نهر العسل وبحيرة الحليب
أحمد عمر
كانت هادية تزورنا مع أمها، ونكتب الواجبات المدرسية سوياً تحت الدالية في الأيام المشمسة، وحول المدفأة في الشتاء. كانت كتبها دائماً ممزقةً، فلم تكن تحبُّ الكتب ولا المدرسة، فأكتم غضبي منها، ثم أقول لنفسي: ذلك لا يعيبها، فهي جميلة، وبيضاء مثل الحليب، وعيناها تفيضان بالعسل، وضفائرها جميلة، جديرة بأن يُشنق المرء بها، أو يُقاد إلى حدائق الأبدية. والجميلة في غِنى عن المدارس، فهي العلم، وهي الثقافة، وهي القصائد، وهي الجائزة.
وكنت أعاتبها على إهمالها كتبها. فأبوها عنده سطل من الغراء، مكشوف دائماً للهواء، وليس مثل علبتي الصغيرة التي تجفُّ من هبة النسمة.
كنت مولعاً بإصلاح الكتب وتجليدها، منذ أن اكتشفت معجزات الغراء الأبيض في مداواة جروح الكتب، فأصلح لها كتبها، ودفاترها، وأستمتع برائحة الغراء الطيبة، وغشاوته وهي تجفُّ على سبابتي، فأسلخها بسرور كما يسلخ النهار جلد الليل.
صرت معروفاً في الحي بمصلح الكتب. كان الآباء يرسلون إليّ مصاحفهم، فأقوم بالمؤاخاة بين أوراقها التي فرق بينها أصابع الزمن، وتعلمت خياطة أعقاب الكتب، وإصلاح جلود مصاحف المسجد. نهاني المصلّون، فهي أوقاف، لكني ثابرت على إصلاحها، في غفلة عنهم.
كنا جيراناً، نتشارك زقاقاً ضيقاً، طويلاً، لا يتسع سوى لشخصين يشبكان أيديهما على ضفتي مزراب حجري، وهو زقاق ليس كمثله في البلدة كلها.
باب بيتنا، يواجه باب بيت هادية ذي السقاّطة النحاسية، المصفح بجلد التوتياء المعدني المزخرف، فأبوها نجار، وفي وسط أرض الزقاق جدول، يجمع حبّات الأمطار، ويجدلها في ساقية عذبة. وكانت هاديه تحب ُّ الأنهار وصناعة الزوارق، وكنت أحب تجليد الكتب، وصناعة فخاخ العصافير. هي تهوى التمزيق وأنا أحبّ التلزيق. سفنها الورقية متقنة، وسفني تجنح، وتنقلب، وتغرق في القاع.
خطبت لي أمي هادية من أمها، ونحن حول المدفأة في الشتاء، نشوي الكستناء، ونشم رائحة قشور البرتقال المشوّية العطرة. وافقت أم هادية، وابتسمت هادية علامة الموافقة، فقلت لعروسي: عندما نتزوج سأصلح لك كتبك كلها، فمزقيها كما تشائين. لكن حدث أمر لم يكن على البال، لقد كبرت هادية فجأة، كأنما بلمسة سحرية. كبرت وخُطبت أيضاً من وراء ظهري غدراً، الجميلات يُخطبن بسرعة البرق، ويُقطفن مثل حبات العنب الأولى الناضجة من العناقيد، في الصيف.
ولما ذكّرت أمي أمها بأنها مخطوبة لي، قالت بأني لا أحلُّ لها، فأنا أخوها بالرضاع، واختلفت أمي مع أمها حول عدد الرضعات المحرمة، فرضعتان لا تحرّمان، لكن أم هادية، قالت: إنها أرضعتني حتى الشبع، حولا كاملا، فليتني بقيت جائعا، فلَيْتَأنَّنَا، إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم. وأظنُّ أن أمي كانت تغش في عدد الرضعات، يائسةً، فهي تدرك أن ولدها الذي يلعب بالدحاحل، ويصطاد العصافير بالفخاخ والدود، لن يلحق بهادية في سباق النمو والشبوب، ولو شرب أنهارا من الحليب بالعسل.
لم أزعل كثيراً، فأنا ما أزال أخاها، وليس أجمل من أن تكون هادية الجميلة، التي صارت مثل أمها حواء، بين ليلة وضحاها امرأة تامة الحسن، أختي، وقلت معترفا بالهزيمة، أقبل بأحد الحسنين: حبيباً منصوراً، أو أخا مدحوراً.
لكن هادية تغيرتْ، ولم أعد أطمع سوى في أن تردَّ عليّ السلام. صارت الفراشة تمرُّ بجانبي في الزقاق الضيق، وهي ذاهبة إلى المدرسة، وأنا عائد منها، فدوام الذكور كان بكرةً، والإناث أصيلاً، فأسلّم عليها، فلا ترد السلام وتمضي وكأن طيفا مرّ بجوارها! فأما أني نحلت ولم تعد تراني، وأما أن خطيبها أمرها بمقاطعتي، كانت قد صارت فراشة، وبقيتُ ملتصقاً بالأرض، بالغراء الأبيض مثل غلاف الكتاب، أحمل معي علبة الغراء أينما ذهبت، بودّي أن ألصق الغيوم بالسماء، والشارع بالشارع، والشمال بالجنوب، ثم طارت الفراشة بعيداً، بعيداً جداً، إلى بلاد فيها نهر كبير، وتجري فيه زوارق عملاقة.
تركت هادية المدرسة، وكُتب كتابها، وأقيم لها عرس كبير، كان له طعم المأتم.إنه الكتاب الوحيد، الذي أشكّ أني لو وجدته ممزقاً، لأصلحته. وطلبتُ من أبي أن يفتح لبيتنا باباً على الشارع، بدلاً من الزقاق الذي ضاق عليّ كثيراً، وتراكمت في ساقيته حطام السفن الورقية الجانحة، ودفنت كنوز من الذكريات في قاعها، وصرت عاقّاً، والعقوق يوجب غضب الرب، ورفضت أن أزور بيت أمي الثانية، أم هادية، التي أرضعتني سبع رضعات سامّات مشبعات، حتى في الأعياد.
قالت لي أمي مواسيةً، وأنا أسلخ غشاوات الغراء الأبيض عن أصبعي الجريحة: ستكبر يا ولدي، يا فلذة كبدي، ويا قرّة عيني، وتصلح كتب العالم كلها، وستتزوج أحلى منها ألف مرة، وسأربي لك أحفادك وأزوجهم الحوريات. ولم أعد أرى هادية، ولا صورة لها عندي، تمنيت لو احتفظت بأحد كتبها الممزقة. كان خطها أعوج، وتتفاوت فيه موازين الحروف ومقادير حجومها، وتحوم النقاط حول أزهار الحروف مثل النحل، لكني كنت أحبّه، وأسكر به. وكنت أطلب منها أن تكتب لي اسمي بالعسل على كتبي، وعلى دفاتري، وعلى الحيطان، كما لو أنها نجم من نجوم السينما والتلفزيون، كما لو أن خطها لوحة تشكيلية خالدة.
وجفّت مياه النهر في بلدتنا، وجرت الرياح بما لا تشتهي سفني، وغرقت زوارقي في اليابسة وتحطمت. وضاعت ثروتي من كرات الدحل الزجاجية الجهنمية الألوان في المحيطات، والتصقت ذكرياتي ببعضها بالغراء حتى انطمست. آخيت بين آلاف الأوراق بالمرهم الأبيض اللاصق، واصطدت مئات العصافير، وأطلقتها من جديد، أملاً وبشرى، لكني لم أجد أجمل من هادية، وظلّ قلبي ممزقاً، وضاعت أوراقه الصفراء في الأنحاء مثل أوراق الشجر في الخريف، وكنت أنتظر أن تصلح هادية جلدة قلبي وأوراقه الضائعة، كما أصلحتُ كتبها وقراطيسها.
لقد نسيَتْ أخاها الذي شاركها حليب أمها، والغِراء النابع من صدر أمي. نسيت حبيبها الذي سافر معها عبر البحار، وسكنا في عشرات الجزر النائية، ورعيا قطعانا من الغزلان والفيلة والديناصورات الأليفة ذات المناقير، حبيبها الذي ما زال يحمل معه علبة الغراء مثل المدخنين، أينما حلَّ وارتحل، متحاملا على أوجاع ضلعه المكسور، ويصلح، بغراء روحه البيضاء التي سُلخت آلاف المرات، آلاف الكتب؛ كتب الحب والفلسفة، الدين والدنيا، العلوم والشعر، العربية والمترجمة من لغات الجن والأنس ومنطق الطير، ويبحث عن طيفها بين السطور، ووراء ظلال الكلمات، وتحت أنقاض الأرقام، وعن رائحة قشور البرتقال، التي تتضوع، عطراً وطيباً، على جمار الحنين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق