فسطاط الغوطة.. وأيام لا تُنسى

فسطاط الغوطة.. وأيام لا تُنسى

 د. أحمد موفق زيدان

من الأحلام التي داعبتني على مدار ثلاثة عقود في ديار الهجرة والغربة القسرية التي فرضها علينا المقبور حافظ الأسد ثم نجله القاصر بشار بُعدا عن أهلنا وأحبابنا، كان حلم يطاردني كظلي، وهو أنه كلما ذكر أحد من أصدقائي الغوطة وبساتينها ومياهها والحياة فيها وهواءها، أتحسر وأكابد الشوق والحنين مكابدة لا يعلم أحد مداها إلا من كابد العشق وأدركه بعد طول أمل وانتظار..

     

لكن مع تمتع الطرف الآخر بذكر جمائل وأوصاف وخمائل الغوطة، كان القهر والشوق يغليان في داخلي، فكيف لأجنبي أن يصل ويستمتع بالشام وغوطتها وأنا ابن الشام محروم منها منذ أن كان عمري 17 عاما، فهل قُدت انقلابا على الطاغية وأهله أم سلّمت الجولان أم بعت القنيطرة لأُلاحق وأطارد بهذا الشكل مع معاناة أهل وأقارب.. لكن، ثبت لاحقا و بالدليل الملموس أن أوراق الاعتماد للارتقاء في السلطة وما فوقها، هو القيام بذلك كله، من تسليم جولان وبيع قنيطرة وخيانة للأمة، فكانت أسرع سلم للطائفيين في الشام للوصول إلى السلطة واغتصابها.

    

 كانت رحلة قاسية على الذات، ولكن ما أروحها على النفس يوم يسّر الله تعالى لي النزول إلى الغوطة الغناء من أجل تغطية الثورة الشامية العظيمة؛ المسافة التي كان عليك أن تقطعها بين إدلب ودمشق بالحالة العادية أربع ساعات، اليوم علينا قطعها بأكثر من 18 ساعة عبر صحراء وطرق ملتوية تلتف بها على مواقع العصابات الطائفية لتصل إلى الغوطة الغناء، و يوم أطلّت علينا الغوطة وبساتينها التي كانت من أروع الأيام التي عشتها، ولا أزال أتذكرها بشوق وحنين يتعذّر علي وصفه.

    

الغوطة فضحت تخاذلكم وصمتكم ووحشيتكم.. أنتم وحوش لا يمكن أن تتصالحوا مع غوطة الخضرة والجمال والتاريخ والمصالحة

كانت طلّة أهلها الطيبين وهم يخرجون من بيوتهم إلى حواكيرهم وبساتينهم في ذلك الصباح الندّي الجميل، فهنا مقام أبي موسى الأشعري، وهنا مسجد حرملة بن الوليد بجوبر، ومن هنا دخل أبو عبيدة بن الجراح ومن هناك دخلت جيوش خالد، ولعل قدمي اليوم وهي تطأ أرض الغوطة قد تشرفت بأن تمشي وتسير على نفس الخطى التي سار عليها صحابة قضوا هنا وعاشوا وأقاموا أكبر دولة إسلامية كما قال شوقي..

    

حياة الناس في الغوطة.. حياة ملؤها الأصالة والحب الحقيقي، مع تمدن و أصالة عريقة في الحب والوفاء والعمل الجماعي الذي تجذّر أكثر وأكثر خلال الثورة الشامية، فالمصائب تجمع المصابين كما يقول شاعرنا.. فعن أي بلدة غوطانية أحدثكم، عن دوما وأهلها الطيبين وحبهم لبعضهم وتماسكهم تماسكا قد يغبطهم عليه الكثيرون، أم على حمورية وكفر بطنا، ومسرابا وزملكا، وجسرين يوم نزلنا ببيت كاتبنا ومؤرخنا محمد كرد علي رحمه الله، وغيرها من أسماء البلدات التاريخية الرائعة التي لها رنين في تاريخ الأمة كلها..

   

أستذكر كل شارع وكل زقاق وكل مكان جميل قضيت مع أهله في الغوطة أياما حقيقة وواقعا لا ينسى، فالمشافي كانت خلية نحل حقيقية، ومعها المدارس و روضات الأطفال التي بُنيت بطريقة جميلة رائعة تحت الأرض خوفا من القصف الهولاكي البريري الإجرامي على الشام وأهلها.. كان الكل في حالة حرب حقيقية، وسط تناغم وانسجام مجتمعي قلّ نظيره، لمست ذلك يوم كنت أخرج من دوما باتجاه كفر بطنا لأرى صناديق الخضار والفواكه مكشوفة وسط الأسواق وأمام المحلات دون أن يمد أحد يديه إليها، ومما عزز الأمن والاستقرار فيها بحسب ما علمت من الثوار، تمكنهم مبكرا من التخلص من الجواسيس والعملاء، وهو ما دفع البقية الباقية إلى أن يتشردوا في الأرض خشية من مصير محتوم ينتظرهم، وهو ما أخلى الجو تماما للعمل الثوري، فكان الانسجام أكبر بين الفصائل والأهالي، وإن كان تنازع الفصائل في الفترة الأخيرة ألقى بظلال سلبية على العمل العسكري والثوري، ولكن هذا كله يُفهم وينبغي أن يُفهم على أنه خلاف مناطقي بلداتي متلفع أحيانا بإيديولوجيات رقيقة القشرة.

     

لكل شيء طعم آخر في الغوطة، هواؤها وماؤها وأهلها وترابها، كنت كمن يكتشف نفسه من جديد، كنت أود أن يعرف العالم كله وتحديدا أصدقائي الذين كانوا يتباهون بزياراتهم للغوطة أنني هنا، كنت أود أن تصل الرسالة إلى زميلة عملت معنا في الجزيرة قبل أن تنقلب على كل أخلاقيات المهنة والصحافة بشكل فج،  فلا زلت أتذكر ما قالته لي في يوم جزيري لا أنساه في ساحة من ساحات الجزيرة حيث جمعنا العمل سوية، قالت بحقد مبطن (لن تدخل سوريا أبدا). وذلك قبل ثلاث سنوات من الثورة الشامية، يومها أيقنت أنني سأدخلها رغما عنها، فالكبرياء إزار لله تبارك وتعالى لا ينازعه فيه أحد، وتذكرت ساعتها وأنا أغطي لقناة الجزيرة من جوبر قرب ساحة العباسيين، كيف أنقل على الهواء مباشرة الأخبار بينما هي ورئيسها لا يقويان على الوصول إلى ما وصلت إليه..

    

الغوطة ستظل علامة فارقة في حياتي يوم دخلتها وغطيت ثورتها وعرفت أهلها الطيبين عن قرب، وستظل الغوطة علامة خزي وعار وذل على مجتمع دولي لا بشري وهو يرى سحق أهلها بكل أسلحته وإبداعاته التدميرية الرهيبة، ستظل وصمة عار يوم تقرأ الأجيال كيف عجزت البشرية كلها اليوم عن إدخال علبة حليب أو دواء واحدة للغوطة، بينما أطفالها يتضورون جوعا ويموتون صبرا وجوعا. ماذا فعلت لكم الغوطة لتنتقموا منها هكذا عربا وعجما؟.. ماذا فعلت بكم الغوطة حتى تفتكوا بكل شيء عجز المغول والتتار والفرنسيون عن فعل عشر معشاره.. والأعجب أن يطالب رئيس فرنسي عجزت قواته في العشرينيات من القرن الماضي عن إخضاع أجداد ثوار الغوطة، اليوم بإخراج مئات الآلاف من المدنيين ولا يطالب بإخراج طاغية الشام الذي تسبب بكل ما يحدث، يطالبهم بالخروج وتحقيق حلم الطائفيين من التهجير والتغيير الديمغرافي الرهيب الذي لم يسبق له في التاريخ مثيل.. ماذا فعلت لكم الغوطة..؟ لأنها فضحت تخاذلكم وصمتكم ووحشيتكم.. أنتم وحوش لا يمكن أن تتصالحوا مع غوطة الخضرة والجمال والتاريخ والمصالحة .. لأنكم وحوش يليق بكم ما يليق بالوحوش.. أما الغوطة فبحاجة لمن يليق بها.. ذاك هو عين اليقين