السلطان عبد الحميد الثاني.. رجل زمانه (1876-1909م)
د. علي الصلابي
مؤرخ وفقيه ومفكر سياسي
في الذكرى المئوية لوفاته، وتخليدًا لتلك الحادثة التاريخية المهمة، كان لا بد من الاحتفاء بالسلطان العثماني عبد الحميد الثاني والتذكير بسيرته وأعماله وطبيعة حكمه وخدماته الجليلة للأمة والأخطار في عهده ونهاية حكمه. والوقوف على أهم محطات عهد ذلك السلطان الفذ والقائد الإسلامي الكبير الذي زاد عن حمى المسلمين عقودًا ووقف في وجه الأمواج العاتية والأخطار المحدقة التي أحاطت بالأمة من شرقها وغربها
لقد دخل الأتراك في الاسلام في عهد الخليفة الراشدي عثمان بن عفان منذ، وأصبحوا ضمن الجيوش الإسلامية منذ عهد الخلفاء الراشدين. وكان للأتراك مواقف عظيمة في وجه أعداء الأمة وخاصة السلاجقة الذين وقفوا ضد البويهييين والفاطميين في بغداد والقاهرة وكانوا لهم جهود في الحفاظ على دين الإسلام من التحريف والانهيار في تلك المرحلة العصيبة من تاريخ الأمة، وخاصة في عهد السلطان (الخليفة) عبد الحميد الثاني في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي.
1- عبد الحميد الثاني: النشأة الاجتماعية والثقافية
تأثر الأمير عبدالحميد برحلته إلى أوروبا ودفعه ذلك التأثر إلى الاهتمام بإدخال المخترعات الحديثة في دولته في مختلف نواحي الحياة: تعليمية وصناعية ووسائل اتصالات وعسكرية |
عبدالحميد هو السلطان الرابع والثلاثون من سلاطين الدولة العثمانية. تولى عرش الدولة وهو في الرابعة والثلاثين من عمره. إذ ولد في 21 أيلول/ سبتمبر 1842. والده هو السلطان عبدالمجيد الأول صاحب أكبر عمليات إصلاح مادية واجتماعية في الدولة أما والدته فهي السلطانة تير يمو جغان توفت وهو ابن العشرة أعوام، فتولت أمر الاهتمام به زوجة والده التي لا تنجب وهي السلطانة بيريستو واهتمت به وكأنه ولدها الحقيقي. وفي عام 1861م توفي والده، وتولى تربيته عمه السلطان عبدالعزيز، واصطحبه في أسفارة وأعماله الدبلوماسية.
تلقى عبدالحميد تعليمًا منتظمًا في القصر السلطاني على أيدي نخبة مختارة من أشهر رجالات زمنه علماً وخلقاً. وقد تعلم من اللغات العربية والفارسية، ودرس التاريخ وأحب الأدب، وتعمق في علم التصوف، ونظم بعض الأشعار باللغة التركية العثمانية.
2- زيارة الأمير عبد الحميد الثاني لأوروبا
قام عمه السلطان عبدالعزيز بزيارة أوروبا يرفقه وفد عثماني رفيع المستوى وكان من ضمنه الأمير عبدالحميد الذي ظهر أمام الأوروبيين بملابسه البسيطة وسيرته الحميدة في العفة. وقد استفاد الأمير عبدالحميد في هذه الرحلة بمطالعات واسعة، فإنه كان دقيقاً في رؤيته، وفي حكمه على الأشياء التي رآها في الغرب. ولقد التقى الوفد العثماني بساسة ذلك العصر في أوروبا مثل؛ نابليون الثالث في فرنسا، والملكة فكتوريا في إنجلترا، وليوبلد في الثاني في بلجيكا، وغليوم الأول في ألمانيا، وفرنسوا جوزيف في النمسا، وقد استغرقت الزيارة من 21 حزيران/ يونيو إلى 7 آب/ أغسطس من عام 1867م. وفي هذه الرحلة الأوروبية، تفتح ذهن عبدالحميد إلى أمور كثيرة، انعكست على فترة حكمه كلها بعد ذلك. وهذه الأمور هي:
1- الحياة الأوروبية بكل ما فيها من طرق معيشة غريبة وأخلاقيات مختلفة وشكليات.
2- التطور الصناعي والعسكري وبخاصة في القوات البرية الفرنسية والألمانية وفي القوات البحرية البريطانية.
3- ألاعيب السياسة العالمية.
4- تأثير القوى الأوروبية على سياسة الدولة العثمانية.
اقتنع الأمير عبدالحميد في هذه الرحلة: أن فرنسا دولة لهو، وإنكلترا دولة ثروة وزراعة وصناعة. أما ألمانيا فيه دولة نظام وعسكرية وإدارة وكان إعجابه بألمانيا كثيراً، لذلك عهد بتدريب الجيش العثماني إليها - عندما أصبح سلطاناً- ولقد تأثر الأمير عبدالحميد بهذه الرحلة ودفعه ذلك التأثر إلى الاهتمام بإدخال المخترعات الحديثة في دولته في مختلف نواحي الحياة: تعليمية وصناعية ووسائل اتصالات وعسكرية، والأمثلة على ذلك كثيرة منها: شرائه غواصتين وكان سلاح الغواصات جديداً. وأدخل التلغراف إلى بلاده من ماله الخاص، وأنشأ المدارس الحديثة، وأدخل فيها العلوم العصرية، وأدخل إلى البلاد أول سيارة وأول دراجة، وأخذ بنظام القياس المتري. لكنه وقف بحزم ضد سريان الفكر الغربي في البلاد.
أثرت رحلة عبدالحميد إلى أوروبا أيضاً في اتباعه سياسة استقلالية تجاه أوروبا. ولم يعرف عن عبدالحميد تأثير أي حاكم أوروبي عليه، مهما كانت صداقته ومهما كانت درجة التقارب بين بلده وبين الدولة العثمانية، وكان عمر عبدالحميد أثناء هذه الرحلة 25 عامًا. وعلى الرغم من تأثر الأمير عبد الحميد بالنهضة الحداثية الغربية إلا أنه استطاع بذكائه وخبرته أن يُفرق بين أمرين، وهما: الاستعانة بتجارب الأمم والتقنية العصرية، وبالمقابل الحفاظ على أصالة الأمة وقيمها وعقديتها وتراثها.
استطاع السلطان عبد الحميد تأخير سقوط الدولة العثمانية بسياسته التي جنبت الدولة العثمانية الدخول في صراعات مع الدول الكبرى قدر الإمكان، واهتمامه بالتعليم والبعثات التعليمية وتطوير مؤسسات الدولة
مواقع التواصل
3- تولى السلطان عبد الحميد الحكم وإعلان الدستور
تولى عرش السلطنة بالخلافة بعد تنحية أخيه مراد، وذلك يوم الخميس في 31 آب/ أغسطس 1876م. وكان عمره آنذاك أربعًا وثلاثين سنة، وحضر لمبايعته الوزراء والأعيان وكبار الموظفين من مدنيين وعسكريين في سراي طوبقبو. وهنأه كذلك رؤساء الطوائف المختلفة، وأطلقت المدافع بسائر أطراف السلطنة احتفالاً بهذه المناسبة. وأقيمت الزينات بجميع جهات استانبول ثلاثة أيام وأرسل الصدر الأعظم برقيات إلى دول العالم لإعلامها بذلك.
كان السلطان عبدالحميد قد عين مدحت باشا صدراً أعظم، ثم أعلن في 23 كانون الأول/ ديسمبر 1876م الدستور الذي يضمن الحريات المدنية، وينص على مبدأ الحكومة البرلمانية. هذا الدستور، كان البرلمان يتكون من مجلسين: مجلس النواب أو المبعوثان ثم مجلس الأعيان أو الشيوخ.
وقد تعرض السلطان عبدالحميد في بداية حكمه إلى استبداد الوزراء واشتداد سياستهم التغريبية بقيادة جمعية العثمانيين الجدد، والتي كانت تضم النخبة المثقفة التي تأثرت بالغرب والتي استطاعت الأيدي الماسونية تجنيدهم لخدمة أهدافها، وقد بلغ من استبداد الوزراء بالحكم، أن كتب مدحت باشا، وهو في مقام الرئاسة لنخبة العثمانيين الجدد، إلى السلطان عبدالحميد في أول عهده بالعرش (1877م): (لم يكن غرضنا من إعلان الدستور إلا قطع دابر الاستبداد، وتعيين ما لجلالتكم من الحقوق وما عليها من الواجبات، وتعيين وظائف الوزراء، وتأمين جميع الناس على حريتهم وحقوقهم، حتى تنهض البلاد إلى مدارج الارتقاء، وإني أطيع أوامركم إذا لم تكن مخالفة لمنافع الأمة..). ويقول السلطان عبدالحميد في هذا: (ولقد وجدت مدحت باشا ينصّب نفسه آمرًا ووصيًا عليّ. وكان في معاملته بعيدًا عن المشروطية (الديمقراطية) وأقرب إلى الاستبداد).
وقد أمر السلطان عبدالحميد بأن يوضع الدستور موضع التنفيذ، وبأن تجرى انتخابات عامة، كانت الأولى من نوعها في التاريخ العثماني. وقد أسفرت تلك الانتخابات على تمثيل المسلمين بـ (71) مقعداً والنصارى بـ(44) مقعداً واليهود بـ (4) مقاعد. واجتمع أول برلمان عثماني في 29 مارس عام 1877م. وكان مجلس الأعيان والشيوخ يتكون من 26 عضواً بالتعيين من بينهم 21 مسلماً، في حين كان مجلس النواب يتكون من مائة وعشرين عضواً.
وقد قام بعض نواب العرب بدور هام خلال المناقشات، غير أن مجلس المبعوثان كانت مدته قصيرة؛ فقبل أن يتم المجلس دورة انعقاده الثانية، طلب النواب في 13 فبراير عام 1878م أن يَمثل ثلاثة من الوزراء أمام المجلس للدفاع عن أنفسهم من الاتهامات الموجهة إليهم، فما كان من السلطان إلا أن عطل المجلس وأمر بعودة النواب إلى بلادهم، وقام بنفي وإبعاد البارزين منهم. وبذلك بلغت مدة انعقاد المجلس خلال دورته الأولى والثانية عشرة شهور وخمسة وعشرين يومًا، ولم يدع هذا المجلس للاجتماع ثانية لمدة ثلاثين عامًا.
لقد كان السلطان عبدالحميد مضطرًا لإعلان الدستور بسبب الضغوط التي مارسها عليه ممثلو الاستخبارات الغربية، ولذلك عندما أتحيت له الفرصة قام بتعطيل المجلس. وقد كان عبدالحميد الثاني ضد الديمقراطية والحكم بالدستور الذي يعرف في المصطلح العثماني باسم "المشروطية" أي الاشتراط على الحاكم بتحديد سلطاته، على اعتبار أن هذا فكر وافد من الغرب، ولذلك كان ضد المنادين به.
ومن الأسباب التي يسوقها السلطان عبدالحميد في رفضه للفكر الدستوري قوله: (إن الدولة العثمانية دولة تجمع شعوبًا شتى، والمشروطية في دولة كهذه موت العنصر الأصلي في البلاد. وهل في البرلمان الانكليزي نائب هندي واحد؟ وهل في البرلمان الفرنسي نائب جزائري واحد؟).
استطاع السلطان عبدالحميد الثاني رحمه الله وخلال فترة حكمه الحفاظ على تماسك الدولة وبنيتها بعد أن عانت من ضربات موجعة على مدار أربعة قرون خلت نتيجة مؤامرات داخلية وخارجية
مواقع التواصل
مرّض عصر السلطان عبدالحميد بظروف عصيبة، وأزمات شديدة، وتآمر عالمي على الدولة العثمانية من الداخل والخارج، فشرع في إصلاح الدولة وفق التعاليم الإسلامية لمنع التدخل الأوروبي في شؤون الدولة وحرص على تطبيق الشريعة الاسلامية وقام بإبعاد الكتّاب والصحفيين عن العاصمة، وقاوم كافة الاتجاهات الغربية المخالفة للحضارة الاسلامية المجيدة في ولايات الدولة، واستطاع أن يشكل جهاز استخباراتي قوي لحماية الدولة من الداخل، وجمع معلومات عن أعدائه في الخارج. وكما اهتم بفكرة الجامعة الاسلامية وحقق بها نتائج عظيمة، واهتز الأوروبيون من هذا التفكير الاستراتيجي العميق وعملوا على تفتيتها عبر مؤتمرات واجتماعات بينهم كان من أخطرها مؤتمر برلين عام 1887.
ومؤتمر برلين الذي حضره ممثلون عن الدول الكبرى (انكلترا، فرنسا، ألمانيا، النمسا)، وجرى البحث في هذا المؤتمر تعديل معاهدة سان ستفانو التي عقدت بين روسيا والدولة العثمانية بما يتفق ومصالحها. واتفق المؤتمرون على تعديل معاهدة سان استفانو وعقدت معاهدة برلين والتي تناولت فصل أجزاء واسعة من ولايات السلطنة العثمانية وضمها للدولة الغربيى (استقلال بلغاريا، وضم البوسنة والهرسك للنمسا، ووضم قارص وردهان وباطوم وبسارابيا لروسيا، وتوسيع حدود اليونان على حساب السلطنة) والإبقاء على الغرامة الحربية التي قررتها معاهدة سان استفانو على الدولة العثمانية ومقدارها 2.5 مليار ليرة ذهبية.
فكان مؤتمر برلين من المعالم البارزة لتدهور الامبراطورية العثمانية التي أرغمت على التنازل عن مساحات واسعة من أملاكها. كما أنه يسجل تعهد بريطانيا وفرنسا بالمحافظة على ممتلكات الدولة العثمانية. غير أن بريطانيا وفرنسا قد كشفتا عن نواياهما الاستعمارية، فقد احتلت فرنسا تونس عام 1881م، نظير احتلال بريطانيا لقبرص واحتلت بريطانيا مصر عام 1882م معلنة أن احتلالها مؤقت.
وهكذا كانت النتيجة من الحرب بين الدولة العثمانية وروسيا ولمواجهة هذه الأوضاع المتردية كان على السلطان أن يتخذ لقب الخلافة لمواجهة التحديات الجديدة، وعمل على إنشاء الجامعة الاسلامية لكي يعمل على تكتل كافة المسلمين من حوله في الداخل والخارج.
استطاع السلطان عبدالحميد الثاني رحمه الله وخلال فترة حكمه الحفاظ على تماسك الدولة وبنيتها بعد أن عانت من ضربات موجعة على مدار أربعة قرون خلت نتيجة مؤامرات داخلية وخارجية، فاستطاع تأخير سقوط الدولة العثمانية بسياسته التي جنبت الدولة العثمانية الدخول في صراعات مع الدول الكبرى قدر الإمكان، واهتمامه بالتعليم والبعثات التعليمية وتطوير مؤسسات الدولة، والتسامح الذي أظهره مع جميع مواطني دولته من شتى الأديان، وكشف المؤامرات الداخلية والخارجية المختلفة التي كانت تستهدفه ودولته، وأنجز أعظم مشروع في زمانه وهو فكرة الجامعة الإسلامية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق