الاثنين، 17 فبراير 2020

علي الجارم الشاعر الذي حجبت ثورة 1952 ديوانه ثلاثين عاما

علي الجارم الشاعر الذي حجبت ثورة 1952 ديوانه ثلاثين عاما

د. محمد الجوادي

إذا كان هناك من يستحق لقب العميد بين أساتذة اللغة العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين، فإنه علي الجارم قبل غيره، مع أنه لم يستمتع بهذا اللقب حتى في كليته دار العلوم إلا على سبيل القيام بالعمل في نهاية خدمته، فقد كان وكيلًا للدار وقائمًا بعمل العميد.
يستحق علي الجارم 1881- 1949 لقب العميد، لأنه مارس أركان اللغة العربية باحثًا ودارسًا ومؤلفًا وأديبًا وأستاذًا ومربيًا ومطورًا وموجهًا ورائدًا على نحو رفيع لم يجتمع لغيره بذات القدر. فقد وصل الأستاذ الجارم بالأقدمية إلى منصب كبير مفتشي اللغة العربية في وزارة المعارف، ومنذ ذلك الحين أصبح وصوله بمثابة سقف يجعل المقارنة صعبة على أي أستاذ يصل إلى هذا المنصب.
والحق أن علي الجارم يمثل مجموعة من الشخصيات المجتمعة في شخص واحد، فهو الشاعر الفذ الذي تسلم راية الشعر خفاقة من جيل حافظ وشوقي وسلمها خفاقة إلى جيل محمود أبو الوفا، ومحمود غنيم، ومحمود عماد، وعبد الرحمن صدقي، ومحمود حسن إسماعيل، وهو الروائي الذي وضع العلامات الكبرى في الرواية التاريخية وفي الأدب العربي من خلال رواياته الثمانية. وهو اللغوي الرائد الذي أثرت بصمته في مجمع اللغة العربية، الذي كان من مؤسسيه، ومن صائغي أسلوبه وراسمي منهجه.  وهو الأستاذ المؤلف الذي وضع مناهج اللغة العربية في كتب معلمة رائدة تفوقت على الكتب السابقة التي كان لها فضل الريادة، وكان لمؤلفيها من جيل حفني ناصف فضل السبق. وظلت كتب الجارم متفوقة على ما بعدها، وإن تركت لما بعدها مساحات التوسع والتبحر والتخصص. وهو الأستاذ الممارس والموجه الدؤوب الذي طبع العملية التربوية في المناهج والامتحانات والتقييم بطابعه الجاد المتزن، ونقل إليها سمات المدرسة الإنجليزية في التعليم والتأهيل. والذي امتدت جهوده إلى التعليم المصري في السودان؛ حيث أشرف على الامتحانات وتنظيم التعليم هناك، وسافر لهذا الغرض في إحدى السنوات. كما امتدت إلى كل البلاد التي تأثرت بالتجربة التربوية المصرية بدءًا من فلسطين وإندونيسيا.
ويبدو لي أن هذا المعنى هو الذي دفع الأستاذ عباس محمود العقاد في رثائه للأستاذ علي الجارم أن يشير إلى أن الجارم نفسه قد جمع في إنجازه بين البحتري في الشعر والأصمعي في اللغة، وذلك حين قال الأستاذ العقاد في سلاسة:
وارث الأصمعي في لغة الضاد   وفي الشعر وارث البحتري
الشاعر ذو الحضور المتصل

الشاعر علي الجارم أيضًا بعد هذا كله هو رجل الحضور في المجتمعات، القادر على أن يحتل للغة العربية مكانًا حتى في المؤتمرات الطبية. وهنا نذكر أن إحدى قصائده عن بغداد كانت تحية لمدينة بغداد حين حضر فيها أحد المؤتمرات الطبية العربية التي كان ينظمها عميد الطب المصري علي باشا إبراهيم وتستضيف الجارم فيها ليملأها بالبهجة الفكرية التي لا تتوقف عند القصيدة العصماء، وإنما تمتد لتشمل الثقافة الرفيعة وأحاديث السمر ذات السمت الأرستقراطي الذي يليق بمهنة عظيمة. وكذلك كانت قصيدته التي ألقاها في بيروت.
سافر الشاعر علي الجارم خارج وطنه مصحوبًا بشعره، إن صح هذا التعبير، حضر في لبنان مؤتمري الثقافة 1943 و1944، والمؤتمر الطبي العربي، ثم كان حضوره الأبرز في مؤتمر الجامعة العربية في بيروت 1947، وهو الذي شهد إلقاء قصيدته «العروبة»، كما أنه ألقى قصيدة باسم «لبنان» عندما حضر المؤتمر الطبي العربي في لبنان.
وسافر الشاعر علي الجارم للعراق ممثلًا لمصر في تأبين الشاعر الزهاوي، فألقى قصيدة عظيمة، وكذلك فعل حين مثل مصر في تأبين الملك غازي ملك العراق (1938)، كما حضر المؤتمر الطبي في بغداد، وهو المؤتمر الذي ألقى فيه قصيدته «بغداد». أما السودان فقد سافر إليها، كما أشرنا من قبل، من خلال عمله التربوي في وزارة المعارف.
والشاعر علي الجارم أيضًا هو صديق السياسيين الكبار الذين ارتقوا في مدارج الحركة الوطنية منذ ثورة 1919 وحتى آلت إليهم مسئولية الوطن كله من خلال توليهم الرئاسات والإدارات والهيئات والزعامات والمناصب الوزارية. ولعلنا نذكر أن علي الجارم توفي في حفل تأبين صديقه رئيس الوزراء محمد فهمي النقراشي (الذي كان تاليًا له في السن وفي العمل التربوي)، توفي الجارم وهو جالس، على حين كان ابنه يلقي قصيدة والده في تأبين النقراشي باشا في بداية 1949.
ومن الطريف أن علي الجارم حين عاد من بعثته عام 1912 عين مدرسًا في مدرسة التجارة المتوسطة لفترة قصيرة، وهكذا بدأت علاقته بتعليم اللغة العربية في مدرسة غير المدارس العامة المتخصصة في اللغة العربية. ا
كان مناظرًا لأنداده الأوربيين

تمثلت في شخصية الشاعر علي الجارم كثير من ملامح ارستقراطيته الفكرية التي عرفتها أوربا في أنداده من أعلام اللغة والأدب وأساتذتها، فقد ولد في بيت علم لم يقتصر العلم فيه على والده القاضي الشرعي الشيخ محمد صالح الجارم، الذي كان قاضيًا شرعيًا لمدينة دمنهور (وقد توفي هذا الوالد عام 1914)، وإنما كان عمه كذلك وكذلك كان كثير من أفراد عائلته. وكان هذا الجو لا يتيح له مكتبة البيت وحدها، وإنما كان يتيح مجتمعًا ثقافيًا يجتمع أمام ناظريه وعلى مسمع من أذنيه في كل آن، وكان هذا المجتمع الثقافي يخوض بالطبع في كثير من المناظرات والمناقشات والتنافسات، وهكذا عرف الجارم (ومن ينشأ نشأته) الصقل في الوقت ذاته الذي عرف فيه العلم، وعرف الجدل في الوقت ذاته الذي عرف فيه التلقي.
ومع أن ميدان التعليم المدني المؤهل للوظائف كان متاحًا أمام الشاعر علي الجارم، فإن والده، الذي هو عالم من سلالة علماء، اختار له التعليم الأزهري، وحسنًا فعل، فقد حفظ للغة العربية ثمار شجرة باسقة من العلم والفضل.
وتدرج الشاعر علي الجارم في التعليم الأزهري منتهيًا بدار العلوم بدون قفزات عمرية كانت متاحة بقدر يسير في جيله، لكنه على كل حال تخرج في دار العلوم وهو في السابعة والعشرين من عمره (1908)، وكان ترتيبه أول دفعته، وهو ما أهله للابتعاث في العهد الذي كان سعد زغلول باشا نفسه (وزير المعارف 1906 ـ 1910) قد بدأ التوسع في البعثات.
استغرقت بعثة الشاعر علي الجارم التي بدأها في نوتنجهام أربع سنوات من عمره، وكانت كالعهد ببعثات دار العلوم في ذلك العصر موجهة لدراسة التربية وعلم النفس، وهو الميدان الذي استقرت تقاليد وزارة المعارف في ذلك الحين على أن تتركه وتعهد به في المقام الأول للدرعميين، ومن ثم فقد كانت بعثات خريجي دار العلوم تتوجه إلى التخصص في هذا الميدان، كما كانوا هم المؤلفين والمدرسين المسئولين عن القيام بمسئوليات وتبعات هذا التخصص في دار العلوم والمعارف والمعلمين العليا بل وفي الأزهر الشريف.
وكان الشاعر علي الجارم من أنبغ هؤلاء جميعًا في هذا الميدان، وإن لم يشأ أن يجعله ميدانه الأساسي على نحو ما حدث حين عُني بالجد والتفوق في اللغة والأدب والشعر، وهي الميادين التي حقق فيها ذاته مقارنًا بالسابقين والمعاصرين، بينما كان علم النفس والتربية لا يزال مجالًا مفتوحًا غير محدد المعالم، وقد ارتاده الجارم على نحو متميز ووظفه في مؤلفاته على نحو ممتاز.
تفوقه في التأليف المدرسي

والحق أن الإنسان المنصف لا يمل من الثناء على جهد الجارم في التأليف المدرسي والذي بلغ ذروته في سلسلتي «النحو الواضح» و«البلاغة الواضحة»، وهي السلسلة التي ابتعدت عن التعقيد والغرابة والحشو والاستطراد، وتميزت بجدة منهجها في استنباط القواعد، ومراعاتها لمستويات الناشئة، ومناسبة أمثلتها لأبناء العصر الحديث، وسهولة صياغتها، وتسلسل شرحها، وسلامة أسلوب عرضها ومتانته.
ولا يزال دارسو اللغة العربية يعولون على كتابي الأستاذ علي الجارم الشهيرين «النحو الواضح» و«البلاغة الواضحة»، وقد كان الجارم من الذكاء بحيث دعا زميلًا تاليًا له هو الأستاذ مصطفى أمين للاشتراك معه في تأليف هذه الكتب عندما لمس موهبة هذا الأستاذ في التأليف والتقريب والشرح، حين زاره كموجه وكان الأستاذ مصطفى أمين مدرسًا.
ومع ما امتاز به هذان الكتابان من قوة وأصالة وفاعلية وتركيز، فقد تميزا بخفة الظل والبعد عن التعقيد والتركيب والغريب والمصطلح، كما تميزا بالشواهد والأمثلة الكفيلة بتحبيب الطالب والقارئ وجذبهما للكتاب والاحتفاظ به وبأمثلته في الذاكرة.
على أن جهد الأستاذ علي الجارم في التأليف المدرسي لم يقف عند هذين الكتابين العلامتين، وإنما شارك الجارم في تأليف كثير من الكتب المدرسية المقررة في مراحل التعليم المختلفة وفي عصور متوالية، وكان ممن اشترك الجارم معهم في تأليف هذه الكتب الأستاذان أحمد الإسكندري وأحمد العوامري، وهما سابقان عليه في التخرج من دار العلوم، وإن كان قد وصل معهما إلى عضوية مجمع اللغة العربية عند تأسيسه، وكذلك الأستاذان العميدان طه حسين وأحمد أمين. ومن هذه الكتب «المجمل في الأدب العربي» و «المفصّل» و«المنتخب» ومجموعة فريدة من الأعمال الرائعة التي لا أزال أطالب بتكرار طبعها.
اشترك علي الجارم في تحقيق التراث اشتراكًا ينم عن علمه وفضله، كما اشترك في ميدان الترجمة وأشهر ترجماته ترجمته لكتاب المؤرخ الإنجليزي ستانلي لين بول (العرب في إسبانيا)، كما اشترك في مراجعة بعض الترجمات المسرحية.
أثره المهم في تعليم اللغة العربية

طيلة حياة الشاعر علي الجارم الوظيفية كانت له بصمة واضحة وإضافة مؤثرة في كل عمل التحق به، فلم يقف إنجازه التربوي عند تبسيط النحو والبلاغة من خلال كتبه التي ألفها، وإنما كانت له مساهمات فعالة في المجمع اللغوي ولجانه، فشارك في أكثر لجانه مثل لجنة الأدب، ولجنة تيسير الكتابة، وكان من دعائم «لجنة الأصول»، وهي اللجنة التي زودت المجمع اللغوي بالقواعد التي يقوم عليها التعريب والاشتقاق والتضمين والنحت والقياس وغيرها.
وكانت آخر مساهماته الفعالة محاضرة قيمة ألقاها عن الموازنة بين الجملة في اللغة العربية واللغة الأوربية، بالإضافة لمناداته بإصلاح الإملاء.
إنجازه الشعري متمثلًا في ديوانه الكبير

صدر ديوان الجارم في أربعة أجزاء متوالية ما بين عامي 1938 و1940 في مرحلة نضجه ونجوميته، وبقي هذا الديوان متداولًا ينقل عنه ومنه ولكنه لا يطبع، لأنه لم يكن يناسب عهد ثورة 1952 وما فيه من حرص على التجنب الكامل لذكر محاسن العصر الملكي.. وقد كان شعر الجارم حافلًا بالطبع بما يشيد بذلك العصر واحتفالياته ومؤسساته، وهكذا كان الاطلاع على شعر الجارم لجيلي غير متاح، وكان يقتصر على اللجوء للمكتبات.
وفي 1980 صدر ديوان الشاعر علي الجارم في جزأيه بعدما عني ابنه الأستاذ الدكتور أحمد علي الجارم (عضو مجمع اللغة العربية فيما بعد) بإصدار الديوان والأعمال النثرية الكاملة لوالده العظيم، وهو جهد يستحق التقدير والإشادة، ولولا هذا الجهد لضاعت كثير من أعمال الجارم، التي فرض عليها العسكر الستر الكثيفة لأكثر من ثلث قرن من الزمان؛ حيث حجبت الآثار الأدبية للجارم في هذه الفترة، فلم يسمح بطبع أعماله، بل خلت المكتبات، عمدًا، من مؤلفاته النثرية وأشعاره.
كان شعر علي الجارم رصينًا إلى الحد الذي يجعله يبدو وكأنه من شعر العرب في العصر العباسي، لولا ما انطبع به من سعة أفق العصر الحديث ومفرداته وصوره وأخيلته ومفاهيمه ومصطلحاته وتجاربه.
تأثر الشاعر علي الجارم في آثاره الشعرية بإجادته للغة الإنجليزية وآدابها، وقد ظهر هذا التأثر على نحو جلي فيما انتهجه في شعره من الحرص على أن يتضمن شعره تعبيرًا عن الصراع الدرامي بما لا يقل من حرصه على الإبداع والتوصيف والسرد والإعجاب والتقرير.
لم ينل من التقدير الرسمي إلا الحدود الدنيا

لم ينل الشاعر علي الجارم من التقدير الرسمي أكثر من الحدود الدنيا للتكريم الذي يناله من كان في مثل هذه المواقع الوظيفية التي شغلها، وكان الشاعر علي الجارم مستحقًا وحريًا بأن ينال الباشوية، لكن عين السلطة قصرت عن هذا، مع أنه كان صديقًا لرئيس الوزراء النقراشي باشا وغيره من كبار رجال الدولة، كذلك فإنه لم ينل من الأوسمة ما كان حريًا بشعره الدافق بالمحبة للملك والأسرة المالكة.
ويبدو لي على وجه العموم أنه اكتفى بما كان من تقديره باختياره عضوًا مؤسسًا في مجمع الخالدين، فرأى نفسه أكبر من كل مجد آخر.
ومن الحق أن نقول إن الشاعر علي الجارم كان يفخر بشعره وبيانه وبأثر شعره في الحياة وفي الوجود في مواضع كثيرة من دون إفراط ولا مبالغة، ومن ذلك قوله في قصيدة «الزفاف الملكي» فيقول
آنَ يا شِعْرُ أَنْ تُغَنّيْ فَأَرْسِلْ     مِنْ قَوافيكَ ما يَهُزُّ الوُجودا
ومع هذا فقد حصل الشاعر علي الجارم على عدد من الأوسمة منها وسام النيل من مصر عام 1919، ووسام الرافدين من العراق 1936، كما منحته لبنان وسام الأرز عام 1947.
خمس قصائد تأبين رائعة
حظي الأستاذ علي الجارم بخمس قصائد رائعة في تأبينه.
فأما الاستاذ عباس محمود العقاد حين قدر له أن يرثي الجارمَ فقد صوره بذكائه وريثًا للأصمعيِّ والبحتري معا، فهو العالمِ اللغويّ المعروف، والشاعر الفصيح المشرق
فُجِعتْ مِصـرُ يومَ نَعْيِ«عَلِيٍّ»    بالأديـبِ الْفَهّـامـةِ الأَلْمـَعــِيِّ
وارثُ الأصْمعِيِّ في لُغةِ الضّادِ،   وفي الشِّعْرِ وارثُ البُحْتُـريِّ
والأديبُ الذي لهُ فطنةُ المِصْـ   ــريٍّ، زانـت سليقـةَ البــَدَوِيّ
أما القصيدة الثانية فكانت للشاعر محمود غنيم، وهي من البحر الكامل
عَرْشٌ يَنوْحُ أَسىً على سُلْطانِهِ  
قد غابَ كِسْرى الشِّعْرِ عَنْ سُلْطانِهِ
وقال الشاعر محمود غنيم؛ بعد أن نَعَته بـ«خادم الفصحى»
يا خادِمَ الفصحى، وَكَمْ مِنْ خـادم  
                       تَعتزُّ ســــاداتٌ بِلَثْــمِ بَنانِـهِ ٍ
أَفْنَيْتَ عُمْــرَكَ ذائِدًا عَنْ حَوْضِــها   
                             ذَوْدَ الكريمِ الحُرِّ عنْ أَوطانِهِ
أما الأستاذ محمد عبد الغني حسن فنظم قصيدة نشرتها جريدة الأهرام في 14 فبراير 1949، ومطلعها
سكت الصوت الذي دوى زمانًا   
                      وطوى الموت من الفصحى بيانًا
وأما الشاعر محمود حسن إسماعيل فألقى قصيدة في حفل جماعة دار العلوم لتأبين الشاعر علي الجارم، ونشرت في 26 يونيو 1949، ومطلعها
لا لحـن عـازف ولا وتـره    ما كان طـيّ النشيد ينتظـره
أما القصيدةٍ التي نظمها الشاعر ابنُ الشاعر بدر الدين الجارم (1985)، مترسِّمًا فيه خُطا والدِهِ في الاعتزاز بالعربية الفصيحة، فقد أوردها ابنه الدكتور أحمد في كتابهِ «الجارم في ضمير التاريخ» كاملةً «بدر الدين». وقد نظمها الشاعر بدر الدين الجارم بمناسبة احتفاء مدينة رشيد ـ بلد الشاعر ـ بإحياء ذكرى شاعرها علي الجارم، ونشرت بجريدة الأخبار في فبراير 1985، ومطلعها
في ربيــعِ الزَّمـانِ جــادَ زَمانـيْ     بِلِقـــاءِ الأَحِبَّـــةِ الإِخْـــوانِ
 وفيها يقول
وَتَرَكْتُ الْعِناْنَ للشِّعْـرِ يَسْمـوْ      عَربِــيَّ اللســانِ مِنْ عَدْنـانِ
..........................
يا تلاميذَهُ وَعارِفيْ الْفَضْلِ جِئتُمْ    لِتُحَيّوْا «عَلِيَّ» في المَهْرَجانِ
تقدير علمي متجدد

تحفل أدبياتنا ودراساتنا الناقدة ودراسات تاريخ الأدب العربي بكثير من الحديث عن الشاعر علي الجارم وتقديره، وقد حظي شعر الجارم مبكرا بدراسة عظيمة كتبها عنه أستاذ الأدب العربي والناقد العظيم الأستاذ أحمد الشايب بعنوان «الجارم الشاعر عصره وحياته وشعره»، كما كتب عنه الدكتور محمد عبد المنعم خاطر كتابًا أصدره في سلسلة أعلام العرب عام 1971 وكتب عنه كثيرون من الأدباء كثيرًا من الدراسات.
وسنختار من بين هذه الدرر ثلاث فقرات لثلاثة من الأساتذة من أجيال متعاقبة.
وصف الأستاذ أحمد أمين شعر الشاعر علي الجارم بقوله
"كان شاعرًا من الطراز الأول، مشرق الديباجة، رصين الأسلوب، جيد المعنى والمبنى، وكان شعره مرحًا ضاحكًا، حتى إذا أصيب بفقد ابنه ـ وكان طالبًا في الهندسة ـ تلون شعره بلون حزين باك، فكان يجيد كل الإجادة في الرثاء والحسرة على فوات الشباب».
وقال الأستاذ عباس حسن في كتابه «المتنبي وشوقي» الصادر في طبعته الأولى عام 1951
"بقي من خصائص شوقي التي امتاز بها على المتنبي النثر الرائع حقًا، فله في هذا الميدان كتاب سماه «أسواق الذهب»، وما أحسبني مغاليًا إذا قلت عن النثر الأدبي البليغ والنثر العلمي المتأدب الرفيع لأديبنا المرحوم الأستاذ علي الجارم ليمتاز به الجارم على المتنبي وشوقي وسائر شعراء العرب قديمًا وحديثًا كما تنطق بذلك كتاباته النثرية الصادرة عن موهبة فنية أصيلة جعلت منها جميعها سلاسل الذهب لا مجرد أسواق الذهب».
ووصفه الدكتور أحمد هيكل في فقرة موحية حافلة بالتقدير فقال
" علي الجارم أحد أعلام الاتجاه المحافظ في الشعر العربي الحديث، هذا الاتجاه الذي راد تاريخه البارودي أولًا ووصل إلى غاياته شوقي فيما بعد، ثم كان الجارم واحدًا من الذين تصدروا السائرين في هذا الاتجاه والمتنافسين لملء الفراغ بعد رحيل أمير الشعراء، بل كان بحق السابق إلى ملء هذا الفراغ،"
" ... هذا العطاء الشعري الوفير والغزير الذي يمثل طبقة سامية من طبقات الشعر المحافظ، تضع صاحبها في مكان المتصدرين من أصحاب هذا الاتجاه الفني الرصين، وجميعهم يشير إلى المدرسة الأدبية التي ينتمي إليها الجارم وهي مدرسة المحافظين».
شعر الجارم أصدق ديوان لحقبة الليبرالية في مصر

كان شعر الجارم ديوانًا لعصره صور فيه القضايا الوطنية والاجتماعية واشتبك به مع التعاملات السياسية في عصره، لكنه كان متوازنًا متحفظًا ملتزمًا أقصى درجات التهذيب، معبرًا في كل شعره عن خلق المربي الفاضل والأديب المتسامي عن كل الصغائر.
ومن الممتع في عصرنا الحالي أن نقرأ من خلال شعر الجارم صورة تاريخية وأدبية وفكرية لعصره كله، فقد كان الجارم قد ندب نفسه وندبته الظروف ليخلف حافظ وشوقي معًا في المسئولية عن الشعر كديوان للعصر أو كديوان للعرب يسجل أعلامهم وأحداثهم، ولهذا سوف نختار من شعره الكثير الذي يفيد في تصويرنا للحياة وفهمنا لها على حد سواء.
ونحن نلاحظ على وجه العموم أن الجارم شأنه شأن المصريين في مجموعهم كان مفتونًا بالملك فاروق في أول عهده ثم تضاءل هذا الإعجاب مع الزمن، حتى أننا نجد أنه في بداية عهده على سبيل المثال هنأه بالمولد النبوي بقصيدتين متتاليتين، وهنأه بتولي سلطاته بقصيدتين، وهنأه بالزفاف الملكي بقصيدتين، وهنأه بعيد جلوسه وبذكراه في السنوات الثلاث الأولى 1937، 1938، 1939. ثم تباطأ تمامًا حتى يمكن أن نقول إنه توقف عن حماسه بعدما هنأه بعيد الجلوس في 1945.
كما نلاحظ أن قصائد الشاعر علي الجارم الاجتماعية لم تقف في مضمونها عند الملك أو المناسبة وإنما كانت تعبيرًا عن حوادث الوقت التي قيلت فيه، كما كانت اعتزازًا بالوطن وبالشعب وبالجيل الذي وجد الجارم نفسه فيه، كما وجد الملك فاروق فيه.
شعره المحفلي لا يقل قيمة عن شعره الملحمي

وأشعار الجارم في المديح والرثاء متزنة لا تصل إلى حدود الخروج بالبشر الممدوح عن الحدود البشرية، ومع هذا فإنها تنطق بالصدق والرقي وجودة التصوير.
وأشعار الجارم في المناسبات هي في حقيقتها منظومات ذكية تتجاوز الحدث إلى الفكرة العامة وإلى القضايا الجوهرية والإنسانية بمقاربات بعيدة وتعبيرات رائعة وروح نهضوية لا تقف عند حدود الماضي، وإنما تزمع وتدفع إلى الوثوب به إلى مستقبل مشرق.
لم يشغل الجارم نفسه بإمارة الشعراء ولا بألقاب من هذا القبيل، فقد كانت أستاذيته نفسها كافية لأن تغني عن هذا كله. كان صاحب القرار وصاحب الرأي وصاحب الفتوى، كما كان صاحب الآلية والوسيلة والطريقة، وهي أستاذية مطلقة لم يحظ بمثلها كثيرون في تاريخنا الحديث والمعاصر.
رؤيته الشعرية لمكانة اللغة العربية

كان الشاعر علي الجارم قمة في عصر حافل بالقمم، فلم يتوانَ عن أن يكون رمزًا لتفوق اللغة والأدب وللعاملين في ميدانهما، وقد عاش بالفعل رمزًا سامقًا لم يتنازل عن الرفعة ولا عن الذروة ولا عن الصعود. إليها والاستواء عليها،
كان موقف الجارم من قضية الهوية موقفًا رائدًا وفريدًا، فهو يحب اللغة العربية ويراها هوية للعرب لأنها لغة القرآن الكريم، وهو يرى العمل لأجلها واجبًا دينيًا وواجبًا قوميًا، ولم يكن يفصل بين هذين الواجبين.
كان يرى عبقرية اللغة العربية مستمدة ونابعة في المقام الأول من مكانتها القرآنية، لأن القرآن نزل بها، ولم يكن يحيد عن هذا الإيمان ليثبت ما أثبته غيره بعد جهد من عبقرية اللغة العربية لأسباب أخرى.
ولا شك أن نهج الجارم هو أسلم المناهج في تناول قضية اللغة العربية وحاضرها ومستقبلها، مع كل الاحترام والتقدير للمناهج الأخرى وما تستند إليه من نظريات.
وعندي أن القضية تتلخص تمامًا في قول الجارم
نـزل القـرآن بالضـاد فلـو          لـم يكـن فيها سـواه لكفـاهـا
لا بد لنا من باب الإنصاف أن نشيد برؤية الجارم كشاعر للغة العربية ودورها ومكانتها وجمالها وواجبنا نحوها، كما نتناول تقييمه الفذ لدور المؤسسات الستة التي عنيت بخدمة اللغة العربية في العصر الذي عاشه، وهي بترتيب وجودها في الحياة: وزارة المعارف، وكلية دار العلوم، والجامعة المصرية، والمجمع اللغوي، والإذاعة المصرية، وجامعة الدول العربية، فضلًا عن الدور الذي شاركت به مؤسسات المجتمع المدني تجاه هذه اللغة.
وعلى الرغم من أن الشاعر علي الجارم كان رجلًا من رجال الدولة التنفيذيين المبرزين، مارس البيروقراطية والحياة الوظيفية طيلة عمره، فإنه احتفظ لنفسه بشاعرية حقيقية استبقت له كل عناصر الشعور الجميل والانفعال الصادق، حتى إن وفاته كانت مصحوبة بهذا الانفعال الصادق.
وقد دفعته فطرته الصادقة مع طموحه الوثاب إلى ترقية تعبيره عن شعوره إلى أقصى ما يمكن أن يكون الرقي في ذلك المحيط، ولهذا يبدو شعره حافلًا بالإحساس المرهف واللفظ الراقي في الوقت ذاته، كما يحفل بالذوق الرفيع والتعبير الدقيق معًا. وعلى وجه العموم، فقد كان أدبه شعرًا ونثرًا فصيح العبارة، واضح الدلالة، قوي الإيمان بما يريد أن يعبر عنه من المعاني المبتكرة أو التقليدية على حد سواء.
وإذا كان الشعر ديوان الحياة، فإن الشاعر علي الجارم هو الذي رفع هذه الراية مع شوقي وحافظ، ثم تولى رفعها من بعدهم حتى وفاته. وبتلك الوفاة انتهى (إلى حين) عصر الشاعر المعبر عن كبريات الحوادث في الحياة العامة، وتواكب هذا مع عهد ثورة 1952 التي أحلت الغناء محل الشعر، إذ كان الغناء السريع أنسب لها ولأحداثها من الشعر الرصين. ومع أن عصر الثورة حفل بالشعراء المجيدين والقادرين على صياغة الأحداث بما لا يقل عن الجارم من إجادة وفن، فإن مكانة الشعر نفسه من الحياة العامة لم تكن هي نفسها ذات المكانة التي احتفظ بها الشعر حتى عصر وفاة الجارم في مطلع 1949.
وهكذا ضاعت زهوة كثير من شعر المناسبات الذي نظمه شعراء مقتدرون وأعلام من طبقة محمود حسن إسماعيل، وصالح جودت، وكامل الشناوي، الذين أسهموا بالفعل في مواكبة بعض الأحداث بأرفع المستويات في الأداء الشعري المتميز.
إحساسه بالكلمة رفع من قيمة شعره

كان الشاعر علي الجارم مُتمكنًا من متن اللغة العربية أو من مفردات اللغة العربية، وكان أيضًا حريصًا على إحياءِ مفرداتها القديمةِ في شعره، وكان يبدو ـ في بعض ألفاظه ـ وكأنه يعيش في العصر الجاهلي؛ وان فهم بعض أبياته يتطلب الرجوع إلى معجماتِ اللغة العربية. وقد حفل شعر الجارم بالقدرة الفذة على توظيف المعجم العربي في خدمة المعاني، حيث نرى فيه ألفاظًا لم تستعمل في عصره إلا على يديه. وكان الشاعر علي الجارم حريصًا في إبداعه الشعري على فصاحة الكلمة وجزالة سبكها صياغةً، والتمسك بقالب شعرها العمودي وزنًا وقافيةً.
كان معجم الجارم الشعري ثريًا، وكانت تجارب الحياة التي مر بها في أشعاره وتعاملاته عريقة، وكانت ثقافته واسعة عميقة، أضافت إليها العصارة المتولدة من ممارسته لفنون علوم النفس والتربية عليها أبعادًا متعددة، وهكذا كان لفظه وقوله وتناوله متميزًا عن أنداده وأسلافه.
وقد تميز شعر علي الجارم بإحساس مرهف وذوق رفيع راق انطلق من الشكل الكلاسيكي التقليدي، والذي يعتمد على قافية موحدة، وتعددت الأغراض الشعرية للجارم فقدم في شعر المناسبات، والمراثي، والمديح. وقد تمثلت في شعر علي الجارم، على الرغم من كلاسيكيته، روح الميل إلى التجديد في التصوير والمقاربة، وذلك أن دراسة الجارم للعلوم الفلسفية جعلته أقدر على تناول الموضوعات بزوايا مختلفة.
لم يترك بحور الشعر الكلاسيكية

لا نعرف عن الشاعر علي الجارم أنه حاول أية محاولة في طريق العدول عن الاكتفاء بشعر القافية الكلاسيكي التقليدي واللجوء إلى أنماط الشعر الحر الجديدة، مع أنه كان قادرًا على هذا بحكم اطلاعه وقدراته المتعددة، ولا يعدو الأمر في رأيي أنه كان كالجراحين الأفذاذ الذين وصلت مهارتهم في الجراحة المفتوحة إلى الحد الذي لا يجعلهم يجدون في اللجوء إلى جراحات المناظير أي جدوى، فهم يحققون كل مزايا جراحة المناظير وأكثر في جراحاتهم المفتوحة التي ينجزونها في أقل وقت وبأدنى قدر من المتطلبات والمضاعفات على حد سواء.
وفي قصيدة «خلود» التي نظمها في ذكرى حافظ وشوقي، بيت من الشعر يسخر فيه الشاعر على الجارم من الشعر غير العروضي، فيصف هذا الشعر وكأنهم قد أفقدوا به الشعر روحه، فأماتوه وجهزوه للتكفين:
جَلَبوا للقريضِ ثوبًا من الغرْ     بِ، ولمْ يَجْلِبوا سوى الأكفانِ!
شوقي هو أكثر الشعراء تأثيرًا في شعره

من الحق نبدأ أن نقول إن الشاعر علي الجارم كان كثير التأثر بأسلوب الشاعر أحمد شوقي في البيان، من حيث كان شوقي يعبر عن التأمل العميق للمعاني الدقيقة في ألفاظ يزاوج فيها بين قدراته على الإجادة في الإسناد (بلغة البلاغيين) والتفوق في التعريف (بلغة الفلاسفة)، وهذا بيت من أبيات الجارم التي تعبر عن هذا التفوق
السيلُ في دَفَعاتِه والسيفُ في      عَزَمَاتِه والمَوتُ في وَثَباتِه
وقوله
إِعْجَازُ عَارِضَة ٍ وَنُورُ بَدِيهَة ٍ     وَبَدِيعُ تَنْسِيقٍ وَحُسْنُ صِقَالِ
وقوله
المُلْكُ فيكَ طَبِيعة ٌ ووِرَاثة        والمَجْدُ فيكَ سَليقَة ٌ وِنجَار
الجارم شاعر الهوية

كان الشاعر علي الجارم بين أنداده شاعر المناسبات القومية والوطنية الأول معبرًا صادقًا متحمسًا، وقبل أن نؤرخ لقصائده التي عالج بها الأحداث والمناسبات والقضايا الفكرية يجدر بنا أن نبدأ بالإشارة إلى بعض الخلط المتكرر لقصائد متشابهة القصد أو الموضوع وأحيانًا متشابهة القافية والبحور. فللجارم خمس قصائد لها علاقة باللغة العربية.
 ● اللغة العربية ودار العلوم (وهي القصيدة التي أهداها لصحيفة دار العلوم في 1934 لتنشر في أول عدد من أعداد المجلة)... (نونية).
 ● دار العلوم 1927 (وهي القصيدة التي حيا بها دار العلوم في عيدها الخمسيني).. (بائية).
 ● اللغة العربية 1934 (وهي في تحية المجمع اللغوي)... (بائية).
 ● المجمع اللغوي 1934... (هائية).
هكذا نفهم أنه حيا المجمع اللغوي بقصيدتين غير تلك القصيدة التي رثا بها أعضاء المجمع الثلاثة الراحلين، وغير تلك التي حيا بها الأستاذ أحمد لطفي السيد عند توليه رئاسة المجمع.
كما أنه حيا دار العلوم بقصيدتين في ذكرى الاحتفال الخمسيني للدار، وفي مناسبة صدور العدد الأول من صحيفة دار العلوم.
أما القصيدة الخامسة التي تتصل بهذه القصائد من حيث موضوعها ونصها، فهي قصيدته الكبرى في العيد المئوي لوزارة المعارف 1937.
إيمانه العميق بفكرة العروبة

وننتقل إلى هوية قريب من هوية اللغة، وهي «العروبة» نفسها فنجد الشاعر علي الجارم وقد ألقى قصيدته العروبة 1947 في مؤتمر الثقافة العربي الأول في بيروت.
وحظيت الجامعة العربية منه بالاهتمام في قصيدتين كبيرتين، وإن كان اهتمامه بها لم يصل إلى اهتمامه بدار العلوم أو الإذاعة أو المجمع اللغوي. أما القصيدة جميلة التي تحمل عنوان «الجامعة العربية» فتقع في 37 بيتًا، ومطلعها:
دعوت بياني أن يفيض فأسعدا..
ومن الجدير بالذكر أن القصيدة التي حيا بها الجارم الجامعة العربية عند إنشائها (1944) تختلط في بعض الأذهان بقصيدة الشاعر محمد الأسمر الشهيرة التي غنتها أم كلثوم "زهر الربيع أرى أم سادة نجب". أما قصيدة الجارم التي حيا بها الجامعة العربية فمطلعها
سنا الشـرق من أي الفراديـس تنبـع        ومن أي آفــاق النبـــوة تلمــع
وفي أي أطــوال العـقــود تنقــلت بمصباحك الدنيا يشب ويسطع
طلعتَ على الأهرام والكونُ هامدٌ وأشرقت بالإلهام والناسُ هُجَّع
إيمانه برابطة القومية العربية وزعمائها

كذلك نذكر للشاعر علي الجارم قصيدتين في غاية الأهمية تتصلا بمعاني العروبة السامية، أولاهما هي قصيدته «ضيف كريم» في الترحيب بالزعيم المغربي العظيم محمد عبد الكريم الخطابي، زعيم الريف الذي استقبلته مصر لاجئًا سياسيًا وضيفًا على الملك فاروق في يونيو 1947.
والحق أن الشاعر علي الجارم عاش حياته على علاقة وثيقة بمجريات السياسة وتطوراتها داعيًا للإخاء الإسلامي والعربي، ساعيًا إلى كل ما يدعم هذا الإخاء، ولعلنا نذكر قصيدته في العراق عند زيارته لها مرافقًا للزعيم الوطني الكبير حمد الباسل الذي ذهب للإصلاح بين قبائل العراق شمرّ والعبيد ونجح في هذه المهمة.
حبه لمصر

لم يكن الأمر عند الشاعر علي الجارم يخلو من انتهاز كل فرصة للتعصب لوطنه مصر، التي يزعم أنها هي التي رفعت راية الشعر في الشرق، وأنها هي التي مكنت أمير الشعراء شوقي من صولجان الشعر!!
رَفَعَتْ مِصْرُ رَايَةَ الشِّعْرِ في الشَّر قِ وَأوْلَتْ أَمِيرَهُ صَوْلَجَانَهْ
ويصف الشاعر علي الجارم توالي وفود البيعة المتصلة لشوقي وإمارته وشاعريته، فينشئ حالة من الاتحاد والتوحد بينه وبين شوقي، وهو يقول
وَمَشَى الدَّهْرُ في الْوُفُودِ إِلَى       الْبَيْعَةِ يَحْتَثُّ نَحْوَهُ رُكْبَانَه
وَرَأَيْنَا بِكُلِّ أُفْقٍ رَنِينًا               رَدَّدَتْه الْقَصَائِدُ الرَّنَّانَه
هَكَذَا كُلُّ مَنْ يُرِيدُ خُلُودًا           يَجْعَلُ الْكَوْنَ كلَّهُ مَيْدَانَهْ
الجارم شاعر الفكرة الإنسانية

احتفل الشاعر علي الجارم مع إخوانه من بني البشر أو إخوانه في الإنسانية المعذبة بنهاية الحرب العالمية الثانية (1944) بقصيدة «يوم السلام» (72 بيتًا)، كما كانت له قصيدة اسمها «الحرب» (52 بيتًا) نظمها في 1944 أيضًا. لكنه فيما قبل هذا بثلاثة عقود من الزمان شُغل في شعره بالحرب العالمية الأولى في أكثر من قصيدة، منها القصيدة التي غنتها أم كلثوم «مالي فتنت بلحظك..». وربما يدهش القارئ إذا علم أن الجارم قد سمى هذه القصيدة «الحب والحرب» (1916).
أما قصائد علي الجارم الإنسانية فتشمل
ـ «الشريد» (1938).
ـ الأعمى والشباب (1947)
ـ الحب.
ـ يوم السلام.
ـ حنين طائر.
ومن الجدير بالذكر أن الشاعر علي الجارم انفعل بما واكب وباء الكوليرا في الذي اجتاح مصر في ١٨٩٥ بينما كان الشاعر لا يزال مبكرًا في شاعريته.
تصوير البؤس

ونبدأ بإلقاء بعض الأضواء التاريخية على هذه القصائد، منطلقين من قصيدة فريدة في مقاربتها للبؤس والمعاناة في حياة المشردين؛ حيث يتناول الشاعر علي الجارم في قصيدته «الشريد» المعاني الإنسانية بمهارة شعرية فائقة تنم عن قدراته القصوى في البحور القصيرة، التي يصعب الإبداع فيها على غير المتمكنين من اللغة العربية ومتنها
مشـــرد يــأوي إلى هــمـه         إذا أوى الطيــر إلـى وكــره
ما ذاق حلو اللثـم في خـده         ولا حنان اللمس في شعـره
ولا صوت الأم في صدرها        ولا أب ناغـاه في حجـــره
قد صبّر النفـس على ما بها        وانتظر الموعود من صبــره
ويقول في قصيدته «حنين طائر»
طائـر يشــدو على فَـنَــنٍ جدد الذكـرى لـذي شجــن
قــام والأكــوان صامتــةً ونسيم الصبـح في وهـــن
..... ..... ..... .....
هـــزه شـوق إلى سكــن  فبـكى للأهـــل والسكـن
..... ..... ..... .....
قد يراك الصبح في حلب ويـــراك الليـل في عــدن
تصويره الألم ورثاؤه للطيارين المصريين الأوائل
ويتصل بشعر المناسبات الإنسانية ما نجده في ديوان الجارم في قصيدة باكية رثا بها اثنين من الطيارين المصريين فؤاد حجاج، وشهدي دوس اللذين استشهدا وهما يقودان طائرتين من سرب الطائرات الحربية المصرية من إنجلترا إلى مصر في 18 نوفمبر 1933 وفيها يقول
حجـاج! لاقيت اليقين مكافحًـا      بطلًا ويا شهدي قضيت همامًا
لهفي على البطلين غالهما الردى  لـم يملكـا دفعـًا ولا إحجـامًا
المـوت تحتهما يصول مخاتـلًا    والموت فوقهما يحوم زؤامـًا
يــا هـولها من لحظـة لاثـارها     بــرد، ولا كان اللهيب سـلامًا
تصويره للمعاني النفسية

من روائع قصائد الوصف والتعبير النفسي قصيدة للشاعر علي الجارم بعنوان «مَنْ مُجِيرِي مِنْ حالِكات اللّيالِي»، وفي هذه القصيدة التي نظمها صاحبها باقتدار بضمير المتكلم يحث الشاعر علي الجارم المجتمع على الرأفة بالمكفوفين، متحدثًا باسم واحد منهم يصور بإباء وشمم لا يخلو من ألم حاله مع الحياة والناس والمجتمع، ويبدأ الجارم قصيدته هذه بداية مباشرة بالتساؤل الجاد عمن يستطيع تقديم يد العون له ولأمثاله من المكفوفين، وعن حاجته إلى هذا العون بالشكوى الواضحة من الزمن ونوائبه، وبالتعبير عن الإحساس بالاغتراب في الحياة والحزن على ما يعتريه من آلامها
مَنْ مُجِيرِي مِنْ حالِكات اللّيالِي   نُوَبَ الدَّهْرِ ما لكُن ومالِي
قد طوَاني الظلامُ حتّى كأنِّي       في دَيَاجى الوجودِ طَيفُ خَيَال
كلُّ ليلٍ لهُ زَوالٌ ولَيْلى             دقَّ أطنابَهُ لِغَيرِ زَوَال
كلُّ ليلٍ لهُ نجومٌ ولكنْ              أينَ أمثالهُنَّ من أمثالي
تثِبُ الشّمسُ في السماءِ وشَمْسي  عُقِلَتْ دُونَها بألْفِ عِقَال
لا أرَى حِينما أرَى غَيرُ حَظِّي     حَالِكَ اللَّونِ عَابِسَ الآمال
هو جُبٌّ أعِيشُ فيه حزينًا          كاسِفَ النَّفسِ دائمَ الْبَلْبَالِ
ما رأتْ بَسْمة َ الشُّموسِ زَوَايا     هُ ولا دَاعَبتْ شُعَاعَ الْهِلال
الكفيف من سواد إلى سواد

ويصف الشاعر علي الجارم حالة الكفيف التي تتقلب بين سواد وآخر، فالسواد يجعل الظلام هو ما يواجهه في نومه وفي يقظته على حد سواء، وهو ما قد يجعله ينجرف إلى الشك والحيرة والضلال
فإذا نِمْتُ فالظَّلامُ أمامِي            أَوْ تيقَّظْتُ فالسَّوَادُ حِيالي
أتَقَرَّى الطّريقَ فيهِ بِكَفِّي           بين شَكٍّ وحَيْرَة ٍ وضَلال
وأُحِسُّ الهواءَ فهْوَ دَليلِي           عن يَميني أَسِيرُ أوْ عَنِ شِمالي
كُلّما رُمْتُ منه يَوْمًا خَلاصًا       عَجَزتْ حِيلَتي ورَثَّتْ حِبالي
عَبَثًا أُرْسِلُ الأنِينَ مِن الجُبِّ       إلى سَاكِني القُصُورِ العَوالي
مَنْ لسَارٍ بِلَيْلة ٍ طولُها العُمْ         رُيَجُوبُ اْلأَوْجالَ لِلأَوْجالِ
الكفيف يعيش في صحراء الأعاصير

ويصف الجارم بيئة الكفيف متحدثًا بضمير المتكلم، على نحو ما فعل منذ بداية القصيدة، فيلخص هذا بالوصف لبيئة المكفوف في أنها صحراء للأعاصير غير مأهولة بأي مظهر من مظاهر الحياة، وهو معنى غير مسبوق
مُتَرَدٍّ في هَاوياَت وِهادٍ       لاهِثٍ فوقَ شامِخاَتِ جِبال
عند صَحْراءَ للأعاصيرِ فِيها       ضَحِكُ الْجِنِّ أو نَحيبُ السَّعالي
لم يَزُرْها وشْيُ الرّبيعِ ولكنْ       لك ما شئْتَ من نسيجِ الرِّمال
لَيْس للطيرِ فوقَها من مَطارٍ       أوْ بَنِي الإنْسِ حَوْلَها من مَجال
خَلَقَ اللّه قَفْرَها ثم سَوَّى            من ثَراهُ أنامِلَ البُخَّال
رَهْبة ٌ تَملأُ الْجَوانِحَ رُعْبًا          وأَدِيمٌ وَعْرٌ كحدِّ النِّصال
وامتدادٌ كأنَّه الأَمَلُ الطَّا         ئشُ مَا ضاقَ ذَرْعُهُ بمُحَالِ
سارَ فيها الأعمَى وَحِيدًا شريدًا    حائرًا بينَ وَقْفَة ٍ وارْتحالِ
في هَجِيرٍ ماخَفَّ حَرُّ لَظَاه        بِنَسيمٍ ولا ببرْدِ ظِلاَلِ
مَلَّ عُكّازُه من الضَّرْبِ في الأر  ضِ على خَيْبة ٍ ورِقَّة ِ حال
يَرْفَعُ الصّوتَ لا يَرَى مِنْ مُجِيبٍ أَقْفَرَ الكَوْنُ من قُلُوبِ الرّجال
كأن الكفيف في بحر مظلم

يعبر الشاعر علي الجارم على لسان الكفيف عن حاله وهو يتصور نفسه وكأنه هوى في البحر ساقطًا في لجة، ضائعًا بلا دليل، والظلام يحيط به من كل جانب فيمثل له الأمواج والرياح بينما الآخرون من المبصرين مشغولون باللهو والحب والرقص والغناء والدلال
مَنْ لِهَاوٍ في لُجَّة ٍ هِيَ دُنْيا        هُ وأَيَّامُ بُؤسِه المُتَوَالي
ظُلَمٌ بَعضُها يُزاحِمُ بعْضًا          كَلَيالٍ كرَرنَ إِثْرَ لَيالي
يَفْتَحُ الَمْوجُ ماضِغَيْهِ فَيَهْوِي       ثمّ يطْفُو مُحطَّمَ الأَوْصال
لا تَرَى منه غيرَ كَفٍّ تُنادِي      حينما عَقَّه لسانُ المَقَالِ
والرِّياحُ الرِّياحُ تَعْصِفُ بِالْمِسِ    كينِ عَصْفَ الأيّامِ بالآجال
تصوير الجارم لتراسل الحواس

وبذكائه وعبقريته يحاول الشاعر علي الجارم أن يصف حال المكفوفين وهم يسمعون الأصوات مهما كانت طبيعتها، فيما نعرفه في المصطلحات بتراسل الحواس، فهم يسمعون السفن ويسمعون الرقص وأهازيجه
يَسْمَعُ السُّفْنَ حَوْلَه ماخِراتٍ     مَنْ يُبَالِي بِمِثْلِه مَنْ يُبَالِي
يسمُع الرَّقْصَ والأهازيج تَشْدُو   بَيْنَ وصْلِ الْهَوَى وهَجْر ِالدَّلاَل
شُغِلَ الْقوْمُ عنه بالقَصْفِ والَّلهْ    وِ وهامُوا بِحُبِّ بِنْتِ الدَّوَالي
ما لَهُمْ والصَّريعَ في غَمْرة ِ اللُّجِّ      يَصُـدُّ الأهـْوَالَ بالأهْـوَال
ويحاول الشاعر علي الجارم أن يصف قسوة البؤس، لكنه يرأف بالبائسين فلا يتعمق في وصف بؤسهم، وإنما يكتفي بتصويره من بعيد
لا يُريدُون أنْ يُشَابَ لهم صَفْوٌ     بِنَوْحٍ للبُؤْسِ أو إِعْوَال
هكذا تُمْحلُ القُلوبُ وأَنْكَى      أن تُباَهِي بذلكَ الإِمْحال
هكَذا تُقْبَرُ الُمرؤة ُ في النّاس    ويُقْضَى على كرِيمِ الْخِلال
الشاعر يساءل المجتمع

ثم ينتقل الشاعر علي الجارم من ضمير المتكلم عن نفسه إلى ضمير الشاعر السائل عن الحال والمآل، وهو يتساءل تساؤل الحث على العطاء مستنهضًا همة القادرين على مساعدة المكفوفين الذين تجتمع عليهم آهات البؤس والفقر وضيعة الأمل ولذة الحياة
مَنْ لهذا الأعْمى يَمُدُّ عصَاه     عاصِبَ البَطْنِ لم يَبُحْ بسُؤَالِ؟
مَنْ رآهُ يَرَى خَليطًا من البُؤ     سِ هَزيلًا يَسِيرُ في أسْمَال
هو في مَيْعَة ِ الصِّبا وتَراهُ      مُطْرِقَ الرَّأسِ في خُشُوعِ الكِهَال
ساكنًا كالظَّلاَمِ يَحْسَبُهُ الرَّا       ءُونَ معْنًى لليأسِ فِي تِمْثَالِ
فَقَد الضَّوْءَ والحياة َ وهل بَعْد    ضِيَاءِ العَيْنَيْن سَلْوَى لِسال؟
مَطَلَتْهُ الأيّامُ والناسُ حَقًا           فَقَضَى عَيْشَه شَهِيدَ المِطَال
تصوير الجارم لدور البصر في الإحساس

ويتحدث الشاعر علي الجارم عن النعم البصرية التي حرم منها الكفيف بطريقة يستقصي فيه ما يظن البصر قادرًا عليه من الإحساس العميق
ما رَأَى الرَّوْضَ في مَآزِرِهِ الْخُضْرِ   يُبَاهِي بحُسْنِها ويُغَالي
ما رَأى صفحة َ السماءِ وَمَا         رُكِّبَ فيها مِنُ باهِرَاتِ الّلآلي
ما رَأى النِّيلَ في الْخَمائلِ يَخْتَا لُ     بأذيالِهِ العِراضِ الطِوالِ
ما رَأى فِضَّة َ الضُّحَى في سَنَاها    أوْ تَمَلَّى بعَسْجَدِ الآصال
فدعوه يَشْهَدْ جَمَالًا من الإِحْسَانِ       إنْ فاتَه شُهُودُ الْجَمال
ودعوه يُبْصِرْ ذُبَالًا من الرَّحْمَة ِ       إِنْ عَقَّه ضِياءُ الذُّبَال
قد خَبَرتُ الدُّنيا فلم أرَ أَزْكَى       مِنْ يَمينٍ تَفتَّحتْ عَنْ نَوَال
وصف شعري دقيق لفكرة التعويض

يتحدث الشاعر علي الجارم عن فكرة التعويض لاجئًا في النهاية إلى التمثل بأبي العلاء المعري وعبقريته
رُب أعمَى له بصيرة ُ كَشْفٍ      نفذَتْ من غَيَاهِبِ الأَسْدالِ
أَخَذَ اللّه مِنهُ شيئًا وأَعْطَى          وأعَاضَ المِكْيالَ بالْمِكْيال
يَلْمَحُ الْخَطْرة َ الْخَفِيَّة َ للنفْسِ     لها في الصُّدورِ دَبُّ النمَال
ويَرَى الحقَّ في جَلاَلة ِ معناهُ    فيحيا في ضَوْءِ هذا الْجَلاَل
كان شَيْخُ المَعَرَّة ِ الكَوْكَبَ السَّاطِعَ   في ظُلْمة ِ الْقُرُونِ الْخَوَالي
فأتَى وهْوَ آخِرٌ مِثْلَما قا ل            بما نَدَّ عَنْ عُقُولِ اْلأَوَالي
الجارم يستحث أصحاب العافية والمال

ثم يلجأ الشاعر علي الجارم إلى الخطاب الصريح، يخاطب به من رزقوا العافية والمال فأصبحوا يتمتعون ويختالون وينفقون، بينما إخوانهم من المكفوفين في حاجة إلى عونهم
أيُّها الوَادِعُون يَمْشُون زَهْوًا       بَيْنَ جَبْرِيّة ٍ وبَيْنَ اخْتِيالَ
يُنْفقُوِن القِنْطارَ في تَرَفِ العَيْ     شِ ولا يُحْسنون بالمِثقال
ويَرْونَ الأَموالَ تُنْثرُ في الّلهْ        وفلا يَجْزَعون ِلْلأَمْوَال
إِن في بَلْدَة ِ الُمُعِزِّ جُحُورًا         مُتْرَعاتٍ بأدْمُعِ الأَطْفَالِ
كلُّ جُحْرٍ بالبُؤْسِ والفَقْرِ مملو     ءٌ ولكنّه من الزَّادِ خالي
بَسَقَتْ فيه للجَرَاثيمِ أفْنا             نٌ تدلَّتْ بكلِّ داءٍ عُضاَل
لوْ رأيتَ الأشباحَ مِنْ ساكنيه     لرَأيْتَ الأطْلاَلَ في الأطْلال
يَرْهَبُ النُّورُ أنْ يمرَّ به مَ          رَّا وتَخشَى أذَاهُ ريحُ الشَّمَال
تَحْسِبُ الطفلَ فِيه في كَفَنِ الموْ    تَى وقَدْ ضمَّه الرِّدَاء البالي
وينتقل الشاعر علي الجارم من خطاب الوادعين المزهوين إلى مخاطبة الأغنياء، مذكرًا لهم بأن مَنْ يطلب العون لهم هم عباد الرحمن وعياله، وأنهم وإن كانوا حرموا البصر فقد رزقوا نعمًا أخرى كثيرة تهيئ لهم من الدهر مكانًا سامقًا لو وجهت لهم العناية
الجارم يوجه المجتمع إلى آلية الارتقاء بالعجزة

يعمّق الشاعر علي الجارم دعوته إلى تكثيف الإحسان للعاجز والفقير من أجل الارتفاع بهم إلى التعفف والاعتماد على النفس والمشاركة في المجتمع والإنتاج
أيّها الأغنياءُ أين نَدَاكُمْ!            بَلَغ السّيْلُ عالياتِ القِلال
هُمْ عِيالُ الرَّحمنِ ماذا رأَيتُمْ       أو صَنَعْتُم لهؤلاءِ العِيالِ؟
.............................
أنقِذُوا العَاجزَ الفَقِيرَ وصُونُوا      وَجْهَه عن مَذَلَّة ٍ وابْتِذَال
علِّموهُ يَطْرُقْ مِنَ العَيْشِ بابًا       وامْنَحُوه مَفَاتِحَ الأَقْفَالِ
لاتَضُمُّوا إلى أَسَاهُ عَمَى الْجَهْ      لِ فَيَلْقَى النكَالَ بَعْد النكَال
كُلُّ شيءٍ يُطاقُ مِنَ نُوَبِ الأَيَّامِ    إِلاَّ عَمَاية َ الْجُهَّال
علِّموه فالِعلْمُ مِصْباحُ دُنْيا          هُ ولا تَكْتَفُوا بصُنْعِ السِّلاَل
إنْ جَفَاهُ الزّمانُ والآلُ والصّحْ     بُ فكونوا لِمِثْله خيرَ آلِ
ثم هو يلجأ أخيرًا للوازع الديني فيذّكر من يخاطبهم من ذوي البذل والمروءة بأن القرآن الكريم دعا إلى الترفق بالأعمى، كما يلجأ إلى الوازع النفسي الذي يمثله حب الخلود عند أصحاب القدرة من أرباب المال
نَزلَ الوَحْيُ في التَّرَفُّقِ يالأعمَى     
                            وبْسطِ اليديْنِ للسُّؤَال
سوف تتلو الأجيالُ تاريخَ مِصْرٍ   
                                فأعِدُّوا التاريخَ لِلأَجْيال
بالأيادِي الحِسانِ يُمْحى دُجَى البؤ سِ 
                           وتَسْمُو الشعوبُ نَحَو الكَمال
يَذْهبُ الفقرُ والثَّراءُ ويَبْقى     
                               ما بَنَى الخيِّرونَ من أَعْمال
الوطنية في شعر الجارم

ننتقل إلى مفاهيم الوطنية في شعر علي الجارم، ونبدأ بالقول بأن قصائده في سعد زغلول   وزعماء الوطنية في ال تجعله في مقدمة الشعراء المادحين، كما أنا لسنا نبالغ إذا قلنا إن المدائح و المراثي التي نظمها الشاعر علي الجارم تمثل جزءًا مهمًا من مصادر كتابة تاريخنا القومي والثقافي على حد سواء.
وهنا نذكر لعلي الجارم على سبيل المثال ولاءه القومي للحركة الوطنية بقيادة سعد زغلول، ونذكر أن له ست قصائد في الزعيم سعد زغلول، سنرتبها حسب طولها، مع أن هذا الترتيب لا يعني شيئًا في جوهرها، لكنه يسهل علينا التمييز بينها
- أطولها هي قصيدته في رثاء سعد (90 بيتًا) وقد جعل عنوانها «رثاء سعد».
-  تليها قصيدته في مناسبة إقامة تمثال سعد (1938)، وهي من (70 بيتًا)، أضاف فيها إلى تاريخ سعد ما لم يكن قد تناوله في رثائه (1927).
-  تليها قصيدته عند نقل رفات سعد إلى ضريح سعد (1936)، من 47 بيتًا.
-  تليها قصيدته عن وزارة سعد (1924) التي تتحدث عن وزارة الشعب الأولى، وهي من 24 بيتًا.
- وكذلك قصيدته الدعوة إلى الوفاق (1926) من (24 بيتًا).
- وأصغر قصائده في سعد (22 بيتًا)، هي تلك التي نظمها عند الفرحة بنجاة سعد من محاولة اغتياله وهو رئيس للوزراء (1924).
مدائحه للزعماء الوطنيين

وننتقل مع الجارم إلى الزعماء التالين لجيل سعد زغلول باشا، الذين هم من جيل الجارم نفسه، فنجد له قصيدة رائعة في مصطفى النحاس (68 بيتًا) نظمها عقب أن أكد النحاس زعامته بمعاهدة 1936، ثم إلغاء الامتيازات الأجنبية 1937، وهي من أفضل القصائد في مديح النحاس، على الرغم من أن الجارم بحكم زمالته وصداقته للنقراشي تحول في أذهان الناس وذاكرتهم إلى صديق للسعديين على حساب الوفد. ولكننا نجد الجارم أرحب أفقًا من الحزبية، الضيقة ذلك أنه كان يقدر زعامة سعد ويقدر معاصريه وتلاميذه جميعًا بمن فيهم غير الوفديين. ولهذا نرى له أيضًا قصيدة في رثاء محمد محمود باشا (68 بيتًا)، لا تقل حماسة عن قصيدته التي مات وهو يسمعها في رثاء صديقه محمود النقراشي باشا (72 بيتًا) وهي بلا جدال مسك الختام من قصائده.
نموذج من رثاء سعد

والحق أن أفضل صور الفهم العميق للوطنية والزعامة في شعر الجارم تتجلى في رثائه لسعد زغلول باشا، فهو رثاء  وطني حافل بالمعاني الوطنية كما أنه رثاء شامل ودقيق صاغه شاعره وصاحبه على نحو يجمع بين الأصالة والمعاصرة، فنراه في قصيدة رثاء الزعيم العظيم وهو يقول :
لاَ الدَّمعُ غاضَ وَلا فُؤادُكَ سَالي   
                             دَخَلَ الْحِمَامُ عَرِينة َ الرِّئْبالِ
وَأَصابَ في المَيْدانِ فارسَ أُمَّة ٍ   
                          رَفَع الكِنَانة َ بَعْدَ طُولِ نِضَال
رَشَقَتْه أحْداثُ الْخطوبِ فأقْصَدَتْ 
                            حَرْبُ الخُطُوبِ الدُّهْمِ غَيرُ سِجَال
لِلْمَوْتِ أَسْلِحَة ٌ يَطِيحُ أَمَامَها        
                        حَوْلُ الَجْرِيء، وَحِيلَة ُ المُحْتَال
مكانة الزعيم سعد زغلول في التاريخ

ويتحدث الشاعر علي الجارم عن مكانة سعد زغلول في التاريخ وكيف استطاع هذا الزعيم أن يرفع مكانة وطنه حين تجلى للدفاع عنه في ميدان السياسة، غير هياب من الظروف غير المواتية، وهو يصف موقف سعد وزعامته على نحو سريع يلخص أبرز السمات في أداء هذا الزعيم، الذي كان قادرًا بمواقفه المتتالية أن يحقق لوطنه ما حققه. وهو يتحدث عن عظمة الزعيم سعد زغلول الحقيقية العابرة للأجيال، وهي نوع من العظمة الباقية الذكر
ما كَانَ سَعْدٌ آية في جِيلِه      سَعْدُ المُخَلَّدُ آيةُ الأَجْيَال
تَفْنَى أَحادِيثُ الرِّجالِ وَذِكْرُهُ    سَيظَلُ في الدُّنْيا حَدِيثَ رِجَالِ
سَارٍ كمِصْبَاحِ السَّمَاءِ يَحُثُّه      كرُّ الضُّحَى وتَعاقُبُ الآصال
كيف قاد سعد الثورة

وينتقل الشاعر علي الجارم للحديث عن خطوات ثورة مصر الصادقة في سعيها لاستقلالها تحت قيادة الزعيم سعد زغلول، واصفًا أحوال الثورة من حيرة وهموم وخوف وحزن، وحال الشعب المصري حين كان البطش يشتد عليهم والموت يهددهم، وهنا تظهر آثار قيادة سعد لأبناء مصر وتطلعاتهم الواثقة، فقد جعلتهم هذه القيادة يتحمسون لحقهم، على الرغم مما صادفوه من العنف والترهيب، وعلى الرغم مما فرض عليهم من دواعي اليأس والقنوط
أرأيْتَ مصرَ تهُبُّ لاسْتقلالِها   
                      والسَّيْفُ يَلْمَعُ فوقَ كلِّ قَذَالِ
والذُّعرُ يعصفُ بالقُلوب كَمَا   
                        جَرتْ هُوجُ الرِّياحِ على كَثِيبِ رِمال
والأرضُ تَرْجُفُ، والسَّماءُ مَرِيضَة ٌ  
                          والنَفْسُ حَيْرَى والهُمُومُ تَوَالي
والناسُ في صَمْتِ المَنُونِ كأنّهُمْ  
                          صُوَرٌ كَسَاها الحزْنُ ثَوْبَ خَبال
تصدي سعد زغلول لترهيب الاحتلال

وهو يجيد تصوير جو الترهيب الذي فرضه المستعمر على مصر في محاولة لوأد ثورتها بقيادة الزعيم سعد زغلول
إنْ حَدَّثوكَ فَبِالْعيون لِيَتَّقوا     رَصَدَ العيون وشِرَّة َ المُغْتال
والموتُ يَخْطرُ في الْجمُوعِ وحَولَه    أَجْنادُه من أَنْصُلٍ وَعَوالي
ريّانَ من مُهَجِ الشَّبابِ كأنَّما    مُهَجُ الشَّبابِ سُلافَة ُ الْجِرْيَالِ
وجَنَانُ مِصْرَ عَلَى جَنَاحَى ْ طَائرٍ    مِمَّا أَلَحَّ عليه مِنْ أَهْوال
ترْنُو إلى أبنائِها بنَوَاظرٍ          غرِقتْ بماءِ شُؤُونها الهَطّال
تصويره لعناصر القوة في زعامة سعد زغلول

ويصف الشاعر علي الجارم الأثر الفاعل لزعامة سعد زغلول حين هز زئيرها الجو السياسي وحشد الناس للحق وأظهر فيهم عناصر القوة والحركة والنشاط، على الرغم من تقدم العمر بالزعيم، وما كان المرض يؤثر به على نشاطه، فإذا بالزعيم المحرك للجماهير كالنمر بل كالأسد، ذلك أنه هو القدر الذي رزقه الله لمصر
وإذَا بصَوْتٍ هزَّ مصرَ زئيره     
                  غضَبُ الُّليوثِ حماية ُ الأشْبَال
صوْتُ كَصُورِ الحشْرِ جَمَّع أمّة ً  
                       مَنحلَّة َ الأطرافِ والأوْصال
فتطَلَّعتْ عَيْنُ وأصغَت بعدَها      
                        أُذنٌ وهمت أَلْسُنٌ بسؤال
مَنْ ذلك الشَّعشَاعُ طال كأنَّه    
                          صدرُ القَنَاة ِ وعامِلُ العَسّال؟
مَنْ ذلك النَّمِرُ الوَثُوبُ وذلك الأَسَدُ   
                                المُزَمْجِرُ ذُو النِّداءِ العالي؟
ومَنْ الذي اخْتَرقَ الصفوفَ كأَنّه    
                             قَدَرُ الإلهِ يسيرُ غيرَ مُبالي؟
سعد

وهو يلخص فهمه لشخصية الزعيم سعد زغلول في حروف اسمه الثلاثة ودلالتها، ثم هو يصف حال مصر بهمتها وصبرها وإرادتها ونزالها وحكمتها
سْعدٌ وحسبكَ منْ ثَلاثة أحْرفٍ ما     
                            في الْبَرِيّة ِ من نُهًى وكمالِ
كَتَب الكتائب حَوْل مِصرَ سِلاحُها           
                              صبْرُ الكريمِ وهمَّة ُ الفَعّال
ومنَ السُّيوفِ إرادة ٌ مَصْقُولة ٌ              
                        طُبِعَتْ ليوْمِ كريهة ٍ ونِزال
ومِنَ السَّوابِغ حِكْمة ٌ سَعْديَّة ٌ                 
                         تُزْرِي بوَقْعِ أسِنَّة ٍ ونِبَال
ومِن الحصونِ فؤادُ كلِّ مُصَابرٍ         
                       جَهْمِ العَزيمة ِ ضاحكِ الآمال
كيف شق سعد زغلول طريقه للنصر

وهو يصور مسيرة الزعيم سعد زغلول في العمل الجاد من أجل النصر والحياة والاستقلال، فيصل إلى درجة عالية من الإبداع النفسي الذي لا يتجاوز حدود العقل والتخيل للأمر الواقع
فَمضَى إلى النَّصرِ الُمِبِين مُؤزَّرًا 
                       والشَّعبُ يَهتفُ بِاسْمه ويُغَالي
وَهَدَى الشَّبَابَ إلَى الْحيَاة ِ فأَدْرَكُوا          
                           مَعْنَى الْحيَاة ِ وَعِزَّ الاِسْتِقْلالِ
وَجَرَى يُغَبِّرُ لاَ العَسِيرُ بِخَاذِلٍ     
                        أمَلًا ولا نَيْلُ السُّهَا بِمُحال
الإيمان بالجهاد

وهو على عادة المسلمين المؤمنين بالجهاد يستدعي التشبيه الأمثل في هذه الحالات، وهو أن يشبه الدعوة إلى الثورة واستقلال الوطن بأذان بلال مؤذن الرسول ﷺ، وأن يشبه أداء القائد بأداء سيف الله المسلول خالد بن الوليد
فكأَنّه سَيْفُ الْمُهَيْمِن خَالِدٌ           وكَأَنَّ دَعْوَتَهُ أذَانُ بِلاَل
إعجابه بصلابة سعد زغلول

ويحرص الشاعر علي الجارم في قصيدته التي رثا بها سعد زغلول على أن يصور موقف الزعيم سعد زغلول باشا من مناورات السياسة ومن سطوة القوة وغطرسة المستعمر، ولهذا نراه يقف أمام أداء الزعيم سعد زغلول وسياساته المتعاقبة وردود أفعاله ودعوته، موقف المعجب المبجل الذي يرى فيها وجوهًا متعددة للعظمة، فيشبهها تارة بالسيل، وتارة بالسيف، وتارة بالشعلة الحمراء المشتعلة، وكأنه يريد القول أنه يجد في سياسات الزعيم سعد زغلول قوة الاندفاع وحسم القوة وهداية الحرية
مَا رَاعَهُ نَفْيٌ وَلاَ لَعِبَتْ به      
                    في حُبِّ مِصْرَ زَعَازِعُ الأَوجَال
وَيَرى الْحتُوفَ وَقَدْ مَلأْنَ طَرِيقَه
                           نَارَ الْحُبَاحِبِ أَوْ وَمِيضَ الآل
يزدَادُ في عَصْفِ الشَّدَائِدِ قُوَّة ً     
                          وَيَجُولُ حِينَ يَضِيقُ كَلُّ مَجالِ
كَالشُّعْلَة ِ الْحَمْراءِ لَوْ نَكَّسْتَها     
                              لأَضَفْتَ إشْعَالًا إلَى إِشْعَالِ
وَالسَّيْلُ إنْ أَحْكَمْتَ سَدَّ طَرِيقَه     
                    دَكَّ الْحصُونَ فَعُدْنَ كَاْلأَطلاَلِ
وَالصَّارِمُ الفَصَّالُ لَمْ يَكُ حَدُّه       لَولاَ اللَّهِيبُ بِصَارِمٍ فَصَّال
إعجابه العميق بخطابة سعد زغلول

وهو يصف أداء الزعيم سعد زغلول حين يخطب بإعجاز بديهته، وما تعبر عنه خطابته من تفوق وبديع وبيان وبلاغة ولغة عالية وسيطرة كاملة على المستمعين
إنْ قَامَ يَخْطُبُ قُلْتَ حَيْدَرَة ُ 
                  اْنَبَرى لِلْقَوْل فِي سَمْتٍ وَصِدْقِ مَقَالِ
إِعْجَازُ عَارِضَة ٍ وَنُورُ بَدِيهَة ٍ    
                       وَبَدِيعُ تَنْسِيقٍ وَحُسْنُ صِقَالِ
يَختَارُ مِنْ آي الْكَلاَمِ جَوَاهِرًا     
                        دُرَرُ الْبَلاَغَة ِ كَاسْمِهِنَّ غَوَالي
مَا عَقَّهُ حُرُّ الْبَيَانِ وَلاَ جَزَتْ    
                          أُمُّ اللُّغاتِ وَفَاءَهُ بِمطَال
وَالسَّامِعُونَ كأَنَّمَا لَعِبَتْ بِهِمُ     
                        صَهْبَاءُ قَدْ نُفِحَتْ بِرِيحِ شَمَال
طبيعة الثورة في نفسية سعد زغلول

وهو يصف أداء الزعيم سعد زغلول حين يثور بركان الوطنية في حديثه وحين يتوثب ويدعو للنزال ويصيح كالصاعقة
فَإِذَا أَثِيرَ رَأَيْتَ بُرْكَانًا رَمَى      حُمَمًا، وَدَكَّ الأَرْضَ بِالزَّلْزَالِ
مُتَنَمِّرًا كَاللَّيْث دِيسَ عَرِينُه      مُتَوَثِّبًا يَدْعُو الرِّجَالَ نَزَال
كَلِمٌ إذَا حَدَرَ اللِّئامَ رَأَيْتَهَا           حَالَتْ إلَى مَسْنُونَة ٍ وَنِصالِ
لاَتَذْكُرُوا نَارَ الصَّوَاعِقِ عِنْدَهَا    نَارُ الصَّوَاعِقِ عِنْدَهَا كذُبَال
طهارة سعد زغلول

ويصف الشاعر علي الجارم الزعيم سعد زغلول في أخلاقه بشرف الخصومة وبوضوح السريرة والطهر والأصالة
خَصْمٌ شَرِيفٌ نَالَ مِنْ خُصَمَائِهِ    ما نَالَ مِنْ إِجْلاَلِ كُلِّ مُوالىٍ
عَرفُوهُ وَضَّاحَ السَّرِيرة ِ طَاهِرًا   شَرُّ الْبَلاَءِ خُصُومَة ُ الأَنْذَالِ
إِنَّ الشَّجَاعَة َ أنْ تُنَاضِلَ مُصْحِرًا  لاَ أَنْ تَدِبَّ كَفَاتِكِ اْلأَصْلاَلِ
ويعود الشاعر علي الجارم بعد عدة أبيات للحديث عن طهارة نفس الزعيم سعد زغلول وطيب شمائله، وما تميز به من تواضعه وعزته وعزيمته وشجاعته وحزمه وإيمانه بعقيدته
نَفْسٌ كَأَنْفاسِ الْمَلائِكِ طُهِّرَتْ    وشَمَائلٌ أَحْلَى من السَّلْسَال
وَتَوَاضُعُ النُّسَّاكِ فِيهِ يَزِينه        شَمَمُ الْملُوكِ وَعِزَّة ُ اْلأَقْيَال
وَخَلائِقٌ كَالزَّهْرِ سَارَ عَبِيرُهُ     ما بَيْنَ أَمْوَاهٍ وَبَيْنَ ظِلاَل
وَعزيمة ٌ جَبَّارَة ٌ لَوْ حُمِّلَتْ       أُحُدًا لَمَا شَعَرتْ له بِكَلال
وَشَجَاعَة ٌ فِي اللّه يَكْلؤُها الحِجا    وَالْحَزْمُ في الإْدْبَارِ وَالإِقْبَال
وَعَقِيْدَة ٌ لَوْ هُزَّتِ اْلأَجْبَالُ مِنْ   ذُعْرٍ لَمَا اهْتَزتْ مَعَ اْلأَجْبَال
العزاء لمجلس النواب

ويتقدم الشاعر علي الجارم بالعزاء لمجلس النواب (دار النيابة) في فقدان هذا الزعيم الرئيس الحكم العدل القادر على الفصل في كل نزاع وعلى استخراج الحقيقة والوصول إليها
دَارُ النِّيَابَة ِ عُوجِلَتْ فِي مِدْرَهٍ      كَانَ الزَّمَانُ بِهِ منَ البُخّالِ
ضُرِبَتْ بِهِ اْلأَمْثَالُ لَمَّا أَنْ غَدَا    فِي دَهْرِهِ فَرْدًا بِلاَ أمْثَال
قَدْ كَانَ فَيْصَلَهَا إِذَا عَجَّتْ بِهَا     لُجَجُ الْخِلاَفِ وَلَجَّ كلُّ جِدَالِ
يَزِنُ الْكَلاَمَ كَمَا يُوَازِنُ صُيْرَفُ   في النَّقْدِ مِثْقَالًا إلَى مِثْقَال
وإذَا الْحقِيقَة ُ أَظْلَمَتْ أَسْدَالُهَا صَدَعَ الدُّجَى فَبَدتْ بِلاَ أَسْدَال
عزاء المريدين

وينتقل الشاعر إلى الحديث عن قدرة الزعيم سعد زغلول على توجيه أتباعه وأبناء الشعب وقيادتهم نحو الاتحاد والاعتصام بالحق
جَمَعَ الْقُلُوبَ عَلَى الْوفَاقِ وصَانَها مِنْ وَهْنِ رعْدِيدٍ وَطَيْشِ مُغَالي
لم يَنْتَقِلْ حَتَّى تَفَجَّر نَبْعُهُ     وشَفَى النُّفُوسَ نَمِيرُهُ بِزُلاَل
عَقَدَ الإلَهُ عُرَاهُ، جَلَّ جَلاَلُهُ   أَتَرَى لِعَقْدِ اللّهِ مِنْ حَلاَّلِ؟
وصف الجارم لمرض سعد زغلول ووفاته

يتحدث الشاعر علي الجارم عن مرض الزعيم سعد زغلول الأخير وإحساس محبيه بقرب نهايته، وكيف كان زواره يتأثرون بتدهور حالته وتمكن المرض منه واقتراب الموت من اقتطاف حياته
لَهْفِي عَلَيْهِ وَهْوَ رَهْنُ فِرَاشِهِ        مُتَفَزِّزًا مِنْ دائِه القَتَّال
لَهْفِي عَلَى لَيْثِ الكِنَانَة ِ أُغْمِدَتْ    أَظْفَارُهُ مِنْ بَعْدِ طُولِ صِيَال
قَنَصَتْ بَنَاتُ الدَّهْرِ واحِدَ دَهْرِهِ    وَرَمَتْهُ مِنْ أَدْوَائِها بعُضَال
وهو يصف الحالة النفسية لمن كانوا يعودون الزعيم سعد زغلول في مرضه
يَرْنُو إِلَيْهِ الْعَائِدُونَ بِأَعْيُنٍ          غُزْرِ الدُّمُوعِ كَثِيرة ِ التَّسَآل
مُتَقَدِّمِينَ تَسُوقُهُمْ لُمَعُ المُنَى        مُتَرَاجِعِينَ مَخَافَة َ الإِعْوَال
والْمَوْتُ يَسْخَرُ باَلْحيَاة ِ وطِبِّها     جُهْدُ اَلْحياة ِ نِهَاية ُ الآجَال
تصويره جزع الشعب على سعد

ويصور الشاعر علي الجارم المدى الذي وصلت إليه لهفة جموع الشعب في الاطمئنان على زعيمه وتجمعهم حول بيته وتعبيرهم عن حبهم للزعيم، ورغبتهم في افتداء روحه وعرفانهم له بالجميل، وتعبيرهم عن هذا العرفان بالثناء الحسن الجميل
والشَّعْبُ يَسْأَلُ كَيْفَ سَعْدٌ؟ مالَه    والنَّاسُ في ذُعْرٍ وفي بَلْبَالِ
يَفِدُون لِلْبَيْتِ الْكَرِيمِ كَأَنَّهُمْ زُمَرُ الحجيجِ تَسِيرُ في أَرْسَال
يَفْدُون بالنَّفْسِ الرَّئيسَ، وإنَّما      نَفْسُ الرَّئيسِ بقَبْضَة ِ المُتَعَالي
عَرَفُوا الْجمِيلَ ولا تَزَالُ بَقِيَّة ٌ     في النَّاسِ لْلإِحْسَانِ والإجْمَالِ
مَنْ يَشْتَرِي حُسْنَ الثَّناءِ فإِنّما       بِفَعَالِهِ يَشْرِيهِ لا بِالْمَالِ
كيف تلقى الجارم نبأ وفاة سعد زغلول

يتقمص الشاعر علي الجارم شخصية مَن تلقى الخبر لتوه، فأخذ يخاطب الناعي الذي نعى الزعيم سعد زغلول، فيطلب من هذا الناعي أن يرأف بحال الأمة التي رزيت بوفاته، وانتابها الحزن الذي يعجز البيان عن تصويره، وخرجت لوداعه في هيبة وجلال
يَأَيُّها النَّاعِي حَنَانَكَ إِنّما         هِيَ أُمَّة ٌ أَضْحَتْ بِغَيْرِ ثِمَال
ماذا تَقُول ولِلرَّزيئَة ِ رَوعَة ٌ     تُغْنِي بَلاغَتُها عن الأَقْوال
مَنْ كَان يَرْثي أُمَّة ً في وَاحِدٍ      تَكْفِيهِ بارِقة ٌ مِن الإجْمَال
وإذا الْبَيَانُ أَبَى عليهِ فَرِيدُهُ        فالدَّمْعُ فِيه فَرائِدٌ ولآلِى
سَارَتْ مَطيَّة ُ نَعْشِهِ عُجْبًا به     تَختَالُ بين الوَخْدِ والإرْقَالِ
فِيهَا كَتَابُوتِ الْكَليمِ سَكينَة      وَبَقِيَّة ٌ مِنْ هَيْبَة ٍ وَجَلاَل
خطابه الشهير لمشيعي سعد زغلول

ثم يأتي مقطع شهير من قصيدة الشاعر علي الجارم، وهو المقطع الذي يخاطب فيه الجارم مشيعي جنازة الزعيم سعد زغلول، سائلًا إياهم أن يختاروا أسلوبًا لتشييعه غير الأسلوب الرسمي، ذلك أنه لم يكن شخصًا عاديًا كأولئك الذين يمكن تشييعهم بجنازة رسمية وعربة مدفع
لا تَحْمِلوه عَلَى المَدَافِعِ إِنّما        فَخرُ الزَّعيمِ قِيادَة ُ الأَعْزَالِ
أَجْدِرْ بِمَنْ حَمَلُوه فِي غَزَوَاتِهِ      أَنْ يَحْمِلُوهُ عَشِيَّة َ التَّرْحَال
ثم هو يلتفت إلى مخاطبة الجمهور فيقول
سِيرُوا عَلَى سَنَنِ الزَّعِيمِ فَإنَّهُ      سَنَنُ الْهُدَى وَجَلاَئِل الأَعْمَال
قَدْ خَطَّ مِنْ أَخْلاقِهِ وجِهَادِهِ      لِلفِتْيَة ِ السَّارينَ خَيْرَ مِثَالِ
إنْ كانَ لَمْ يَنجُلْ فإنَّ لهُ بِكُمْ      عَدَدَ النُّجُومِ الزُّهْرِ مِنْ أَنْجَال
لا تَيْأَسُوا فَلَكَمْ أُبِيدَتْ قَبْلكُمْ       أُممٌ بِيَأسٍ قَاتِلٍ وَمَلاَل
فلسفة الزعامة

وفي نهاية هذه القصيدة العصماء التي تُعدّ من عيون الشعر العربي المعاصر، يلخص الشاعر علي الجارم معاني قصيدته تلخيصًا رائعًا مقدمًا فلسفة الزعامة في عبارات واضحة الدلالة من حيث علاقتها بحياة الشعوب نفسها
إِنَّ الشُعُوب تُصابُ في أَبْطَالِها    وحَياتُها في سِيرَةِ الأبْطَالِ
هِيَ قُدْوَة ٌ للعامِلينَ وَأُسْوَة ُ      الْمُسْتَبْسِلِينَ وَقصَّةُ الأَطْفال
سَعْدُ حَيَاة ٌ في الَمماتِ وَقَبْرُهُ    مَهْدُ الْجِهاد ومَجْدُ الاسْتِقْبَال
أَحْرَى بَمنْ وَهَبَ الْحَياة َ لِقَوْمِهِ    أَلاَّ تُمَسَّ حَياتُهُ بزَوَال
الجارم وتجربته الذاتية : نماذج للفخر

تعتبر قصيدة علي الجارم البائية في احتفال دار العلوم بعيدها الخمسيني (1927) بمثابة القمة في تعبيره عن ذاته، وعن تجربته، وفي أبيات هذه القصيدة ذابت نفسه في حب مدرسته ذوبانًا جعلها في النهاية تحصل ونحصل معها على كل مزايا الرحيق الذي نشأ عن هذا التذويب
 وقد صور الشاعر علي الجارم نفسه منصهرًا تمام الانصهار في التجربة الدرعمية بكل جوانبها، ومن ثم فإنه يجعل من نفسه رائيًا ومرئيًا مستحضرًا تجربته في الظهور اللامع بين زملائه بالنشاط واللهو والضحك والجرأة، مع إيمان ويقين وإقبال على الصعاب وعلى العبث البريء وعلى الاستذكار والاجتهاد والتحصيل والفخر
وَأرَى الْجَارِمَ الفَتِيَّ يَقُودُ الْحَ    شْدَ في جَحْفَلٍ مِنَ الطُّلاَّب
وَاثِبًا لاهِيًا لَعُوبًا ضَحوكًا         غيْرَ مَا وَاجلٍ وَلا هَيَّابِ
وهو يتحدث عن ثقته بالله وبالقدرة على تخطي الصعاب، مع أنه عابث ومتنقل بين المواضع، لكنه يعرف أن رأسه هو رأس ماله، ولهذا فإنه معتز بهذا الرأسمال، وهو يصل إلى عدد من المعاني المبتكرة في هذه الفكرة، وهي من المعاني التي غذتها ونمتها دراسته لعلم النفس، وذلك من قبيل القول بأن الصعب ليس إلا استصعاب الصعاب، ومن قبيل القول بأنه يملك من رأس المال ذلك الوعاء المليء بالفكر، ومن قبيل التفريق بين يوم الامتحان الدنيوي بسهولته ويوم الحساب الذي هو يوم القيامة بصعوبته
وَاثقًا بالإِله لَيْسَ يَرَى الصَّعْبَ سوَى أَن تَهابَ خَوْضَ الصِّعَاب
فَهْوَ كالطَّائِرِ الطَّلِيقِ فِحِينًا       في وِهَادٍ وَمَرَّة ً في هِضَاب
عابِثٌ بالغُصُونِ في ظِلِّ رَوْضٍ   حَاكَ أَفْوافَه مُلِثُّ الرَّبَاب
يَحْمِل الكُتْبَ في الصَّبَاحِ وَلِلآ     مالِ في صَدْرِه نَئِيجُ العُبَاب
رَأْسُه رَأْسُ مالِه وامتِلاءُ الرَّأْس    خَيْرٌ من امْتِلاء الوِطَاب
كُلُّ يَوْمٍ في الامْتِحاناتِ هَيْنٌ    خَطْبُهُ غَيْرَ خَطْبِ يَوْمِ الْحِسَاب
وفي هذه القصيدة الشهيرة التي نظمها بمناسبة احتفال دار العلوم بعيدها الخمسيني يا خَلِيلَيّ خَلِّيانِي وَما بِي، نرى الشاعر الجارم يبني نظريته في مديح دار العلوم وذكرياتها من خلال إبداء أمنيته في أن تعود أيام الشباب التي كانت أو التي أصبحت) بالنسبة له حلمًا ذهب مع الزمن، ولا يزال أثره مسيطرًا على ذاكرته وذهنيته، فهو يتمناه فلا يجده لكنه يستمتع بذكره وذكراه
يا خَلِيلَيّ خَلِّيانِي وَما بِي          أَوْ أعِيدَا إِلَيَّ عَهْدَ الشَّبابِ
حُلمٌ قد مَضَى وَأَيَّامُ أُنْسٍ        ذَهبتْ غيرَ مُزْمِعاتِ الإِيَاب
ويصل الشاعر علي الجارم إلى بيت بديع في تصوير معنى شائع لم يحظ من قبل بمثل هذا التصوير النفسي الذكي، فهو يشبه حاله مع شبابه بحال أزاهير تاج العروس حين يصبح عليها الصباح بعد أن تتعفر في التراب
وَأَزَاهِيرُ كُنَّ تَاجَ عَرُوسٍ          عُفِّرَتْ بعدَ لَيْلة ٍ في التُّراب
وصفه لصراعه مع نزوات الشباب

نرى الشاعر علي الجارم بما تملكه من محصلة التفاعل بين فطرته الخلقية وسليقته الشعرية يلجأ بسلاسة إلى معاني الشعراء التقليدية التي تختلط فيها تعبيراتهم عن العبادة بتعبيراتهم عن المعصية على نحو جميل الشاعرية وإن كان ماجنًا
وبِساطٌ للشَّاربينَ يُصَلِّي      فيه إِبْريقُهم بلا مِحْراب
في حَدِيثٍ أَحْلَى من الأَمَلِ الْحُلوِ  وَأَصْفَى دِيباجَة ً مِنْ شَرابِ
كلُّ فَصْلٍ كأَنّه صَفْحَة ُ الرَّوْضِ    وَعِنْد العُقَارِ فَصْلُ الْخِطابِ
وحين يريد الجارم الشاعر أن يصف مجون الشباب الذي عاشه هو وأترابه، فإنه يظهر القدرة على أن يهرب من الملاحقة الخلقية على فعل المجون إلى منطقة يعدها آمنة من هذه الناحية، وهي إعجابه وإعجابهم بشعر عمر بن أبي ربيعة وشعر أبو نواس، وكأن مجونه ومجونهم توقف عند قراءة الشعر والإعجاب بما فيه من تعبير عن التجربة، لا التجربة نفسها:
ومُجُون يَحُوطُه الأَدَبُ الْجَ      مُّ فما رَاعَه اللّسانُ بِعَاب
يَتَغَنَّوْنَ بالنُّواسِيِّ حِينًا          وَبِشِعْر الفَتَى أَبى الْخَطَّابِ
كُلَّما هَزَّتِ المُدَامُ يَدَيْهِمْ         قَهْقَهَتْ ثُلَّة ٌ مِنَ الأَكْوَاب
صاحَ فيهم دِيكُ الصَّباحِ فَطارُوا   كلُّ جَمْعٍ لفُرْقَة ٍ واغْتِرَابِ
الاتزان في استذكار عهد الشباب

ويعود الشاعر علي الجارم في هذه القصيدة العصماء إلى مخاطبة عهد الشباب مستلهمًا شبابه ومستذكرًا له ومعبرًا عن افتقاده لما كان منه في تلك المرحلة التي طغى وصف الدرعمية عليها، ولهذا فإنه يستحضرها للحديث عن معهده الذي يعتز به.. هكذا يخاطب الشاعر الشباب، وهو يقصد أنه يخاطب دار العلوم، لكنه ينأى بها وبصورتها عن العبث فينسب العبث إلى شبابه هو، كما فعل من قبل وهو يتجنب الحديث عن المجون فيلصقه بالشعراء السالفين
يا شَبابًا أَقَام أَقْصَرَ مِنْ حَسْوَة ِ     طَيْرٍ عَلَى وَحى ً وَارْتِيابِ
لَكَ عُمْرُ النَّدَى يَطِيرُ مَعَ الشَّمْسِ  وَعُمْرُ الْبُرُوقِ بَيْنَ السَّحابِ
كُنْتَ فِينا كما لَمَحْنَا حَبابًا           فَنَظَرْنَا فَلمْ نَجِدْ مِنْ حَبَاب
وَعَرَفْناكَ مُذْ ذَهَبْتَ كما يُعْرَفُ    فَضْلُ النُّبُوغ بعدَ الذَّهَاب
مُذْ خَلَعْنا ثِيابَكَ القُشْبَ لم نَنْعَمْ     بِشَيءٍ مِنْ مُنْفِساتِ الثِّيابِ
ويقارن الشاعر علي الجارم بين الحالين مقارنة تستحضر المجد والعظمة لدار العلوم التي تمثل شبابه
وَرَأَينْا في لَوْنِك الفَاحِمِ اللمّاحِ      هُزْوًا بلَوْنِ كلِّ خِضَاب
أَيْنَ لَوْنُ الْحَيَاة ِ والقَهْرِ والقُوَّة ِ    مِنْ لَوْنِ ناصِل الأعْشاب
وهو يصل إلى بيت غير مسبوق في حماسه، وإن كانت صوره من الصور المعتدلة في خيالها
يا سَوَادَ العُيُونِ يا حَبَّة َ القَلْبِ      ويا خَالَ كُلِّ خَوْدٍ كَعَابِ
ويبدع الشاعر علي الجارم صورة جميلة يصور الليل فيها، وقد سرق سواد العيون من حبة القلب التي هي دار العلوم
سَرَقَ اللَّيْلُ مِنْك لَوْنًا فأمْسَى     مَسْرَحَ اللَّهْوِ مَوْطِنَ الإطْرَابِ
وَرَأَى فيك أَحْمَدٌ لَوْنَ كافُو         رٍ فَغَنَّى خَوالِدَ الآدَاب
بَسْمَة ٌ للزَّمَانِ أَنْتَ تَلَتْها           كَشرَة ٌ للزَّمَانِ عَنْ أنْياب
الجارم ينسب الفضل إلى معهده العلمي

ويلجأ الشاعر علي الجارم في حديثه عن نفسه وعن معهده المحبوب إلى صورة معروفة من آفاق الفكر في شعر الحكمة، ليعيد الفخر بما كان من أمر الشباب حين يحتفل به في ذلك اليوم من أيام كهولته مع معهده الذي شهد شبابه وشباب أصحابه، وكأنه يرى هذا الشباب نتاجًا لتلك المدرسة التي ضمته هو وأترابه وتربوا فيها على كل هذه المعاني
كُلَّما رُمْتُ خَدْعَ نَفْسِي بنَفْسِي    كَشَفَتْ لِي المِرْآة ُ وَجْهَ الصَّوَاب
رُبَّ صِدْقٍ تَوَدُّ لو كَانَ كِذْبًا        وكِذَابٍ لو كانَ غَيْرَ كِذَاب
لَيْتَ لي لَمْحَة ً أُعِيدُ بها مِنْكَ       بَقَايَا تِلْكَ الأَمَانِي العِذَاب
حَيْثُ أَخْتَال ناضِرَ العُودِ بَسَّا      مًا كَثِيرَ الهَوَى قليلَ العِتَاب
في صِحَابٍ مِثْلِ الدَّنانِيرِ لا تبْ    لَى مَودّاتُهم بطُولِ الصِّحَابِ
بوُجُوهٍ غُرٍّ تَرَاها فَتَتْلُو             في أَسَارِيرِها سُطُورَ كِتَاب
نَسْبِق الْخَطْوَ للسُّرُور وِثابًا       لاتُنَال المُنَى بغَيْر الوِثَاب
وَنَجُرُّ الذُّيُولَ في غَيْرِ نُكْرٍ      طَاهِرِي النَّفْسِ طَاهِري الْجِلْبَابِ
إِنْ دَعَانا الهَوَى لغَيْرِ سَدِيدٍ        سَدَّدَتْنا كَرَائمُ الأَحْسَاب
كانوا شبابًا وكان معهدهم شابًا

ثم يبدو الشاعر علي الجارم وكأنه مضطر إلى أن يرضخ (ولو بالشعر) لحكم الشباب، فيحاول أن يصور من الذكريات ما يصور به روعة التجربة التي هيأها لهم معهدهم الذي كان شابًا حين كانوا هم شبابًا مثل معهدهم نفسه، وهكذا تتعدد صور «التوحد» أو «التقمص» أو «الاتحاد» في التجربة بين الخريج والمدرسة على نحو عبقري أجاد الجارم صياغته
زَيْنَبٌ أَيْنَ مِنْك زَيْنَبُ والشَّملُ   جَميعٌ والعَيْشُ خِصْبُ الْجَنَاب
وَبنَاتُ الثُّغُورِ يَلْعَبْن بالأَلْ          بابِ لِعْبَ الشَّمُولِ بالأَلْبَابِ
يَتَظَاهَرْن بالْحِجَاب وَهَلْ أَذ كَى  الجَوَى غَيْرُ لُؤْمٍ ذَاك الحِجَابِ
كم وُجوهٍ تَنَقَّبَتْ بسُفُورٍ            ووُجُوهٍ قد أَسْفَرت بِنقَاب
أَيْنَ تِلْك الأَيّام بَانَتْ وبنّا          وَتَوَلَّتْ بَشَاشَة ُ الأَحْباب
لَيْتَ شِعْري أَيَرْجعُ الأَمسُ عَهْدًا   غَصَبتْه الأَيَّامُ أيَّ اغْتِصَابِ
وهو بعد كل هذه المداخل المتعددة التي ارتادها وهو يطوف بكليته الدرعمية المحبوبة، يلجأ إلى ساحتها الكبرى فيخاطب دار العلوم بما كان ينبغي أن يخاطبها به منذ البداية، معترفًا بالشوق إلى ما وصفه من قبل
عَهْدَ دارِ العُلوم أَنْتَ يَد َالدَّهْ       رِ جَمَالُ الدُّهُورِ والأَحْقَاب
إِنْ ذَكَرْناكَ هَزَّنا الشَّوْق للشَّوْ     قِ وَلَهْوِ اللِّدّاتِ وَالأَترَاب
أَنْتَ خِدْنُ الشَّبابِ بَيْنكما في الْ  وَهمِ قُرْبَى وَشِيجة ُ الأَنْساب
فكأَنِّي أَرَى الزَّمَانَ وَقَدْ دَا         رَ وَعادَ الصِّبا نَضِيرَ الإِهَاب
دور دار العلوم في تنوير مصر

ثم يستخدم الشاعر علي الجارم الصيغة الخطابية التقليدية «إيه» التي يلجأ إليها الشعراء وهم يزفرون، ليتحدث عن الدور التنويري الذي لعبته دار العلوم في النهضة المصرية، وهو دور مقدور في الأدب والفكر على نحو ما يصوره
إِيهِ دارَ العُلُوم كُنْتِ بِمصْرٍ      في ظَلامِ الدُّجَى ضِيَاءَ الشِّهِاب
في زَمانٍ مَنْ كان يُمْسكُ فِيهِ     قَلَمًا عُدَّ أَكْتَب الكُتَّاب
إيمانه بقدرة دار العلوم على ولادة الشعراء

من الطريف أن نجد الجارم يعتقد وهو الشاعر الموهوب أن دار العلوم قادرة على أن تلد الشعراء
أَنْتِ أُمُّ الأَشْبالِ إنْ غَابَ لَيْثٌ    صالَ لِلْحَقِّ بَعْدَه لَيْثُ غَابِ
تَلدين البَنِينَ مِنْ كُلِّ ماضٍ          شَمَّرِيٍّ مُزَاحِمٍ وَثَّاب
شاعِرٍ يُنْصِتُ الوُجُودُ إذا قَا         لَ وَيَهْتَزُّ هِزَّة َ الإِعْجَاب
شِعْره زَفْرَة ُ الغرَامِ تَعالَتْ         عن قُيُود الأَوْتَادِ والأَسْبَاب
تَتَغَنّى به العَذَارَى فَيبْعَثْن         الهَوَى بعد صَحْوة ٍ وَمَتَاب
دور دار العلوم في خدمة اللغة

يحرص الشاعر علي الجارم بالطبع على أن يشيد بدور دار العلوم في خدمة اللغة العربية وتجديد حياتها من خلال تقديم هذه اللغة بالمنهج الحديث القادر على مواءمة العصر الجديد بكل ما فيه، وأظنه وقد كان لا يزال يفخر بنفسه من حيث يبدو وكأنه يفخر بمدرسته، وله كل الحق في هذا وذاك على كل حال
تَخِذَتْ فيكِ بِنْتُ عَدْنَانَ دارًا        ذَكَّرَتْها بَدَاوَة َ الأَعْرَاب
عَادَها الْحُسْنُ في ذَرَاكِ ورَوَّا      هَا عَلَى غُلَّة ٍ نَمِيرُ الشَّبَابِ
وَغَدَتْ في عُكَاظَ بَيْنَ شُيُوخٍ       فَتَنَتْهم بِسحْرِها الْخَلاَّب
خَلَعُوا في طِلابِها جِدَّة العُمْرِ      وقَدْرُ المَطْلوبِ قَدْرُ الطّلاَب
وَدَنَوْا من خِبَائها فَأَرَتْهم            ثَمَراتِ النُّهَى وَسِرَّ الكِتَاب
لَكِ دَارَ العُلومِ في كُلِّ نَفْسٍ        أَثَرُ القَيْنِ في صِقَال الْحِرَابِ
حَسْبُ مُطْرِيك أَنَّ كلَّ نَجيبٍ       نَفْحَة ٌ مِنْ رِجَالِكِ الأَنْجَاب
أنْتِ كالنِّيلِ كُلَّما مَسَّ جَدْبًا         هَزَّهُ بالنَّمَاءِ والإِخْصاب
كِيمِياءُ العُقُولِ أنتِ تصوغِي       نَ نضارًا من النُّحاسِ المُذَابِ
كليته جزء من نهضة مصر

ويرى الشاعر علي الجارم بوضوح أن نجاح الخمسين عامًا الماضية من دار العلوم تواكب وربما تسبب في نهضة مصر، وهو يعزف على هذا المعنى في ستة أبيات يبدأ كل منها بقوله كل عام.. مشبهًا هذه الأعوام بطوالع السعد والنصر والفجر والأمل والغيث
إِنَّ خَمِسينَ حِجَّة ً قد كَفَتْ مِنْكِ    لِمَلْءِ الدّنْيا بكلِّ عُجاب
نَهَضَتْ مِصْرُ نَهْضَة َ النَسْر فيها  واسْتَوّتْ فوْقَ مُسْتَقَرِّ العُقاب
كلّ عام كأنّه خُطوة ُ الجب       ار أو وثبة ُ الأسود الغضاب
كُلُّ عامٍ كَأنَّهُ عَلَمُ النَصْرِ          بِكَفِّ المُظَفَّرِ الغَلاَّب
كُلُّ عامٍ كَطَالِعِ السَعِدْ شِمْنَا       هُ عَلَى طُولِ غَيْبة ٍ وَاحْتِجاب
كُلُّ عَامٍ كالفَجْرِ يَهْزِمُ لَيْلا          نَابِغِيَّ الهُمُومِ والأَوْصاب
كُلُّ عامٍ كأنَّهُ الأَمَلُ الضَا          حِكُ وافاكَ بعدَ طُولِ ارْتِقابِ
كُلُّ عامٍ كَوَافِدِ الْغَيْثِ تَلْقَا           هُ وُجُوهُ الرِّياضِ بالتْرحابِ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق