ضباط الصف المدني الديمقراطي الإقصائي
اعتقلت قوات الأمن المصرية، قبل أيام، أمين عام حزب الوسط، محمد عبد اللطيف، وسط صمت كامل من القوى السياسية التي تسمي نفسها مدنية وديمقراطية وثورية، وتملأ الدنيا ضجيجاً عن الحريات وحقوق الإنسان.
لم يكلف حزبٌ واحد من هذه القوى نفسه مشقة إصدار بيان أو تصريح، يدافع عن حرية سياسي محترم، يقود حزباً مدنياً شرعياً، أو حتى يسأل عن مصيره، ولو ذرّاً للرماد في العيون، بعد نحيبها المفتعل على احتجاز الجنرال أحمد شفيق، العنوان الأبرز للثورة المضادة، ثم الجنرال سامي عنان، أحد الذين قتلوا ثورة يناير.
فيما بعد، فاجأت هذه القوى التي تسمي نفسها مدنية ديمقراطية الجميع بإقصاء رئيس حزب مصر القوية، عبد المنعم أبو الفتوح، برفض إشراكه في بيان مجمع يدعو إلى لديمقراطية، ويستهجن تجفيف بحيرة السياسة في مصر، والحجة أنهم وحدهم المدنيون الديمقراطيون الثوريون، وكل من هو خارج دائرتهم الضيقة ليس جديراً بأن يُنعموا عليه بدمجه في تيارهم المدني الديمقراطي المزعوم، على الرغم من أن رموز هذه القوى لم يجدوا مأوىً لهم، إبّان هوجة جزيرتي تيران وصنافير، التي شفطوها من الشارع إلى سراديب القضاء، سوى مقر حزب مصر القوية، ليعقدوا فيه ندواتهم.
وفي المقابل، لم يتردّد رموز هذه القوى الثورية الديمقراطية في الهرولة إلى المشاركة في ندوات تحتفي بكتابٍ جديدٍ لواحدٍ من رموز زمن حسني مبارك، والقيادي البارز في حزبه المحترق، علي الدين هلال، الذي قامت ضده ثورة يناير، طلباً للحرية والديمقراطية وإنهاء الحكم العسكري.
في نزوة الثلاثين من يونيو/ حزيران المهلكة، لم تجد القوى المدنية الديمقراطية غضاضةً في الاصطفاف مع حزب النور، المعبر عن إسلام سياسي زائف، ومعجون بخميرة الأجهزة الأمنية، وكذلك مع القيادات العسكرية والبوليسية العتيقة، للإجهاز على مخرجات التجربة الديمقراطية الوليدة، التي كانت تجسّد الملمح الوحيد الباقي من ثورة يناير، ولم تستشعر خطراً على وسامتها الديمقراطية الثورية المدنية، وهي تحشد الجموع لعسكرة الحياة السياسية، وإعادة مصر أكثر من ستين عاماً إلى الوراء، وتمنح تفويضاً لجنرال الانقلاب العسكري، لقتل السياسة ومصادرة المجال العام وحرق أية فرصة لتطور ديمقراطي.
بعد نحو خمسة أعوام من مشاركتها في قتل الديمقراطية والمدنية، كانت هذه القوى التي تضع على وجهها طلاء مدنياً زائفاً قاب قوسين أو أدنى من تكرار حماقتها في 2014، حين ارتضت أن تكون جزءً من عروض السيرك الانتخابي المنصوب، لتقديم جنرال المقتلة إلى العالم في صورة الزعيم المنتخب، بل كانت على بعد خطوةٍ من لعب الدور نفسه الذي يؤديه الآن كومبارس اللحظة الأخيرة، على خشبة مسرح عبث ما تسمى انتخابات 2018.
كانت هذه القوى في قلب سيرك انتخاب الجنرال، توشك أن تكرر ما جرى في 2014، وحين نفدت بجلدها في اللحظة الأخيرة، ظننا أنها أدركت أنه لا حل بمواجهة تيار العسكرة سوى العودة للاصطفاف على أرضية، وتحت سقف ثورة يناير، والانسلاخ من كارثة الاحتشاد مع الثورة المضادة في يونيو/ حزيران 2013، لكنها باغتت الجميع بالتشبث بكل ما أدى إلى المصير البائس الذي انحشرت فيه مصر، وراحت تمارس الإقصاء ذاته الذي كان الجسر الذي عبر فوقه الانقلاب العسكري، وتوقفت عنده في سبتمبر/ أيلول 2012 تحت عنوان "المأساة بدأت بإقصاء عبد المنعم أبو الفتوح"، حين لم يجد رموز المدنية الديمقراطية الكاذبة بأساً في الاصطفاف مع عبد المنعم الشحات (رمز سلفية أجهزة أمن مبارك) والإقصاء المتعمد للدكتور عبد المنعم أبو الفتوح (أحد رموز ثورة يناير من تيار الإسلام السياسي المدني)، وسجلت وقتها "وكانت بداية المأساة فى الأسبوع الأخير من سبتمبر الماضى 2012 حين أقدم عدد من الرموز السياسية، الثورية ومنتحلة صفة الثورية، على تكوين تحالف يقصى رجلا بحجم الدكتور عبد المنعم أبوالفتوح..ذلك كان مستصغر الشرر الذى صار نارا أمسكت بالثورة قيما ومبادئ محترمة، حتى وجدنا من لا يخفى استدعاءه لقوى مضادة للثورة فى هوجة الحشد ضد الرئيس وإعلانه، والاستفتاء على الدستور".
صحيحٌ أن أبو الفتوح رضخ لابتزاز هذه القوى، وشارك في مشروع 30 يونيو لاحقاً، إلا أن أربع سنوات وستة أشهر مرت على تلك المأساة كشفت أن الطريق إلى المستنقع الذي تتردى فيه مصر، والمنطقة كلها الآن، بدأ بالاستسلام لغواية الثلاثين من يونيو، والمضي في تلك النزوة الثورية المجنونة التي أراقت دماء البشر، وجففت مياه النهر، وأحرقت حقول السياسة، وأحالت البلاد إلى سجن حربي كبير.
ومن دون الاعتذار الصريح عن هذه الكارثة، والتحرّر من قيود تلك النزوة المدمرة، ستبقى القوى التي تسمى نفسها مدنيةً ديمقراطيةً تتخبط في ذلك التيه السياسي والأخلاقي الذي يجعلها إلى الإقصاء أقرب من أن تكون قاطرة لتيار ثوري حقيقي، وأبعد ما يمكن أن تصل إليه هو أن تحظى بوضعية المعارضة القديمة التي كانت تلهو في الفناء الخلفي لنظام مبارك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق