عن"خورتية" الغاز الإسرائيلي
الأسوأ من التبعات الاقتصادية والسياسية لفضيحة استيراد الغاز الإسرائيلي وإسالته في مصر، هو إسالة المفاهيم الوطنية والأخلاقية، الأمر الذي يتحول معه تعريف الوطن من كيان مقدس، زمانياً ومكانياً، إلى ما يشبه الأكشاك على الطرق السريعة، يبحث عن الربح، بأي وسيلةٍ وتحت أي شرط، بدلاً من البحث عن المجد والعزة والكرامة الوطنية.
في هذه اللحظة المجنونة، تصبح قطرة دم الشهيد أرخص من "شيكل" صهيوني، وتصير ذكريات الحروب، بانتصاراتها وانكساراتها، أقل أهميةً من لقطات ساخنة في فيلم تجاري، منخفض القيمة، عديم المعنى، ويتحول المواطن إلى مجرد "خورتي"، هذا الكائن البشري الذي ظهر عقب "كامب ديفيد"، وانفتاح الأرض المصري أمام العدو الذي يغزوها هذه المرة، سائحاً، لا محارباً.
عرّف تحقيق صحافي مضت عليه عقود في صحيفة الحياة "الخورتية" بأنها مهنة جديدة انتشرت منذ سنوات قلائل، في جميع المدن السياحية في مصر. وتطلق كلمة "خرتي" على كل من يعمل لدى "بازارات" الأنتيكات والتحف والعطور الشرقية والجلود.
ومهمة "الخرتي" اصطياد السائحين، فرادى أو جماعات، من شوارع القاهرة، وإقناعهم بشراء بضائع من البازار الذي يعمل هو لحسابه. وفي حال موافقة السائح، وشرائه شيئاً من البازار، يصبح لهذا "الخرتي" الحق في مكافأتين ماليتين، واحدة من صاحب البازار الذي باع، وأخرى من السائح الذي اشترى.
كانت تلك بواكير ما يمكن وصفها إسالة القيمة والتاريخ والمبدأ والمعنى، تحت تأثير حرارة اللهاث عن المكسب، من خلال جلب ما يريده الصهيوني العائد على أمواج التطبيع السياحي، من دون أن يتوقف الباحث عن الربح عند أشياء كنا نظنها محفورةً في الوجدان، وموشومةً على الجلد، مثل حكايات البطولة والاستشهاد في الحروب من أجل تطهير التراب المدنس باحتلال العدو، في السويس والقنطرة وسيناء وغزة وكل فلسطين.
في تلك الأجواء، نشط القوميون والناصريون في تكوين جبهاتٍ تتصدّى لطوفان التطبيع، وتقاوم الاعتداء على الذاكرة الوطنية والثقافة القومية، وتدّعي الذود عن تسييل الذات الوطنية في صفقات"الخورتية"، فظهر في ذلك الوقت الجندي سليمان خاطر، مدشّناً ملحمةً فرديةً عنوانها مقاومة الغزو الصهيوني، السياحي، وهي الملحمة التي انتهت بالجندي البطل شهيداً، بعد أن عثروا عليه مشنوقاً في زنزانته، وكان آخر من التقاه فيها مكرم محمد أحمد، رئيس تحرير مجلة المصور الحكومية في ذلك الوقت، وصاحب السجل التطبيعي المتخم بما لا يشرف أحداً.
في تلك الفترة أيضاً، ظهر تنظيم ثورة مصر، بقيادة محمود نور الدين، وخالد ابن جمال عبد الناصر، وأخذ ذلك التنظيم على عاتقه مواجهة كل أشكال الغزو التطبيعي الصهيوني بالقوة، وكان التنظيم، ولا يزال، كما وصفته سابقاً بمثابة "شعر بنت الأخت" لكل ناصري وناصرية، ولكل من يدّعي وصلاً بالقضية، حتى أن مصطفى بكري عبأ كتاباً، مليئاً بالهتافات والتشنجات الحنجورية، عن تنظيم ثورة مصر حمل عنوان "ثورة الابن"، تحدّث فيه كالعادة عن عار التعامل مع العدو الصهيوني.
الآن مكرم محمد أحمد صار حاكمدار الإعلام المصري، ومصطفى بكري ناشطاً في جبهة الدفاع عن عبد الفتاح السيسي الذي جعل كل أيام إسرائيل أعياداً، وبات قرّة أعين جنرالات العدو وحاخاماته، وبات لدينا قومجيون وناصريون ومناضلون على مذهب أفيخاي أدرعي، يبرّرون فضيحة استيراد الغاز من الصهاينة بأنه من أجل الإسالة وإعادة التصدير، وليس للاستعمال المنزلي، وهذا بالضبط منطق "الخورتية"، يوفرون للزبون كل شيء يريد استعماله، من المكان إلى السلعة، لكنهم لا يدخلونه إلى بيوتهم.
يحتفل هؤلاء بإسالة الغاز الإسرائيلي التي ستدعم الكيان الصهيوني بنحو 15 مليار دولار، في اللحظة نفسها التي يبتهجون فيها بإلحاق عبد المنعم أبو الفتوح بمحمد أبو تريكة ومئات من أنبل من أنجبت مصر، على لائحة الكيانات الإرهابية.
وذلك هو بالضبط جوهر كارثة الثلاثين من يونيو 2013، فهل علمت الآن لماذا سخر الكيان الصهيوني كل إمكاناته لإنجاح العملية، واعتبرها انتصاراً لا يقل أهميةً عما جرى في نكسة 1967 و انتحار كامب ديفيد؟.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق