السلام الداخلي والإيمان والفنون لدى بيغوفيتش
من قرأ كتاب الفيلسوف الإسلامي، علي عزت بيغوفيتش، "الإسلام بين الشرق والغرب"، أدرك تماماً تعمقه برسالة الفنون في صناعة ضمير الإنسان، واستدلالاته المتعدّدة والمتواترة في جدله العميق مع الفلسفة الحديثة، وبالذات في البنيوية الإلحادية، وقد كان ذلك الزمن مصدراً للمشروع السياسي الذي هيمن على دولٍ في العالم في عهد الاتحاد السوفييتي، حيث أسّس مشروع الزحف الأحمر على هذه الفكرة.
وكانت ثنائية بيغوفيتش التي صاحبته في رسالة الكتاب تعمل على تفنيدها، والبديل الذي يقدم أمام قهر المسلمين في البلقان، منذ تعرّضهم لحرب الإبادة الأولى 1946 التي عادت في حصار سراييفو ومذبحة سربرنيتسا 1992، لتضعهم تحت هذا الضغط الشرس، وهو التحوّل نحو "المسيح الأوروبي" والإيمان به، مقابل المعسكر الشيوعي الذي يحاصرهم، خصوصاً أن القومية البوسنية، وهي "البوشناق"، تنحدر من هذه الجغرافيا الأوروبية، وليس العرق التركي الموحد. وهي كماشة ضغط، لم تكن تمارس فقط على البوسنيين، لكنها كانت أكثر فاعليةً في الحرب الباردة عليهم، ولكن هذا الضغط قائمٌ حتى اليوم في العالم، ونرى أثر ذلك في الاستقطاب التبشيري الحديث، للشباب الذين هاجروا ولجأوا إلى الغرب، لأسبابٍ أبرزها بطش الاستبداد، وتلاعبه بتوظيف الفكرة الدينية، وشعورهم بصلف خطاب ديني حقيقي في مجتمعاتهم، أو مبالغ في شيطنته، فيُعلن بعضهم أنه تحول إلى عقيدة "المسيح الأوروبي" لكييجد السلام الداخلي.
السلام الذي وجده بيغوفيتش في الإسلام نفسه الذي فرّوا منه، ودفاعه عنه من معتقله الطويل، وهنا مفصلٌ فارق، حتى صناعة مشروع السلام البوسني، بعد كل المجازر، وإقامة المشروع الديمقراطي الذي حمل البوسنة إلى السلام، فعمل بيغوفيتش، في كتابه، إلى مناقشات علمية وإحصائيات موثقة في حينه، تطرح أسئلة السلام على العالم التي حققها "المسيح الأوروبي" ونحن نقول المسيح الأوروبي هنا، لأن المشروع التبشيري، يقوم على ثنائية الإيمان بنشر المسيحية الوظيفية في العالم، لصالح المشروع الغربي المركزي الذي يقوم على قاعدة فلسفية لا تؤمن بالإله!
وهنا يبرز التناقض والفرق بين رسالة السيد المسيح الأصلية والمهمة التبشيرية، ذات التوظيف السياسي التي رأيناها منذ قرّرت القوة نفسها بالفكرة نفسها في خطابات الرئيس جورج بوش الابن، وهو امتداد لأبيه، شن حرب 2003 على العراق التي فرضت التخلف الطائفي الحاكم حالياً، ونلحظ هنا زخم الإيمان الذي أفصح عنه بوش الصغير، بفكرة المسيح الغربي، ووثّق في عدة مصادر، وهو اليوم دافع أيديولوجي، ولو كان وراءه هدفٌ وظيفي متصل، إلى حقبة الرئيس الحالي دونالد ترامب.
كان تفكيك بيغوفيتش يقوم على ثنائية خاصة، لم تُعرف في الخطاب الفلسفي الإسلامي، كما برزت لديه، في المسار الأول يستذكر العالم منذ حروب أوروبا الدينية المسيحية الكاثوليكية والبروتستانتية، حجم الإبادة التي لحقت بملايين البشر، من المسيحيين، وأن فكرة محاكم التفتيش كانت في البدء ضمن الصراع المذهبي المسيحي الداخلي. ونستحضر هنا عدم وجود أقليات
بقيت مع الكاثوليك والبروتستانت، في خريطة أوروبا، وأن هذا الموزاييك المتعدد في حاضر العالم الإسلامي كان قائماً وشريكاً، في قرونٍ خلت، ولم تنفجر ظاهرة الاستهداف عبر جماعات الإرهاب والتطرّف إلا بعد التدخل الأميركي. وهذا لا يزكّي مراحل تاريخ المسلمين، ولا يعطي العصمة لتراثهم الذي يحوي الغث والسمين، ولكنه أيضاً يشير إلى المفهوم الحضاري في بقاء الأمم والعقائد ومنتسبيها بين ظهرانيهم، ويُعيد السؤال الكبير، إذن ما المقصود بالسلام الداخلي الذي حققه "المسيح الأوروبي" لسلامة الإنسان، وإن كان السلام مطلباً تتحد عليه رسالات السماء وفكر الإنسان المتوازن.
أما المسار الثاني في جدل الفكرة لدى بيغوفيتش، فهي معارضته العقلية لقياس الإسلام على مسيحية الغرب، في رفض الدين والعصر الحديث والعلوم المدنية، فيراه قياساً لا يجوز نصبه، للحكم على الفكرة الإسلامية، وهنا نحن نحدّد الفكرة الإسلامية المعرفية، وليس اجتهادات الوعاظ أو الفقهاء، يحرّر بيغوفيتش حديثه هنا، في مسار الموقف الإسلامي من علوم النهضة، وتعدّديتها الكونية، لنهضة الإنسان، وهي نهضةٌ أخلاقية، لا تقوم على فواتير المادية الحديثة، بشقيّها، الليبرالي والماركسي.
ولكنه أيضاً يتعمق ويتوسع في منظومة الفنون الأوروبية، من نحت ورسومات وموسيقى، ويطوف بهذه الأعمال الفنية، وألحان السيمفونيات، لكي ينحت بقوة الدلالة المعرفية والعقلية، آثار الفن في تحريك الروح، وفي خفق الوجدان، وفي دقة وعي المشاعر، وإرهافها، ثم يتساءل من أين للمادة هذا الجمال، من أين لها هذا الذوق.
من أين للتطوّر المادي في تاريخ البشرية،
دلالة العلم والعقل التي تقول إن ذلك البستان الوجداني الدقيق في رهافة حسّه وموسيقاه هو مصادفة تخلّق مادي لا مبدع لها، ولا موجد لهذه الروح ذات السر المعجز، ثم يعود بالسؤال التاريخي على مساري الفلسفة المادية الحديثة، من أين فرضتم على العالم هذه النظرية المدّعاة كحقيقة يقينية، ولماذا لا تستمعون لتحرير الفلسفة الإسلامية وردها.
ولكن هذا المسار أيضاً كان في ذاته دعوةً أخرى من بيغوفيتش لحاضر العالم الإسلامي، من قال لكم إن الفنون والجمال مرفوضان، في آفاق الحياة الفكرية، وكيف يتم التعامل معهما في العالم الحديث، ورحلة التاريخ التي أبقت على رسم الفنون ودلالتها قائمين، في تاريخ الأمم، نعم هناك ميزان ظالم، لا يعطي رسالة الفنون في عالم الجنوب حقها، لكن السؤال واحد.
والأحكام التي تفهم الفقه الفردي للمسلم، لا يترتب عليها، بحسب سياق بيغوفيتش، أن تعمّم على الموقف من دلالات الفنون، وأثرها العميق في وجدان الإنسان، وسر الإيمان الدفين في ضميره، غير أن الفن بذاته قد يعطي صورة مشوهة أو فوضوية، قبيحة في فكرتها، حين تنقل الوجدان المطمئن المنسجم مع الجمال إلى نقيض فكرته، فقط لبعثرة عقله ووجدانه وصرفه عن سقف السماء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق