من إشارات القرآن... الحذرُ من توهين العَزائمِ
الصادق الغرياني
"وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِالله فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ فَقَالُوا عَلَى الله تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ"
لمّا غُلبَ السحرةُ، وظهرتْ المعجزة، ما آمنَ لموسى عليه السلام إلَّا ذريةٌ من بني إسرائيل، بعض من شبانِهم، على خوفٍ مِن فرعونَ وملَئِهم أن يفتنهم، خشيَ موسَى عليهم - والدعوةُ في بدايتها - أن يضعفوا أمامَ إرهابِ فرعونَ وملئه، فيُصانعُوهم، ويَلجؤُوا إلى الحلول الوسط، أو إلى التقيةِ، بأن يُظهروا أمامَ فرعونَ أنّ إيمانَهم بموسَى ليس حقيقَة، حتى يأمنوا بغيَهم.
خاف موسى ذلك علَى قومِهِ لئلا تموت الدعوة؛ فناداهُم محرّكًا مشاعرَ الإيمانِ الذي اعتنقُوهُ في قلوبهم، وقال: "يا قومِ؛ إنْ كنتم آمنتمْ باللهِ فعليهِ توكلُوا إنْ كنتم مسلمين"، أمَرهم أن يصبِروا على ظلمِهم ولا يهادنوهم، وأن يعتصِموا باللهِ، ويتوكّلوا عليهِ، ولا يحسبُوا حسابًا لغيرِ الله.
وعندما ناداهم جميعًا بـ"يا قوم"، كأنه يخُصّ مَن لمْ يؤمِنوا بعدُ في هذا النداءِ، ألَّا يتعرّضُوا بالأذَى لمن آمَنَ، بتوهينِ عزائِمهم، وتثبيطِ هِمَمهم، وتخويفِهم منْ بطش فرعونَ، كأن يتذرعوا - كما هي العادة في مثل تلك الظروف - بمراعاةِ المصالحِ والمفاسدِ، أو بأنّ لفرعونَ من القوةِ والبأس ما لا قِبلَ لهم بهِ.
وما أمرَ به موسى عليه السلام قومَه هو السنةُ في الدعواتِ التي يُرادُ لها البقاء، فإنه لا بدَّ في بداياتِها مِن إظهار القوةِ، والتصلّب في تمسكِ أصحابِها بها، والثبات عليها، وتقديم التضحيات إن أريد لها النجاح، وألّا يسمحَ فيها بالمصانعةِ والتقيةِ وحلول الوسط، فذلكَ يؤدّي إلَى انصراف النّاس عنها وأُفولِها، قال تعالى: "وَدُّوا لو تُدْهِن فَيُدْهنون"، فما أصيبَتْ الثوراتُ التِي انتفضَتْ في البلادِ العربيةِ على الظلمِ، ورُدّ الناس فيها إلَى القمعِ، بعدَ أن لاحَ لهُم الأمل، إلّا مِن أنصافِ الحلولِ قبلَ التمكينِ واشتدادِ العودِ، بتبريرات "شرعيةٍ" - من السياسيين لا من العلماء الناصحين - تتكلم على المصالح والمفاسد برؤية قاصرة، تذرعت بحفظ الدماءِ، وبمصالحات مع الخصوم موهومة، فأوهنت عزائم المجاهدين، وأدتْ إلى مزيد من الإيغال في سفك الدماء، وضيق العيش، وغياب الأمن، وفقد الأمل الذي لا يخفى على أحد، تراه اليوم حيثما اتجهْتَ. وأخطرُ أنواع هذا التطبيع الذي ألبسه السياسيون لباس الشرع والمصالح والمفاسد مع خصوم الثورات، ما كان مع العدو الخارجي الذي وجد من خلاله بابا للتدخل في الشؤون الداخلية، فأفسد ذات البين، وأشعل الحروب، وأعاد الحاكم المستبد، وأمده بالقوة، وأعطاه الشرعية، وانتزعها ممن كانت له الشرعية، كل ذلك يفعلُه أحيانا باسم دعم المصالحات الوطنية والاستقرار، وأحيانا باسم مكافحة الإرهاب، وهو الذي يغذيه ويمده بأسبابه.
السنة في الدعوات عند قيامها الأخذُ بالعزائم، ولا يُتَرخصُ فيها بالمصانعة وحلول الوسط، بزعم الخوف من المفسدة.
عندما كان المشركون في مكة في أوج عُتُوِّهم وبغيهم على المسلمين ودعوتهم، كما وصفهم القرآن "وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ" غيظا وحقدا، قال الله تعالى لنبيه: "فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ"، وقال له: "ولا تُطِع كُلّ حَلاَّفٍ مَّهِين".
وتحمّل صلى الله عليه وسلم وصحبه الأذى، فهانتِ النفوسُ؛ لتحيَى الدعوة وينتصر المستضعفون، وهو ما فعله بلال وعمار والصديق وغيرهم رضوان الله عنهم أجمعين. وكان صلى الله عليه وسلم إذا مرَّ بهم يُعَذَّبونَ، يقولَ: "صبرا، فموعدُكُم الجنّة".
وهو ما قاله موسى عليه السلام لقومه: "يا قوم؛ إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين".. إن كنتم معتقدينَ صِدقَ ما جِئتكُم بهِ، فاثبُتوا وتوَكّلوا على اللهِ، فهو كافيكُم وناصرُكم.
وقد بادرَ قومُه إلى ندائه فقالوا: "على اللهِ توكّلْنا"، فهو كافينَا، ولن نخَافُ غيرَه، ومن تمامِ توكّلِهم أنّهم دَعوا اللهَ تعالى دعوتين:
الأولى: "رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ".. دَعَوْهُ ألَّا يسلطَ عليهم عدوّهم وينال منهم، فيعلُوا شأنُ الكفرِ، ويُفتن الناسُ بسبب ذلك، ويقولوا لو كانَ هؤلاءِ على حقٍّ ما أصابَهم هذا البلاءُ! وهذه الدعوةُ كانت لحفظ الدينِ.
ثم دعَوا الثانية لأنفسِهم فقالوا: "وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ".. نجِّنا مِن القتلِ والتعذيبِ، ولا تُحمّلنا ما لا طاقةَ لنا بهِ؛ وهو ما يشير إلى أن تنكيل الطغاةِ بالرعية في كلِّ أزمانهم واحدٌ، فراعنةُ العصرِ (المسلمونَ) في ظلمهم لرعيتهم ليسوا بأهون من فرعون الأمس، كما هو مُشاهدٌ!
سجونُ الحكام المستبدينَ، وأعوانِهم من الظلمة اليوم في بلادنا وبلاد المسلمين، تكتظُّ بالعلماء والدعاةِ والناصحينَ، بل بكل من لا يغرّدُ في مدحِ جَوْرهم، ولا يبارك ظلمَهم، وفسادَهم وفسادَ بطانتهم.
يلاحقُون العلماء، والمجاهدين ولو كانوا من خارج بلدانهم، اعتقلت السعودية قادةً من ثوار ليبيا عند رجوعهم من العمرة في رمضان الماضي لا يُعرف مصيرهم إلى اليوم!
من يحملون رايةَ الجهادِ في فلسطينَ، الحائزونَ شرفَه وحدهم، دونَ أمتهم التي خذلتْهم، لا يتردّدُ الحكام المترَفونَ أنْ يرموهُم بالإرهابِ - كما تفعل السعودية ومن يدور في فلكها - إرضاءً لعدوِّ اللهِ وعدوِّهم.
تكتظُّ سجونُ الظلمةِ في بلادنا بالأحرارِ، المجاهدينَ، الذين انتفضوا على الظلمِ، وثاروا على الفسادِ، وقدموا التضحياتِ، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، لنصرةِ الحقّ وإعلاءِ كلمتهِ، سجونٌ أقاموها خارجَ القانونِ، تُسامُ ضحاياهم فيها سوءَ العذابِ.
أجهزتُها القمعية لا تنامُ ولا تصبحُ إلّا على الشرورِ والفجورِ، وسبِّ الدين، والخمورِ، ناهيكَ بالتصفياتِ العلنية، من بعضِ فروع هذه الأجهزة في الميادين، والناس والحاكم الأجنبي والمسؤولون الذين يستمدُّ منهم القائمون على هذه السجونِ الشرعيةَ في صمتٍ عن هذه الجرائم، فإلَى الله المشتكى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّه بِعِقَابٍ مِنْه".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق