توحيد الرجال.. وتوحيد العبيد
ساري عرابي
لا ينحصر فقهاء السوء، أوفلنسمهم الفقهاء العب يد، في تيار واحد، وبصرف النظر عن تجاوزنا في إطلاق الفقاهة عليهم اختصارًا، وتحاشيًا للشرح والتطويل في البحث عن الأوصاف وبيان التصنيف، بصرف النظر عن ذلك، فإنّهم وبالرغم من انتشارهم في تيارات شتّى تنسب نفسها لمدارس عقدية وفقهية متعددة ومتنافرة، فإنّ بعضهم اشتهر بتقديم العبودية لغير الله في ثوب التوحيد، فاقترف جناية مضاعفة، فهو خائن بصفته الذاتية الفردية أولاً، ثم لصفته العلمية إن كان عالمًا، أو لما يمثّله باعتبار وظيفته الدينية، ثم لجريمته العظمى في تشويه التوحيد، وقلب حقائقه ومعانيه ومقاصده ومراميه، حينما جعله صنو العبودية لغير الله، أو عينها!
ولم يكن مثل هذا الصنف مشتهرًا عندنا في فلسطين، لغلبة الاتجاهات الإسلامية الحركية الجهادية على المجال الديني، ولأنفة الفلسطينيين ونزعة التمرّد التي اتّسموا بها، إلا أن هذا الصنف بات له صوته عندنا، نسمعه بين فينة وأخرى من على منابر الجمعة، لأسباب ليس هذا مقام شرحها، غير أن وجوده في فلسطين بالغ الشذوذ والغرابة، فهو طارئ من جهة، ولا تحتمل أمثالَه ظروفُ الصراع والمواجهة من جهة أخرى.
إن كان قد "تعس عبد الدينار، والدرهم، والقطيفة، والخميصة"، فقد تعس كذلك عبد الحاكم، العبد الذي يتصور أن الحياة والموت والرزق بيد الحاكم، وتعس العبد الذي يتصوّر أن العدوّ المدجج مطلق القدرة |
وهو بذلك ينفي بلسان حاله صفة الظلم والعدوان عن العدوّ الخارجيّ، ويَعدُّ، بلسان حاله كذلك، حاكمه معصومًا، ويُخرِج من خطابه المفردات القرآنية التي من قبيل الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، اللهم إلا أن ينكر على العامّة ومخالفي حكّامه، ويصير المعروف عنده تمامَ الخضوع للظالم، وإخراجَ الجهاد من أولويات المسلمين!
ثم يسمّى تقيّحاته العقلية والنفسية والسلوكية توحيدًا نقيًّا خالصًا، ويتّهم عامّة المسلمين، ويخصّ منهم مجاهديهم، بالجهل بالتوحيد، أي توحيده هو، وتشقيقاته الكلامية التي لا يُطالَب بها العامّة من الناس، مع أن مخالفي مذهبه، طالما قادوا -في تاريخ المسلمين- الجيوش التي يقاتِل فيها البرّ والفاجر والسنّيّ والمبتدع، وانتصروا!
وكأنّه بذلك، إذ يستقوي بلسان الدين المزيّف، على ضعاف الناس ومضطهديهم، وعلى طلائعهم في الحقّ والخير، كأنّه مجرّد نموذج بدائيّ؛ لشرار الناس في آخر الزمان قبل قيام الساعة، الذين هم في "خِفَّةِ الطَّيْرِ وَأَحْلَامِ السِّبَاعِ، لَا يَعْرِفُونَ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُونَ مُنْكَرًا"، بيد أن هؤلاء الذين في آخر الزمان تَبَعٌ مباشرون صرحاء للشيطان إذ يناديهم عيانًا فيستجيبون، بينما هذا يجعل الدين ذريعة ووسيلة لباطله، فدماء المظلومين حيثما سُفكت وأعمارهم المذبوحة في السجون؛ معروف يستوجب الحمدَ، يُحسِن به الحاكم إلى الناس، ووقفة المظلومين آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر مجاهدين للعدوّ؛ منكر يقترفونه آثمين مجرمين!
وإن كان الفقهاء العبيد، باختلال ميزانهم، نموذجًا أوّليًّا لشرار الناس الذين تقوم عليهم القيامة، فإنّ لهم مقابلاً تامًّا، وهم الذين جاء ذكرهم في الحديث "سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَرَجُلٌ قَامَ إِلَى إِمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ، فَقَتَلَهُ"، فإنّهم نموذج متقدّم لأصحاب المواقف الثابتة في الأهوال العظيمة في آخر الزمان، كما في الحديث الذي عنى رجلاً من المؤمنين يعمَدُ الدجّال ليصدّه ويعرّف الناس به، إذ قال عنه النبي -صلّى الله عليه وسلم- "هَذَا أَعْظَمُ النَّاسِ شَهَادَةً عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ".
فتوحيد الرجال هو علمهم بأنّ الأمر كلّه بيد الله تعالى، فلا يمتنعون عن دعاء وليّ ميت فحسب، أو ينهون الناس عن ذلك فحسب، ولكنهم يَعْلَمون أن السلطان لا يملك أرزقاهم ولا حيواتهم، فهم في أقلّ أحوالهم يجتنبونه إن كان ظالمًا ويكفّون ألسنتهم عن نصرة باطله وظلمه وبغيه وعدوانه، وهم في أرفع أحوالهم يأمرونه وينهونه، وإن كان عدوًّا يجاهدونه، وتوحيدهم كذلك علمهم؛ أن من وقع عليه الظلم هو مظلوم جدير بالنصرة وإن كان عاصيًا، وأن الظلم معصية كبرى حتى أطلقه الله جلّ وعلا وصفًا للشرك الذي هو أعظم ما يقترفه البشر من الذنوب.
ما بين النار التي أوقدت لإبراهيم عليه السلام، ونار الدجّال التي توقد للمؤمنين، تشتعل نيران الظالمين على مرّ القرون، يختارها الموحّدون إذ يختارون حرّيتهم وكرامتهم الآدمية |
وانظر إلى دعاء المؤمنين في افتتاح صلاتهم، ثم في الوصف الجامع للصراط المستقيم الذي هو ملّة إبراهيم، عليه السلام، في قوله تعالى: "قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (*) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (ّ*) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ"، وإلى قول إبراهيم، كما نقله القرآن "قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (*) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (*) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (*) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (*) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (*) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (*) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (*) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ".
فلمّا كان إبراهيم على ذلك الصراط، غلب توحيدُه من قال "أنا أحيي وأميت"، وغلب النارَ التي أوقدت له، وكذا من كان على صراطه من المؤمنين في طول التاريخ وعرضه، فغلب توحيدُ المؤمنين نارَ أصحاب الأخدود ففازوا فوزًا كبيرًا، وظلّوا كذلك إلى أن يدخل مؤمنون نارَ الدجّالِ، وما بين النار التي أوقدت لإبراهيم، ونار الدجّال التي توقد للمؤمنين، تشتعل نيران الظالمين على مرّ القرون، يختارها الموحّدون إذ يختارون حرّيتهم وكرامتهم الآدمية وكمال إنسانيتهم وتمام رجولتهم، ويدخل نقيضَها؛ الجنّةَ الزائفةَ، الفقهاءُ العبيد، الذين ما ترك قولهم "الله أكبر" في نفوسهم أثرًا، ولا اتجهوا بقلوبهم لربّهم، إذ اتجهت قلوبهم جزعًا وطمعًا، لمن زعم -من المخلوقين مثلهم- أنّه يحيي وميت، وأنّ له الملك والأنهار تجري من تحته، فعبدوه واستعانوا به، ثم نهوا الناس عن دعاء القبور!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق