الأربعاء، 24 فبراير 2016

دكّة السروال القومي

دكّة السروال القومي

أحمد عمر

أصبت بمرض، وقاكم الله السوء، يخجل المرء من ذكره، من أثر أيام الجوع في إسطنبول، والذي سميناه مرض المجلس، وكان سببه انتهاء مدة جواز السفر.
كان غريباً أن يجوع إنسان كرّمه الله بقوله "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَم"، ليس بسبب مرض الأمعاء وإنما لالتهاب في... جواز السفر. 
أول أمري بعد وصولي إلى المنفى الألماني البهيج، هرباً من "ب ب"، أي البطش والبراميل، هو أني ذهبت إلى العيادة للاستبراء.
هو طبيب سوري نزح منذ الثمانينيات. سمعة الطبيب السوري طيبة في ألمانيا، الطبيب السوري حكيم. قرأت أنّ عدد الأطباء السوريين في أميركا 11 مليونا! 
تعانقنا كصاحبين مفترقين في الأفلام الهندية بعد أربعين سنة.
سألني عن مسقط رأسي، فذكرته، فسألني ممتحناً: عدِّد أسماء الحصادات الزراعية؟ فانطلقت منشداً: مسيو هارس، جوندير، كلاس، كلاوزيون.. ضحك وقال: أصيل. 
الممرضة الألمانية الحسناء البيضاء العيطبول، نبضة الضوء، القمر في البدر، واقفة بجواره، فهمست في أذنه خجلاً، وأنا أخجل من أمرين، هما: فتح فمي أمام طبيب الأسنان، وحلِّ الحزام عن ورقة التوت الأخيرة...أعزّكم الله. 
استغربت الهمسَ الممرضةُ، وهي لا تعرف العربيةّ حتى اضطر إلى النجوى!.. ضحك الحكيم، وقال بلهجةٍ ديريةٍ فصيحةٍ وكريمة: لا خجل في العلم والدين.. والمرض. 
ذكرت له المرض، ووصفت أعراضه، وأملي أن يكتفي بالوصف، فابتسم وأمرني أمراً عسكرياً، نفّذ ثم اعترض، وأن أخلع قميصي.. ففرحت، وقلت لعلَّ الطبيب السوري اكتشف طريقة جديدة لفحص ورقة التوت من الكتف أو الإبط..! 
قال: انبطح على جانبك الأيمن، فذكرني بذلِّ التربية العسكرية والحواجز، ورجوت: ولو أنت ابن بلد؟.. ألا طريقةَ غير الانبطاح؟ أعزكم الله. 
فقال: لا بد من الانبطاح.
فتذكّرت صخراً أخ الخنساء الجريح، والذي رفض التداوي بالقار المغلي الذي تداوي به العرب العير الجرباء، ومات من أثر الجراحة، وإنّ صخراً لوالينا وسيدنا، وإن صخراً لتأتمُّ الهداة به، وقلت: المنية ولا الدنية.. 
فضحك وأشار بإصبعه إلى عقدة حزام الأمن القومي: أخلع أو نحرق البلد. فَلَا فَوْتَ. 
طيب، ألا يوجد إبرة تخدير للفحص؟ أظن أنّ الشرع الحنيف كان يجيز تناول الخمر في العمليات الجراحية قبل اكتشاف التخدير. 
فضحك وضحكت باربي الألمانية، فأضاءت ما حولها، ومَا ضحكت شفتاها إلا لتَضْرِب بسَهمَيها في أعشارِ قَلبٍ مُقَتَّلِ.
وأظن أنها أصيبت بفضولٍ شديدٍ لمعرفة السبب الذي أدّى إلى نوبة الضحك التي اجتاحت رئيسها.
فابتسم، وقال مثل كتيبة على الحاجز: الزنار أو نحرق الأقطار. 
فككت عقدة الحزام، وتمددّت على السرير الذي كانت الممرضة قد غطته برقعة بيضاء، لم تلامسها شمس.
 أمر مثل جنرال: وراء درّ. إنه ينوي الغدر! يا أخا سورية.
أريد أن أخرج، خلاص، لا أريد طبّك. الموت ولا المذلّة. طلبت أن تخرج الممرضة.
 فقال: يجب أن تبقى معنا كمحرم. 
ففعلت، وأنا أكاد أبكي، وظهر لي الحجي من غيهب الخزانة.
وهو يقول: كافر.. سأقيم عليك الحد، وأهدُّ عليك البيت وأحرقك بالنار! تعرّيتُ، وظهرتْ عورة الوطن، أدرت ظهري، كما فعلت على الحواجز كثيراً، فأقحم فيها خازوقاً طبياً، من شرم الشيخ إلى سعسع، لو دخل في دبر البرلمان لكانت سورية بألف خير.
أي غدر.. صدق من قال لا أصدقاء للشعب السوري. يا الله، ما لنا غيرك يا الله. 
انتهى بسرعة من محاولة تغيير الدستور بالقوة. وقال تفضل اجلس في الانتظار، قبل أن أخرج، وأنا أشدُّ الحزام وضعت يدي في حزامه، وقلت: أستحلفك بالله يا أخا الشام وبحرمة هذا الشهر المحرم، أن تستر العورة وتجبر عثرات الكرام. 
فضحك وأشرقت نبضة الضوء بالعدوى، فظهر بياض أسنانها المصفوفة، وعضّت على العناب بالبرد، ولمع برق في السماء، وسقتني بعينها خمراً. 
قلت متضرعاً: هذه أسرار أمن قومي.. فيها توهين لروح الأمة. 
خرجت ووصفة العار الطبية في يدي، والدنيا ظلام في عيني، شهقت بعمق، تشهّدت.. الانتحار حرام، فكّرت في نزوح جديد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق