لماذا اضطر عبد الناصر نفسه وهو مهزوم إلى أن يقوم بمذبحة للقضاة؟ سنلخص القصة للقارئ دون أدنى تدخل من قلمنا معتمدين على نصوص رجال القضاء أنفسهم.
كان موعد انتخابات نادي القضاة في مارس 1969، وكان المرحوم أبو نصير وزير العدل قد حشد لها كل ما يستطيع لإنجاح مجموعة أطلق عليها «مرشحو السلطة»؛ وهي مجموعة تضم عددا من كبار الأسماء في ذلك الوقت.. عندما تم فرز الأصوات جاءت النتيجة بنجاح 5 مستشارين هم: ممتاز نصار، والمرحوم شبل عبد المقصود، وعبد الوهاب أبو سريع، والمرحوم عبد العليم الدهشان، ومفتاح السعدي، وخمسة من رؤساء المحاكم هم: يحي الرفاعي، وسليم عبد الله سليم، وجمال خفاجي، ومحمود بهي الدين، وحسن غلاب، وخمسة من أعضاء النيابة هم: المرحوم كمال زعزوع، ومقبل شاكر، وأحمد فؤاد عامر، ومصطفي قرطام، وحسن عابد.
ولم يكن من بين هؤلاء الـ15 الذين نجحوا اسم واحد ينتمي إلى «مرشحي السلطة». وكان لا بد من إنهاء الغزو وبعمل حاسم تحددت له ساعة الصفر يوم 31 أغسطس 1969 الذي هو موعد الحركة القضائية، وفيه يكون مجلس الأمة في إجازة. وكان الوزير أبو نصير بالاشتراك مع عدد من القانونيين قد أعدوا خطة الغزو في ثوبها القانوني، ولكن وبعد أن استكمل أبو نصير كل تفاصيلها ولم يبق إلا لحظة التوقيع، صدر قرار بإقالته من الوزارة وتعيين وزير جديد وضع اسمه على القرارات التي كان مفروضا أن يتوّجها أبو نصير بتوقيعه.
في بداية حكم أنور السادات ألغيت القرارات التي صدرت بعهد عبد الناصر فيما عدا القرار الثاني الخاص بإعادة تشكيل الهيئات القضائية الذي لا يزال فعالا وفاعلا إلى اليوم |
وهكذا في أغسطس 1969 صدرت خمسة قرارات بقوانين تحمل الأرقام من 81 إلي 85 وتشمل:
1- إنشاء محكمة عليا وهي التي تطورت صياغتها فيما بعد إلى المحكمة الدستورية العليا.
2- إنشاء المجلس الأعلى للهيئات القضائية، ولكن بعد أن أضيفت إليه النيابة الإدارية وادارة قضايا الحكومة ولم يكونا في القانون القديم معتبرين من السلطة القضائية على أساس وجهة النظر التي تقول بأنهما يمثلان الحكومة بعكس القاضي أو عضو النيابة.
3- إعادة تشكيل الهيئات القضائية بحيث أن من لا يجد اسمه ضمن هذا التشكيل يعرف أنه إما أحيل إلى المعاش أو نقل إلى جهة أخرى.
4- حل نادي القضاة وتشكيل لجنة جديدة لإدارته.
5- إعطاء رئيس الجمهورية سلطة النقل والتعيين بقرار جمهوري.
ونأتي إلى مردود هذه الإجراءات عمليا من حيث الشخصيات:
أولا: كان من بين الذين انطبق عليهم ذلك الاستبعاد أكثر من مائتين.
* كل أعضاء مجلس إدارة نادي القضاة.
* الذين أشارت تقارير التنظيم الطليعي إلى أن لهم نشاطا وطنيا.
* أكثر من نصف محكمة النقض.
* بعض الذين اشتركوا في إصدار أحكام لم ترض السلطات العليا.
* الذين أصدروا أحكاما بالبراءة في قضايا سبق وأن تحدث رئيس الدولة في خطبه عن المتهمين فيها وأدانهم أمام الشعب، ولكن القضاء حكم ببراءتهم.
وأشهر هذه القضايا:
*قضية السفير أمين سوكة الذي اتهم بالتجسس وحكم ببراءته في مارس 1969 أمام دائرة يرأسها المستشار سعيد كامل بشارة.
* قضية المستشار محمود عبد اللطيف في وزارة الأوقاف؛ وقد اتهم بتدبير محاولة انقلاب لنظام الحكم.. وحكم المستشار فؤاد رشيد ببراءته في أبريل 1969.
* قضية الدكتور السمني الذي كان من بين أعضاء المحكمة التي برأته عام 1962 المستشار جمال المرصفاوي، وكان قد سافر للعمل في الكويت، ورغم ذلك تضمنته قرارات العزل.
المستشار يحيى الرفاعي الرئيس السابق لمحكمة النقض (الجزيرة) كيف نسف القضاة هذه المذبحة وكيف تم النسف في عهد السادات |
هذه القصة هي قصة طعن واحد قدمه أحد الذين مستهم قرارات الإبعاد، وقد كان الوحيد الذي تمسك بحقه في الطعن خلال الثلاثين يوما التي حددها القانون للطعن في القرارات بقوانين قد صدرت، ورغم كل المحاولات التي جرت لسد الطريق عليه حتى لا يتمكن من كتابة الطعن على الآلة الكاتبة، ومطاردة كل مكتب يقوم بتسليمه هذه الأوراق لكتابتها حتى يضيع موعد الطعن، فلقد استطاع يحيي الرفاعي سكرتير نادي القضاة في ذلك الوقت والذي أبعد من العمل القضائي أن يصل بطعنه إلى محكمة النقض في اليوم الأخير.
وقد طالب في طعنه بإلغاء كل القرارات التي أصدرها رئيس الجمهورية على اعتبار أنها مشوبة بعيب اغتصاب السلطة الذي يجعلها تنحدر إلى مرتبة الانعدام، لأن الأصل أنه إذا كان جائزا للحكومة في غير دورة مجلس الشعب أن تصدر قرارات بقوانين لها صفة العجلة عند الضرورة، فإن هذه القرارات قوانين لا يجوز أن تعيد تنظيم السلطة التشريعية أو السلطة القضائية وإلا انفردت السلطة التنفيذية بحق السلطتين الأخريين، وإن مثل هذه القوانين التي تتعلق بنظام فصل السلطات لا تحمل أية عجلة، وإنما يجب صدورها في شكل قوانين عن طريق السلطة التشريعية..
وفي بداية حكم أنور السادات ألغيت القرارات التي صدرت فيما عدا القرار الثاني الخاص بإعادة تشكيل الهيئات القضائية الذي لا يزال فعالا وفاعلا إلى اليوم. وفي 21 ديسمبر 1972؛ أي بعد المذبحة بأكثر من ثلاث سنوات، قبلت محمة النقض الطعن، وقضت بانعدام القرارات الصادرة وإعادة صاحب الدعوى إلى عمله، واستفاد بهذا الحكم جميع الذين عزلوا ولم يعودوا إلى مناصبهم حتى ذلك التاريخ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق