أحمد جرار.. فتى أضحى جيشا
محاضرٌ بالجامعة الإسلامية بغزة
من ينسى نصر جرار! الشيخ المجاهد البطل، المقعد الذي واجه بيد واحدة جيشا من الدبابات والطائرات والجنود، لم يظفروا به إلا بعد أن هدموا عليه المنزل الذي تحصّن فيه، بعد نجاحه في تغطية انسحاب المجموعة المرافقة له، ونجاتهم جميعا من الاغتيال أو الاعتقال، كانت صورةُ القائد الكبير، بجسمه الذي قطعت أطرافه غير يد واحدة تحملُ السلاح، من أعظم صور البطولة الحقيقية في تاريخ فلسطين.
لقد أضحى الشيخُ منذ استشهاده رمزا للإصرار والصمود والانتصار المستحيل، أمثولة حقيقية وحرفية للسير بلا قدمين، وبلوغ الغاية بلا وسائل، كأنّ في دمه شيئا مختلفا، أصليا لا مُكتسبا، طبعا جُبل عليه، لا تطبعا حاوله، يذكرون عن الشيخ نصر أنه كان زمن طفولته يحب التردد إلى المسجد، وكما هو معروف في المجتمع الفلسطينيّ، كان كبارُ السنّ -قبل عقود- يطردون الأطفال من المساجد، عاد الطفل نصر إلى منزله، وعلى سطح المنزل رسم مسجدا وصلى فيه! هذا الرجلُ منذ نعومة أظفاره، لم يعرف الهزيمة، بل كان يعرفُ كيف يشقّ بإبداع طريقه.
اليوم تعودُ صورةُ نصر جرار المُعجزة، وسيرتُه الزكيّة، ليزيّنا المجالس الفلسطينية ويعطراها، يُعيدها بطل كان في السادسة من عمره يوم ارتقى أبوه شهيدا، لعلّه لا يذكرُ منه غير قُبلة وابتسامة، لكنّه اليوم أبوه، بلحمه ودمه وعزمه الوقاد، يطلّ علينا أحمد نصر جرار حاملا سلاحه، واسم أبيه وذكراه، يخبرنا أن السرّ الذي ركبه الله في دم آل جرار قد اشتعل في شرايين الفتى، ها هو يتحدّى وحده دولة كاملة، تُشنّ لأجله الغارات، وتَتَابعُ الاقتحامات، ولا يخرجُ أعداؤه بغير الخسارة والخيبة، ويعود أحمدُنا بالسلامة والنصر.
بقدر العطش الفلسطيني الكبير لمثل هذا الرمز، يشتدُّ الخوف الصهيونيّ من تألّقه، كلّ ساعة يعيشُها أحمدُ مسلّحا مطاردا، هي حمل ثقيل على صدر المحتلّ، وكُلفة كبيرة ممتدّة أمامه |
عوامل كثيرة أدّت إلى ترميز "أحمد النصر" في وقت قياسيّ، لعلّ أهمها ما حلّ بالضفة الغربية مطلع انتفاضة الأقصى، واستمرّ حتى الآن، عملية السور الواقي، التي عاد الجيش الصهيوني خلالها لاحتلال الضفة، ثمّ عمليات "جزّ العُشب" كما سماها، التي تستهدفُ أيّ محاولة مبكرة لعودة فصائل المقاومة إلى وضعيّة مريحة ولو نسبيا، لمنع أيّ فُرصة لعمل مقاوم مسلّح في الضفة الغربية.
يضافُ إلى ذلك ما وصلت إليه الأجهزة الأمنية الفلسطينية من حالة تماه كاملة مع الاحتلال، إعادةُ بناء لأجهزة السلطة التي انهارت عقب احتلال الضفة، وإنشاؤها من جديد بلا عقيدة قتالية، بل بروح بثها "دايتون" وضباطه، في جسدِ من أسموهم "الفلسطينيين الجدد"، حتى وصل الأمرُ إلى جعل التنسيق الأمنيّ ثابتا من الثوابت، بل مقدّسا من المقدّسات، فصارت الأجهزة حامية ظهر الاحتلال، تنوبُ عنه في المهمات الصغيرة، وتنسحبُ لتتيح له مجالات الاعتقال والاغتيال في المهمات الكبيرة، في تبادل أدوار علنيّ ومخز، لم يكن ليتخيله فلسطيني في أسوأ كوابيسه.
هذه الوضعية الشاذة والغريبة في الضفة، جعلت الأرض قحطا من الرموز، إلا سنابل تنبت فجأة وتنثر حبها مرة واحدة، مثل منفذي عمليات الطعن والدهس، والمقاتلين بغير سلاح سوى العزم والمبادرة الفردية، كلّ هذا جعل الأرض الفلسطينية، وخاصة في الضفّة، شديدة العطش إلى نموذج يحملُ السلاح ويحتفظُ به، ويقاتلُ العدو وينسحبُ سالما، ثم يعيشُ مطاردا مسلحا ومطلوبا، ولو يومين! آه كم صار هذا حُلما معجزا، وكم كان أحمدُ معجزة في نفسه بما صنع!
وبقدر العطش الفلسطيني الكبير لمثل هذا الرمز، يشتد الخوف الصهيوني من تألّقه، كلّ ساعة يعيشُها أحمدُ مسلحا مطاردا، هي حمل ثقيل على صدر المحتل، وكُلفة كبيرة ممتدّة أمامه، بما يحييه هذا النموذجُ في قلوب الشباب الحالم بعودة حقيقية للمقاومة إلى الضفة، وبما يبرهنه على إمكانية أن تؤذي العدو وتنجو، ويطاردُك وتفلت، وتؤذيه وتخزيه في كل تفصيل من تفاصيل ذلك.
أنظر إلى الجنود نظرة صغار واحتقار، وأرفع إلى أحمد نصر جرار نظرة العزّ والفخر والحبّ، إلى سليل البطولة والمجد، إلى الفتى الذي أضحى وحده جيشنا "الجرار"!
الجزيرة
إنّ أحمد نصر جرار، بما قدّمه حتى الآن، هو دعوة حيّة للبطولة، نموذج ملهم ومغر بالتقليد، وخطر أكبر بكثير مما يمثله جسده الغضّ وبندقيته المتواضعة، هذا وحده هو ما يفسّر الإصرار الذي يجعل الاحتلال يُرسل جيشا كاملا، ليقتحم بلدة مرّتين في يوم واحد، من أجل الظفر بشابّ في الثانية والعشرين من عمره.
منذ أسابيع، صرح وزير الحرب الصهيونيّ "ليبرمان"، وهو يكاد يتفجّرُ غضبا، قائلا: "إنّ الفتى جرّار يلعبُ في الوقت بدل الضائع"، في إشارة إلى قرب التوصل إليه، وها نحنُ نرى الوقت بدل الضائع يمتدّ، ونرجو له أن يطول، وأن يكون عمر أحمد أطول من أعمار مهدديه.
في أوضاع كالتي نعرفُها عن الضفة، من تعاضد جهود المحتلّين والمنسقين، وفي ظلّ التركيز الكبير على أحمد النصر، أعلمُ أنّه ليس بعيدا مما ذكره باسل الأعرج في وصيته، حين قال: "وأنا الآن أسير إلى حتفي راضيا مقتنعا وجدت أجوبتي"، خوفي كبير على البطل، أتفقد أخباره بين الساعة والأخرى، وأخشى عليه الدقائق التي تمرّ علينا لاهين، وهي عنده وعند عدوّه تعدلُ سنين، وأدعو له، لكنني منذ فشل الاقتحام الأول، وخروج العدوّ بفضيحة وخسران، أعدُّ أحمد قد منحنا الأجوبة كاملة، وقدّم المثل، وكلّ ما جاد به بعده، وما زال يجود، فهو زيادة ميمونة.
لا أعلمُ إن كانت هذه الكلمات ستصلُ أحمد، لكنها إن بلغته، فإنه يسرّني أن يراني -ببُعدي وضعفي- أرفعُ به رأسي، وأنظرُ إلى مئات الجنود الذين يترصدونه، ويشهرون ما طاب لهم من الأسلحة، ويهدمون البيوت في الطريق التي ضلوها نحوه، أنظر إليهم نظرة صغار واحتقار، وأرفعُ إليه نظرة العزّ والفخر والحبّ، إلى سليل البطولة والمجد، إلى الفتى الذي أضحى وحده جيشنا "الجرار"!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق