السبت، 27 فبراير 2016

" ترامب " وجه أمريكا الحقيقي

" ترامب " وجه أمريكا الحقيقي


شريف عبدالعزيز
عشية الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2008 كان الأمريكيون منقسمين بين الإرادة الجارفة للتخلص من نهج "جورج بوش " الذي كان يدعي أنه يُوحى إليه من السماء! 
وما حمله من كوارث اقتصادية، وحروب دينية باهظة التكاليف ، وقيود مشددة على الحريات المدنية التي لم يألفها الأمريكيون منذ حقبة الستينات لمواجهة "الخطر الإسلامي"، وقسم آخر من الأمريكيين كان يغذيه الخوف من الإسلام وانتشاره في المجتمع الأمريكي المفتوح، والنزعتان العنصرية والدينية المدفوعتان من "المحافظين الجدد" والكنيسة التي وطدت دورها في الحياة السياسية الأمريكية في أواخر ثمانينات القرن الماضي .
وبعد ثماني سنوات من هذا التغيير الدراماتيكي في تاريخ أمريكا بتولي أول رجل أسود للرئاسة تثير أمريكا العالم مرة أخرى ، ببروز الملياردير المثير للجدل " دونالد ترامب " بخطابه المشحون بالعنصرية والكراهية لكل ما هو مسلم وكل ما هو لا ينتمي للعرق الأنجلوساكسوني .
ترامب في أقل من 6 شهور حوَل الساحة السياسية الأمريكية إلى مسرحية توجس وتخوف تقوم على أساس الجهل، عشق الذات واستغلال ضعف الجماهير، إذ إنه في عصر الواقع المركب، حيث يميل الناس إلى السير خلف من يتخذ صورة الزعيم القوي حتى لو كان مجرد خدعة، حتى لو كان خطرا حقيقيا . حتى ذهب الكثيرون إلى أن المرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية الأمريكية، دونالد ترامب، قد صنع تاريخا حتى ولو لم يصبح رئيسا .
كل الاحتمالات قبل بدء السباق الرئاسي كانت تصب في غير صالح هذا المياردير العجوز القادم من بالم بيتش بعد أن أثار قدرا كبيرا من الجدل بخطاباته المشحونة بالرسائل السلبية القائمة على الكراهية والعنصرية ، خطابات فاشية نازية باقتدار جعلت الكثيرين من ساسة ومثقفين وإعلاميين وأيضا ممثلين وفنانين ورجال دين ، من داخل أمريكا وخارجها ، يوجهون له انتقادات لاذعة ، وصل بعضها لإخراجه من النصرانية كلها ما جاء على لسان بابا الفاتيكان نفسه ، و يؤكدون على فشله الذريع.
ولكن ما إن بدأ السباق الرئاسي حتى رأينا الانتصارات اللافتة التي حققها في نيوهامشر وجنوب كارولاينا ونيفادا ، وبدا للجميع أن أمريكا لم تعد تلك المدينة الفاضلة والحلم لكل إنسان التي تروج لنفسها.فهي ليست أمة المؤسسة ، وليست أمة اقتصادية عقلانية وطبقة متوسطة راضية وجهاز سياسي مستقر.
لم تعد أمة تثق بنفسها وبهويتها وبمستقبلها. إنها أمريكا الجديدة الخائفة والغاضبة، أمريكا التي فقدت طريقها . 
ولكن الحقيقة التي يحاول الأمريكان الفرار منها ، أن هذه هي أمريكا الحقيقية ، أمريكا في نسختها الأصلية ، وترامب هو الوجه الحقيقي لهذه الأمة المنكودة .
فخطابات " ترامب" المليئة بالبغض، والكراهية، والعنصرية، لم تكن فقط ضد المسلمين بل أيضاً ضد المكسيكيين، والصينيين، والهسبانيين – ذوي الأصول الأسبانية - ، وشتى الأعراق والأجناس من غير العرق الأنجلو سكسونسي ، ضد اللاجئين والمهاجرين عموماً، غير أنها أخذت مداها وتجاوزت كثيراً حدود الحرية الشخصية بعد هجمات باريس الأخيرة وهجوم كاليفورنيا. 
خطاب عنصري بغيض أبعد من أن يكون المحتوى الفكري لأرجواز رأسمالي مثل " ترامب" ، بل خطاب صنعه غلاة الجمهوريين الذين أقاموا البنية التحتية الفكرية والوعي في أوساط مؤيدي ترامب بأن أمريكا بحاجة إلى زعيم ذي نزعة قوية بعد ثماني سنوات ترأس فيها الأمة رجل ضعيف لا يرتبط بقيمها. 
وقد نجح غسل الدماغ على نحو جميل بين رجال اليمين المتطرف البيض الذين يصدقون هذا الأراجوز . حتى أصبح عقلاء الجمهوريون أنفسهم – من فرط عنصريته - يفضلون أن يخسروا الانتخابات للرئاسة من أن يتبنوا مرشحا عظمته في عنصريته،و بذاءة لسانه وقدرته التي لا تكل ولا تمل على إثارة الشقاق ونشر الكراهية .
بيد أن السؤال الأهم في نكتة الصعود الترامبي المثيرة ؛
كيف يحقق هذا الرجل الصدامي النزق الأقرب لكونه مهرجا من كونه مرشحا رئاسيا هذه الانتصارات المتتالية في وقت قصير ؟!
المراقبون للشأن الأمريكي بمستوياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، داخليا وخارجيا ، يرجعون هذه الفورة الطارئة لترامب لعدة أمور من أبرزها :
تآكل العرق الأنجلوسكسوني ، فالديمغرافية الأمريكية تتغير بسرعة في غير صالح العرق المؤسس، وأمريكا المسيحية البيضاء تتحول إلى أقلية بصورة متسارعة ،وقد تترجمت هذه التحولات من خلال عمليتين انتخابيتين انتصر فيهما باراك أوباما، الأسود ذو الأصول الأفريقية والمسلمة. 
والآن  يشعر العرق الأنجلوسكسوني بأنه قد حان وقت الرد. فشيء ظلامي وسيء يخرج من داخل الذاكرة الجمعية للعرق ممثلا في تأييد " ترامب"، حقد يخرج من عقول وقلوب السكان البيض والمحافظين الذين يشعرون بأنهم يفقدون السيطرة العليا على البلاد التي أسَسوها، فهم يعرفون بـأن في أمريكا الجديدة لا يمكن الانتصار دون أصوات "الهسبانيين"، من ذوي الأصول الإسبانية، ودون الأغلبية في أوساط النساء؛ يعرفون بأنه انقضت الأيام التي لا يمكن فيها إلا للرجال البيض القدامى والأغنياء أن يحسموا الصناديق في أمريكا متعددة الألوان، لما ظهر ترامب بخطاباته شديدة الفجة والمتكلمة بصوت عال بما يدور في صدور وعقول " الأنجلوسكسون" سارعوا إلى تأييده .
اللعب على وتر العاطفة ، ففي كتابه العبقري "سيكولوجية الجماهير" يحدد عالم الاجتماع الفرنسي الشهير جوستاف لوبون أهم النقاط المؤثرة في تأطير العلاقة بين الخطباء والجماهير حيث للعاطفة والكلمات الرنانة سطوتها، وللأوهام حضورها الأسطوري، باعتبار أن الجماهير غير قادرة على استيعاب الحجج العقلية، الخطاب العقلاني لا يجذبها؛ لأنها في اللاوعي تفضّل كل ما هو عاطفي وفوضوي.
 ولذا يقول: «إن محرّكي الجماهير من الخطباء، لا يتوجهون إلى عقلها، بل إلى عاطفتها، فقوانين المنطق العقلاني ليس لها أي تأثير فيها». 
هذا ما استنتجه لوبون، ولعل ما قاله يسعفنا في فهم فوضى الوعي لدى الجماهير الخاضعة لتأثيرات أي خطاب سواء ديني، اجتماعي، أو سياسي ، سواء معتدل أو متطرف ، ولعل هذا يفسر لنا نتيجة استطلاعات الرأي لدى ترامب وتقدمه الكبير على الرغم من خطاباته المستفزة .
وإن كانت الكراهية غير المبررة حماقة كبرى على المستوى المنطقي ، إلا إنها ليست كذلك على المستوى الجماهيري ، فالجماهير لا تعنيها المنطق بل العاطفة أياً كان اتجاه هذه العاطفة سلباً أم إيجاباً، وهذا تماماً ما يفعله ترامب ومستشاروه، إنهم يقودون العاطفة السلبية، ويصبون كل اهتمامهم على تلك الجماهير الناخبة، بالرغم من كل تلك التداعيات السيئة على المستوى الاجتماعي، التجاري، والإعلامي  بسبب هذا الخطاب البغيض .
الخوف المجتمعي ، وهو خليط من الخوف الاقتصادي والخوف الطبقي والخوف المجهول ، ففي الثلاثين سنة الأخيرة، أصبحت الرأسمالية الأمريكية تدوس بشكل غير مسبوق منذ نهاية القرن التاسع عشر، ممثلة في تركز الأموال المخيف في شرائح بعينها ، والفجوات الاجتماعية أصبحت أكبر من أي فترة مضت ، وتآكل الطبقة الوسطى يؤدي إلى تحطيم الحلم الأمريكي إلى شظايا،في ظل غياب الثقة في أن المستقبل سيكون أفضل من السابق، فقد تزعزع الاستقرار والتفاؤل الأمريكي ، قال نعوم تشومسكي، الفيلسوف الأمريكي، إن الظروف الاجتماعية التي تدفع الناخبين نحو المرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية الأميركية دونالد ترامب تشرح أيضاً ظهور زعماء فاشيين مثل أدولف هتلر، مشبّهاً حالة الخوف والعجز وسطوة ذوي القوة بالظروف المجتمعية التي عاشها العالم في الثلاثينيات، مشيراً إلى أنها هي التي تصعد الآن بالملياردير الأميركي. 
 وقد علق تشومسكي على تصاعد شعبية ترامب قائلاً أن سببه "الخوف إلى جانب انهيار المجتمع خلال حقبة الليبرالية الجديدة، حيث تشعر الناس بالانعزالية والعجز، فيقعون فريسة للقوى ذات النفوذ التي لا يفهمونها ولا يستطيعون التأثير عليها" .
تراجع أمريكا عالميا ، أمريكا منذ انتهاء حقبة الحرب الباردة وهي تتفرد بقيادة العالم ، وتهيمن على مؤسساته وهيئاته الدولية بشتى فروعه ومجالاته ، ولكنها وبعد مجيء أوباما للحكم بدأت في تطبيق إستراتيجية القيادة من الخلف ، وهو الأمر الذي لم يعد يعجب كثير من الأمريكان الذين تربى معظمهم في عهد الهيمنة الأمريكية ، فصعود الصين والتحرش الروسي ويأس الشرق الأوسط ، ومجاهرة الحلفاء قبل الأعداء بالرفض ، تثبت للجميع أن واشنطن لم تعد تسيطر على العالم كما في السابق. وهكذا تنشأ الرغبة من أجل إعادة السيطرة.
تنامي الفاشية عالميا ، فثمة موجة يمينية فاشية نازية تجتاح العالم، شرقا وغربا ، وكان من الطبيعي جدا أن تمتد هذه الموجة النازية إلى أمريكا .
ففي فرنسا برزت السياسية الفرنسية مارين لوبِن زعيمة حزب الجبهة القومية وفازت بـ25% في انتخابات البرلمان الأوروبي، وهي الآن الوجه الأبرز في انتخابات الرئاسة المقبلة التي ستجري عام 2017 رُغم عدم انتمائها للأحزاب الكبرى التقليدية .
وفي السويد نجح السويديون الديمقراطيون، وهو حزب اليمين المتطرف أيضًا، في دفع البرلمان السويدي لإعلان اول انتخابات مبكرة في الخمسين سنة الماضية 
وفي روسيا يقوم بوتين بتدشين خطاب قومي معادي ومتطرف ، ولا يخجل من الاستشهاد بكتابات المفكر القومي الروسي والمتعاطف مع النازيين إيفان إليين، كما يدعم بالأموال حركات اليمين المتطرف في أوروبا نظرًا لوقوفها بوجه مشروع الاتحاد الأوروبي كما هو معروف. وعلى الناحية الأخرى من الكوكب، وحيث يظن البعض أن أهل آسيا بعيدون عن تلك الموجة الفاشية النازية ، ففي الانتخابات الهندية الأخيرة سنة 2014 ينتخب أكثر من 300 مليون هندي الزعيم القومي الهندوسي المتطرف " مودي " المنتمي لحزب الشعب الهندوسي المتطرف ، في أكبر انتصار لليمين الهندوسي في تاريخه.
كما تظهر اليابان بقوة على خريطة حركات اليمين المتنامية بل والحاكمة أيضًا، فرئيس الوزراء اليميني شينزو يحكم بعد انتخابات مبكرة فاز فيها العام الماضي، وهو ممن يرغبون بمراجعة تخلي اليابان عن دورها العسكري بعد الحرب العالمية الثانية، كما أن حكومته تضم 15 عضوًا من حركة نيبون كايجي القومية، وهم من أنصار عدم الاعتذار عن جرائم طوكيو ضد الإنسانية أثناء احتلالها لكوريا وسواحل الصين في الحرب العالمية الثانية .
ولعل العلامة الأبرز على انبعاث العنصرية والنازية الهتلرية من جديد هو صعود حركة الشاي في الولايات المتحدة، كانت الحركة قد ظهرت لأول مرة على الساحة السياسية الأمريكية عام 2009، وكانت مدفوعة بخطر انتصار أوباما في الانتخابات الرئاسية عام 2008، وبالعداء الشديد لبرنامج الرعاية الصحية الذي دعا له، ولكن الحركة وسَّعت نطاق عملها واكتسبت زخما شعبيا وسياسيا كبيرا ، وتستهدف الحركة الآن، ليس فقط الديمقراطيين، ولكن الجمهوريين الذين يعتقد أعضاء الحركة الأصوليون أنهم معتدلون بعض الشيء،كما حدث مع زعيم الأغلبية السيناتور " إريك كانتور "صاحب النفوذ الكبير الذي خسر الانتخابات الأولية في يونيو أمام منافس محافظ متطرف،ونظرًا لنجاحها في دفع الجمهوريين أكثر للتطرف والراديكالية وتمثل ذلك في احتشاد الجمهوريين خلف دونالد ترامب .
كل العوامل السابقة ساعدت على ظهور " ترامب " وانتشاره ونجاحاته – حتى الآن- وإذا هُزم "ترامب" في نهاية المطاف وهو غالبا ما سيحدث ، فإنه قد ترك بصماته.
فهو لم يأخذ السياسة الأمريكية إلى انحطاط غير مسبوق، وفقط، بل هدد كل ما كانت تمثله أمريكا وتدعيه وتروج له كمدافعة أولى عن الحريات وحقوق الإنسان وكل ما يجب أن تكون عليه المدينة الفاضلة ، وكشف الوجه الحقيقي لأمريكا، وأخرج مكنونات صدور شرائح عريضة من الأمريكان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق