د. علي الصلابي
مؤرخ وفقيه ومفكر سياسي
بعد أن قام الأمير عبد القادر بتأسيس دولة وقيادتها نحو مقاومة الاستعمار الفرنسي في الجزائر، وإن كانت دولته لم تعمر كثيراً، إلا أنه أصبح محط أنظار الجميع من مسلمين وغيرهم، ونال الاحترام والاعتبار الكبيرين من قبل الدولة العثمانية، وذلك لموقفه المعادي للاستعمار والذي لم يخضع لعروض مغرية من قبل أعداء الدولة العثمانية كالفرنسيين والبريطانيين بتنصيبه ملكاً على دولة عربية تستقل عن العثمانيين، بحجة تحرير العرب من الأتراك. وقد تلقى تلك العروض بعد أن في منفاه في الشام.
علاقة الأمير بالدولة العثمانية
كان الأمير عبد القادر يحترم الدولة العثمانية من منطلق شرعي، فهي كانت تمثل دولة الخلافة الإسلامية، والأمير لم يجعل دولته تابعة إدارياً لدولة الخلافة ولكنه كان تابعاً لها روحياً. وكان أثناء حكمه يخاطب السلطان العثماني بكلمة «مولاي خادم حضرتكم ومقبل تراب أعتابكم». وكان يكن الاحترام والتقدير للدولة العثمانية وسلاطينها. ونظم الأمير قصيدة في مدح السلطان عبد المجيد، فقال:
يا رب يا رب الأنام ومن
يا رب أيد بروح القدس ملجأنا
ابن الخلائف وابن الأكرمين ومن
أحيا الجهاد لنا بعد ما درس
فانصره نصرا عزيزاً لا نظير له
واحفظ علاه وأرسل يا كريم له
واهدم وزلزل وفرق جمع شانئه
وانصر وأيد جيش نصرته
الراكبون عتاق الخيل ضامرة
المصطلون بنار الحرب شاعلة
تخالها في ظلام الحرب نيرانا
إذا العدو رآها شرعت بانا
تخالها في مجال الحرب عقبانا
مطلوبهم منك يا ذا الفضل رضوان
ونظم قصيدة عام (1853م)، والتي قال فيها فور وصوله إلى مدينة بورصة أقتطف منها:
الحمد لله تعظيماً وإجلالاً
أشكر الله إذ لم ينصرم أجلي
وامتد عمري إلى أن نلت من سندي
الله أكرمني حقاً وأسعدني
ما أقبل اليسر بعد العسر إقبالا
حتى وصلت بأهل الدين إيصالا
خليفة الله أفياء وأظلالا
وحط عني أوزاراً وأثقالا
هذه الأبيات دليل على ما كان يعانيه من ألم وسنيّ عمر في الأجواء الأجنبية وأثقال من الحزن أجبر على حملها أثقلت كاهله، فيشكر الله سبحانه وتعالى بعدما غمرته شمس الحرية، لتتوج صبره في وصوله إلى دار الخليفة الإسلامية.
أبشر بقرب أمير المؤمنين ومن
عبد المجيد حوى مجداً وعزّ عُلاً
هذا مقام التهاني قد حللت به
يا رب فاشدد على الأعداء وطأته
فرع الخلائف وابن الأكرمين ومن
كم أزمة فرجوا كم غمة كشفوا
قد أكمل الله فيه الدين إكمالا
وجل قدراً كما قد عم أنوالا
فارتع ولا تخش بعد اليوم أنكالا
واحم حماه وزده منك إجلالا
شدوا عرى الدين أركاناً وأطلالا
كم فككوا عن رقاب الخلق أغلالا
إن كتاب «حياة عبد القادر» الذي كتبه شارلز هنري تشرشل شوّه فيه صورة الدولة العثمانية من خلال خياله وأكاذيبه، فالدولة العثمانية نظر إليها الأوروبيون المستعمرون في تلك الفترة كامتداد للفتوحات الإسلامية التي تناقض حضارتهم ؛ بما تمثله من قيم الفكر ومفاهيم اجتماعية واقتصادية ونظم إدارية وأساطيل بحرية كانت تنافس أكبر أساطيلهم في البحار، والتي كانت تشيد في كل بقعة من عالمهم مسجداً وتنقل إليهم الحضارة الإنسانية الإسلامية بجوانبها المتعددة، كان الأمير عبد القادر يكنّ لها الاحترام والتقدير لتمسكها بالمبادئ الإسلامية، ويعتبرها حصن الأمة المنيع الذي يحمي كيانها من أعدائها الطامعين بخيراتها ومقدساتها.
كان الأمير عبد القادر يحترم الخلافة من منطلق إسلامي ديني بحت، وكذلك كان أبناؤه الذين كانوا يُعدون من الإمبراطورية العثمانية، لذلك استمروا على علاقتهم الودية بالسلطان، ووصل أربعة من أبناء الأمير عبد القادر إلى لقب «باشا» وشغلوا مراكز مرموقة في عهده. وكان الولاة يحترمون الأمير ويعترفون له بصلاحيات واسعة في إدارة بعض شؤون البلاد الشامية ؛ وخاصة ما يتعلق بالمهاجرين. وكان يرى أن تصحيح الواقع والأخطاء في الحكم يتم بفضل رأي من هم أكثر حكمة بين العلماء والمفكرين المسلمين والأكثر قدرة على اقتراح الحلول المستنبطة من تجارب الماضي من جهة والمعتمدة على نظرة مستقبلية ثاقبة من جهة أخرى.
وكان يقول: الرجل العالم العارف يستطيع استشعار المستقبل من النظر والرجوع به إلى أحداث الماضي في ضوء التواتر، وحقيقة علم التواتر هي التفكير بمحسوس يمكن وقوعه من خلال هذا العلم، والإنسان الذي أوتي العلم والمعرفة يستطيع أن يستشعر المستقبل بما يملكه من سعة الرؤية أمامه التي تمكنه من الإحساس والشعور والتنبؤ، وهو لدى بعض العلماء الفقهاء على جانب كبير من الدقة.
ولاحظ الأمير أن الضغوط تتزايد على الامبراطورية العثمانية، وأن التغلغل الأجنبي عبر القناصل والعملاء التجاريين في البلاد الشامية خاصة أصبح مزعجاً لأصحاب الحرف والصناعات المحلية، وأن احتكارات المحلات التجارية من جانب الطوائف غير الإسلامية يزداد باستمرار بمساعدة الوكلاء التجاريين الغربيين وبنفوذهم، كما لاحظ أن البعثات الدبلوماسية تتدخل بشكل غير معلن في هذه المجالات، وأن نفوذها يتصاعد، وأن السلع الأوروبية تغزو الأسواق وتنافس البضائع المحلية بتشجيع من بعض الولاة وبغض النظر من جانب بعضهم الآخر.
وكانت تلك الأمور تؤرق بال الأمير وهو يرى أن شبح الاستعمار ومآربه تقترب ليس فقط على المستوى الشعبي في هذه البلاد، بل إلى دار الخلافة في إسطنبول، وإلى مساجدها وإلى رسالة تلك المساجد وإلى مآذنها ونداءات «الله أكبر حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح» وأن الخطر الداهم يتهدد هذه الأماكن ومكانتها في بنية المجتمع الإسلامي، فكان الأمير في ندواته العلمية في الجامع الأموي وفي دار الحديث النورية وفي داره ؛ كان في كل هذه الأماكن يحث الجميع على الحذر من المؤامرات التي تحاك في الظلام، وكان يشير إلى النبع وهو الشريعة الإسلامية ويذكر قوله تعالى: َ ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ ]البقرة:190].
وكان يبصّر الوجهاء والأعيان بعواقب التفرقة بين أبناء الشعب الواحد، وبأخطار الصدام المسلح بين الطوائف، وكان يدعوهم إلى عدم الوثوق بوعود الدول الأجنبية لأنه لا عهد لهذه الدول ولا ذمة ولا وفاء، ونصح الجميع بالتمسك بالبعد الحضاري لهذه الأمة وبعدم التمادي في زرع الدمار والخراب والأحقاد وكل ما يدوي ويفحل ويحترق ويصبح رماداً مما يجعل البلاد لقمة سائغة في فم الاستعمار، وكان يتكلم وكأنه يقرأ هذا المخطط في كتاب أسود بين يديه، وينضوي هذا المخطط على ضرب الامبراطورية الإسلامية العثمانية من الداخل وتفتيتها إلى دول تسهل الهيمنة عليها، ثم تحجيم الامبراطورية العثمانية وبتر جذورها الإسلامية.
كان الأمير عبد القادر مهتماً بدعم الدولة العثمانية والتواصل مع خلفائها وسلاطينها، ففي شهر جوان من عام (1865م) عزم على السفر إلى الإستانة لزيارة الخليفة السلطان عبد العزيز خان، فاستقبله وأكرمه وكبر به، فطلب منه أن يصفح ويسرح المنفيين إلى جزيرتي قبرص ورودس اليونانية من الذين تورطوا في أحداث (1860م) بالشام، فلبى رجاءه وصدر الأمر العالي بتسريحهم.
لقد كانت حياة الأمير عبد القادر مجموعة من المآثر الخالدة، وأصبح بعد أن قضى على الفتنة الطائفية في سوريا محط أنظار العالم، وأمل دعاة استقلال العرب عن الدولة العثمانية التي تتالت هزائمها أمام روسيا، فاجتمعت الطليعة في بلاد الشام وبحثوا مصير سوريا وعقدوا المؤتمرات السرية في دمشق سنة (1877م) واقترحوا فصل البلاد عن الدولة العثمانية وتنصيب الأمير عبد القادر ملكاً عليها، لأنهم وجدوا فيه أملهم الوحيد لما يتمتع به من هيبة واحترام عند العثمانيين والعرب على حد سواء، وبعد قضائه على الفتنة الطائفية نال تقدير جميع الدول الأجنبية واحترامها، وهو الذي سبق له أن أنشأ دولة وقاد أمة وهو بالإضافة إلى ذلك العالم ذو المقام العالي والمجاهد ذو النسب الشريف.
رفضه للعروض الفرنسية والبريطانية لتنصيبه ملكاً على العرب
وعندما عُرض على الأمير هذا الموضوع لم يتحمس له، ولم يرفضه ولكنه نصح أن يظل الارتباط الروحي بين البلاد الشامية والخلافة العثمانية قائماً، وبدأت رسائل الزعماء اللبنانيين تتوارد على الأمير مبايعة ومنها رسالة من الزعيم اللبناني يوسف كرم الذي كان منفياً في إيطاليا، وأما المشروع الفرنسي الذي كان يرمي إلى إنشاء إمبراطورية عربية تمتد من شمالي بلاد الشام حتى قطاع عكا يرأسها الأمير عبد القادر، فقد رفضه الأمير بشدة في سنة (1860م) ؛ لأنه مطلب فرنسي استعماري وبعد سبع سنوات عندما ظهر المشروع العربي القومي تردد أيضاً في قبوله، لأنه كان يحترم الخلافة الإسلامية من منطلق ديني وكان عدم تحمس الأمير لهذا الأمر ناشئاً عن احترامه لمبدأ الخلافة الإسلامية، ثم جاء مؤتمر برلين وتولى عبد الحميد الخلافة وأصبح سلطاناً فتأخر الحل العربي.
وقد رفض أيضاً عرضاً بريطانياً مغرياً بتنصبيه ملكاً على العرب. وقد ذكر رئيس وزراء بريطانيا الأسبق ويليام كلادستون الذي حكم بريطانيا بين 1868-1874، بأنه حاول بكل ما يملك أن يقنع الأمير عبدالقادر الجزائري بمنصب إمبراطور العرب لكي يوظفه ويستغله ضد العثمانيين إلا أنه لم يفلح بالرغم من كل الإغراءات والوعود والمزايا التي وضعها فوق الطاولة للأمير بما فيها استقلال الجزائر وخروج المحتل الفرنسي من الجزائر، لكن الأمير رفض ذلك جملة وتفصيلاً ومن دون نقاش ....
وقد علق كلادستون على هذا قائلا: "حتى دخلني اليأس أن العرب لا يمكن توظيفهم واستغلالهم واستعمالهم، ولكن آخر كلمة أثرت في مسامعي وبقيت تدوي في عقلي وأخبرني أن أنقلها إلى الفرنسيين، أن الجزائر ستتحرر وتنال استقلالها من دون معروف وبركة طرف أجنبي ولن تجد جزائري بعدي ولا قبلي سيقبل أن يكون خادم عندكم أو وكيل لمخططاتكم وسيكون استقلال الجزائر العائق الذي لا تطيقونه لعقود من الزمن ومن أرضنا ستتعثر مشاريعكم. فلست بحاجة لأن أكون ملك أو إمبراطور أو سلطان، فما يهمني بالدرجة الأولى هو أن أواجه المحتل الفرنسي وتغلغلكم في البلاد الإسلامية وفي نفس الوقت الخلافة الفاسدة التي تستعمل الدين لتحقيق أطماعهم الشخصية الفاسدة".
برهن الأمير عبدالقادر برفضه تلك العروض على ثبات موقفه المعادي للاستعمار والمقاوم لكل مخططاته، وهو وإن كان لديه بعض الانتقادات للسلطة الحاكمة من الأتراك العثمانيين، إلا أنها يجب أن توجه للخليفة من باب النصح لله ولرسوله، ويجب أن تكون مبنية على المصلحة العامة للمسلمين، فيجب أن يحل المسلمون مشاكلهم بأنفسهم كما يتولى أفراد البيت الواحد أمور أزماتهم ومشاكلهم، من دون أن يجعلوها نقاط ضعف ينفذ منها عدو الأمة ويستغلها لتنفيذ مخططاته ويضرب الأخوة ببعضهم البعض، وهكذا كان الأمير عبد القادر فطناً يقظاً لا يغريه متاع الدنيا الزائل ولا يقدم المصلحة الخاصة على المصلحة العامة، فنعم الأمير هو. نسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته.
المراجع:
- الأرشيف البريطاني:
Wilfrid Scawan Blunt, the Future of Islam, London, (1882) chapter 2, 4-5
- بديعة الحسني الجزائري، الأمير عبدالقادر حياته وفكره، صفحة 88، 200، 203.
- عبدالكريم منصور بن عوف، حوار مع الأمير عبدالقادر، صفحة 158.
- علي محمد محمد الصلابي، كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي – سيرة الأمير عبدالقادر الجزائري، دار المعرفة، بيروت، لبنان، صفحة 587:581.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق