت به الشراكة المصرية الأمريكية” وأن “المصريين يريدون زيارة أوباما لإثبات أن مصر حليف لا غنى عنه.
البرقية أشارت إلى أن المخابرات والداخلية تبقي الأعداء المحليين تحت أعينها، كان واضحا أن إدارة أوباما ستدعم مبارك حتى نصل إلى النهاية بوفاته، وحينها كان يتم التخطيط ليحل محله عمر سليمان، الأوتوقراطي الموالي للولايات المتحدة، والأكثر وحشية من مبارك، والذي أفادت التقارير أنه كان مُقدرا للغاية في واشنطن لمساعدته الأمريكيين في تعذيب المعتقلين نيابة عنهم.
خلال التغطية المستمرة لاحتجاجات التحرير، لم يقل الأمريكيون أي شيء من هذا، وهذا الأمر ينطبق على تغطيات الإعلام الأمريكي للربيع العربي بشكل عام، حيث لم يتم الإشارة إلى دعم الولايات المتحدة طويل الأمد لطغاة المنطقة. بدلا من ذلك، كان المواطن الأمريكي يعتقد -من خلال تلك التغطية- أن إدارته دوما ما كانت تقف بجانب الديمقراطية والحرية في مصر، وهذا ما قاله بيان أوباما الذي أكد فيه أن المصريين لن يقبلوا بأقل من الديمقراطية الحقيقية.
هذه التغطية، وهذه السردية المؤيدة للديمقراطية المصرية تُنسى الآن كما لو لم تكن موجودة بالأساس. الطبقة السياسية في أمريكا ووسائل الإعلام الأمريكية عادت من جديد إلى دعم الاستبداد العسكري في مصر كما فعلت سابقا مع نظام مبارك. الجنرال عبدالفتاح السيسي، الذي قاد انقلابا عسكريا ضد الحكومة المصرية المنتخبة ديمقراطيا من الإخوان المسلمين، هو الآن المفضل لدى واشنطن، على الرغم من (أو ربما بسبب) الفظائع التي ارتكبها من قتل وسجن المعارضين، بمن فيهم الصحفيين.
في شهر يونيو، قالت هيومن رايتس ووتش إن فترة ما بعد الانقلاب شهدت “أسوأ عملية قتل جماعية خارج نطاق القانون في تاريخ مصر الحديث” وأن “السلطات القضائية قامت باستخدام عقوبة الإعدام على نطاق لم يسبق له مثيل، وأن قوات الأمن قامت بحملات اعتقال واسعة وأن التعذيب عاد من جديد مثل أحلك أيام حكم حسني مبارك.
المنظمة وثقت خلال الأسبوع الماضي ما يلي:
*السلطات المصرية قامت، بحسب إحصاءاتها، باعتقال أكثر من 22 ألف شخص منذ إطاحة الجيش بالرئيس المنتخب ديمقراطيا، محمد مرسي.
* كما شنت حملة اعتقالات واسعة وصلت إلى الكثيرين ممن كانوا يعبرون عن معارضتهم السياسية السلمية لإسقاط مرسي، أو لمعارضتهم لحكومة السيسي. العدد الفعلي للمعتقلين قد يتجاوز ذلك بكثير.
*هناك تقارير موثوقة تقول أن عددا كبيرا من المعتقلين احتُجزوا بمعزل عن العالم الخارجي في منشآت عسكرية سرية، وهناك حالات وفاة للعشرات داخل السجون في ظل ظروف شديدة السوء، والإهمال الذي يستدعي التحقيق.
لا شيء من ذلك ردع الولايات المتحدة عن دعم قادة الانقلاب العسكري. بعد أشهر من الانقلاب، زار وزير الخارجية جون كيري القاهرة، وأثنى على النظام العسكري، وهو ما وصفته صحيفة نيويورك تايمز بأنه “يعكس عزم إدارة أوباما على العمل مع القيادة العسكرية التي حاربت بوحشية المتظاهرين المؤيدين لجماعة الإخوان المسلمين.”
في يوليو من العام الجاري، قامت الولايات المتحدة بإرسال 550 مليون دولار للنظام، وفي أغسطس، أثنى كيري على الانقلاب ذاته، وقالت نيويورك تايمز حينها إنه “قدم دعما غير متوقع للقادة العسكريين في مصر، حيث قال إن “الجيش استعاد الديمقراطية عندما خلع أول رئيس منتخب في تاريخ البلاد”. وفي منتصف أكتوبر ستسلم وزارة الدفاع الأمريكية 10 مروحيات آباتشي إلى مصر.
كانت تلك هي خلفية لقاء السيسي مع بيل وهيلاري كلينتون في نيويورك خلال الأسبوع الماضي كما في الصورة أعلاه!
التقى السيسي أيضا مع قادة غرفة التجارة الأمريكية ورجال أعمال أمريكيين وحتى وزراء الخارجية السابقين مادلين أولبرايت وهنري كيسنجر.
والتقى السيسي مع أوباما نفسه كما في الصورة، حيث وصف الرئيس الأمريكي العلاقات طويلة الأمد بين مصر والولايات المتحدة بأنها حجر الزاوية لسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
ربما لا يدل شيء على تعهد الولايات المتحدة والتزامها بدعم الاستبداد في مصر بشكل واضح كما يفعل الهجوم المنسق في وسائل الإعلام الأمريكية ودوائر السياسة على الدولة التي طالما كانت مقربة من واشنطن: قطر.
فكما نشرنا خلال الأسبوع الماضي، فإن كثيرا من حملة مناهضة قطر في الولايات المتحدة يقودها الغضب الإسرائيلي (جنبا إلى جنب مع السعودية والإمارات والمحافظين الجدد الأمريكيين) بسبب دعم الدوحة المزعوم لحركة حماس.
لكن ما أثار الحفيظة ضد قطر هو دعم الدوحة للإخوان المسلمين، وهم الذين فازوا بأول انتخابات بعد الإطاحة بمبارك، وهذا ما وضع الدوحة في خلاف مع السعوديين والإماراتيين وحتى الولايات المتحدة، وجميعهم يؤيدون الانقلاب العسكري في مصر.
في مقال معاد لقطر نشرته مجلة فورين بوليسي الأمريكية تم تداوله على نطاق واسع بعنوان “القضية ضد قطر” نقرأ:
لسنوات كان المسؤولون الأمريكيون على استعداد أن يتجاهلوا شبكة وكلاء الدوحة، أو حتى أن يستفيدوا منها من وقت لآخر. لكن جيران قطر لم يتجاهلوا ذلك.
وعلى مدار العام الماضي، بدأ الجيران في السعودية والإمارات والبحرين بالعمل ضد قطر وإدانتها بشكل علني بسبب دعمها السياسي للإسلاميين في جميع أنحاء المنطقة.
هددت هذه الدول بإغلاق حدودها البرية مع قطر، أو تعليق عضوية الدوحة في مجلس التعاون الخليجي ما لم تتراجع عن مواقفها.
وبعد نحو عام من الضغط، جاءت أولى علامات التنازل القطري، ففي 13 سبتمبر، غادرت سبع شخصيات من الإخوان المسلمين الدوحة بناء على طلب من الحكومة القطرية.
بدأت استراتيجية قطر للتعامل مع الربيع العربي في الفشل من نفس المكان التي بدأت به نجاحها.
ففي الثالث من يوليو، كان المتظاهرون المصريون يهتفون مطالبين الجيش بالإطاحة بالرئيس محمد مرسي، وكانت الهتافات ضد قطر التي دعمت مرسي بخمسة مليارات دولار.
خلال الأيام التالية، رحبت السعودية والإمارات والكويت بالانقلاب العسكري وتعهدت مجتمعة بدعم الحكومة التي عينها الجيش بـ13 مليار دولار.
في أي منطق يمكن أن يكون الخيار الأفضل أخلاقيا هو دعم النظام الانقلابي العسكري المصري (وهو ما تفعله أمريكا والسعودية والإمارات) في مقابل الفصيل المنتخب ديمقراطيا (وهو الذي تدعمه قطر)؟
قطر توصف الآن في دوائر السياسة الخارجية الأمريكية باعتبارها العنصر السيء! في حين أن الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية هي الأطراف الجيدة والمسؤولة عن الاستقرار، وهو ما يؤكد مدى التزام واشنطن بدعم الاستبداد المصري.
هذا ليس تطورا جديدا. إدارة أوباما طالما اعتبرت مصر والسعوديين “معتدلي” المنطقة.
نقرأ في برقية أخرى لويكيليكس عام 2009 للتحضير لزيارة مبارك “النزاع العربي البيني مستمر، يظهر ذلك في عمل مصر والسعودية ضد سوريا وقطر مدفوعا بالقلق من النفوذ الإيراني الإقليمي، وهو الاختبار الحالي لمبارك. في هذه اللحظة، المعسكر المصري السعودي هو المعسكر المعتدل”
لطالما كرست الولايات المتحدة الاستبداد في المنطقة لضمان أن الرأي العام العربي - الذي يرى الولايات المتحدة وإسرائيل باعتبارهما التهديد الأكبر للسلام في المنطقة- يظل مقموعا بواسطة الديكتاتوريين المحليين المدعومين من واشنطن.
وهذا ما جعل التغطية الإعلامية الأمريكية للربيع العربي ولميدان التحرير خصوصا تحقق ذلك الإنجاز المذهل!
لقد استطاع الإعلام أن يُشعر الأمريكيين بالرضا عن الهتاف المصري من أجل الديمقراطية، مع تجاهل الدور الرئيسي لحكومتهم في قمع تلك الهتافات على مدى عقود، وهو إنجاز عظيم.
وعظيمة أيضا تلك الطريقة التي تحولت بها الطبقة السياسية في واشنطن من التظاهر بدعم الديمقراطية إلى العودة مرة أخرى، بكل سلاسة ودون خجل، للموقف -طويل الأمد- المؤيد للاستبداد.
المصدر: ذا إنترسيبت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق