الخميس، 13 فبراير 2020

الازدواجية الأميركية وتداعيات الثورة المصرية

 الازدواجية الأميركية وتداعيات الثورة المصرية

أولاً: محددات الموقف الأميركي من الثورة
ثانياً: المواقف الأميركية في التعاطي مع الثورة
ثالثاً: انعكاسات المواقف الأميركية على الثورة

ترتبط الولايات المتحدة الأميركية بعلاقات وثيقة مع مصر، تمتد عبر أكثر من ستة عقود، ومرت هذه العلاقات في تطورها بالعديد من المراحل، التي تراوحت بين الشد والجذب، والصدام والتعاون، وصولا للتحالف الإستراتيجي، الذي غلفه إطار أقرب للتبعية المصرية للسياسة الأميركية في العديد من القضايا الداخلية والإقليمية والدولية.

وأمام موقع مصر في الإستراتيجية الأميركية -وضمن اعتبارات أخرى- جاء الموقف الأميركي من الثورة المصرية وتداعياتها، هذا الموقف الذي اتسم بالتردد والازدواجية وعدم الوضوح، والضبابية، بما انعكس على السياسات والإجراءات التي تبنتها الولايات المتحدة في تعاطيها مع الثورة، وبما انعكس كذلك على تطورات هذه الثورة وتداعياتها، حتى تاريخ كتابة هذا المقال.

أولاً: محددات الموقف الأميركي من الثورة
ارتبط التذبذب الأميركي تجاه الثورة المصرية بالعديد من العوامل والاعتبارات، أولها: المفاجأة، فالإدارة الأميركية لم تكن تتوقع هذه المظاهرات بهذا الحجم، وبهذه التداعيات، كما لم تتوقع مثل هذا الانهيار السريع للقدرات الأمنية المصرية، في ظل معرفتها بالطابع الأمني والاستبدادي للنظام المصري.

العامل الثاني: العلاقات الوثيقة بينها وبين نظام مبارك، والذي شكل تابعاً حقيقياً وليس حليفاً إستراتيجياً في كل القضايا التي تهم الولايات المتحدة في المنطقة، في ضرب إيران خلال الحرب العراقية الإيرانية (1980ـ 1988)، وفي ضرب العراق بعد الغزو العراقي للكويت (1990ـ1991)، وفي حصار العراق (1991ـ2002)، وفي الحرب الدولية على الإرهاب بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، وفي الهجوم على أفغانستان (2001)، ثم في ضرب العراق مرة أخرى 2003، وفي تنفيذ الأجندة الأميركية فيما يتعلق بتسوية الصراع العربي الإسرائيلي، وفي الضغط على إيران في الملف النووي، وغيرها الكثير.

"
لم تكن الإدارة الأميركية تتوقع المظاهرات المصرية بهذا الحجم، كما لم تتوقع مثل هذا الانهيار السريع للقدرات الأمنية المصرية، في ظل معرفتها بالطابع الأمني والاستبدادي للنظام المصري, وهو ما وصم الموقف الأميركي بالتردد
"

العامل الثالث: عدم الثقة الأميركية في الأطراف البديلة التي يمكن أن تحل محل مبارك، لأنها على قناعة تامة بأنه لو أجريت انتخابات حرة ونزيهة، فلن يكون للحزب الوطني ولكل الأحزاب الرسمية القائمة الآن، الدور الفاعل، ولكنه سيكون للإخوان المسلمين.

العامل الرابع: عدم جدية الولايات المتحدة في تطبيق ما ترفعه من شعارات حول نشر الديمقراطية وتعزيز حقوق الإنسان، في أية دولة أو أية منطقة في العالم إلا بما يتفق ومصالحها، فهذه الشعارات ما هي إلا أداة من أدوات تحقيق أهداف السياسة الخارجية الأميركية، وبالتالي جاء التردد الأميركي في التعاطي مع الأزمة، لأخذ الوقت المناسب لدراسة كل الاحتمالات، وبناء عليها تقرر ما يمكن أن تقوم به.

العامل الخامس: الخبرات الشخصية للرئيس أوباما، فمن واقع تعاطيه مع تطورات الثورة المصرية، يمكن القول إن قرارات أوباما كان يدفعها شعور بأن هذه التحولات نتاج تراكمات سلبية عبر عدة سنوات، وأنه لا يمكن إيقافها أو إعادة الأمور في مصر إلى الوراء، كما يعتقد أن الولايات المتحدة -كراعية للديمقراطية كما يراها- لا يمكن أن تكون استجابتها كغيرها من الدول، ويدرك أوباما من تجاربه أن التغيير في البلدان النامية لا يمكن مواجهته -أثناء اشتعاله- بالقوة أو بالمواقف العنترية، وأنه ليس من الضرورى أن تتحول كل حركة شعبية إلى كارثة، فهناك نماذج إيجابية، تخلصت من نظم فاسدة وجاءت بنظم كان لها دور بارز في التنمية والإصلاح.

ومن ناحية أخرى، فإن خبرة أوباما الشخصية وتجربته في الانتخابات الرئاسية التي فاز بها تتيح له فرصة متميزة للاتصال بجيل الشباب الذي يصنع الثورة المصرية، وأصبح التحدي الذي يواجهه هو كيفية استخدام خبرته الحياتية وقدرته الكبيرة على التواصل لدعم عملية التغيير، والموازنة بين التعاطف مع الثوار في الشوارع، من ناحية وطمأنة العالم إلى أن القوة الأميركية مستقرة في مواجهة التحولات التي يشهدها العالم، من ناحية ثانية. وبين هذا وذاك جاء تردده في التعاطي مع تداعيات الثورة وتحولاتها.

ثانياً: المواقف الأميركية في التعاطي مع الثورة
أمام الاعتبارات السابقة جاء التذبذب والتردد نتيجة منطقية للمواقف الأميركية في التعاطي مع تطورات الثورة المصرية، سواء على مستوى التصريحات الرسمية أو على مستوى الإجراءات التي تبنتها الإدارة الأميركية.

فعلى مستوى التصريحات، كانت أول ردود الفعل الأميركية الرسمية عن أيام الغضب المصرية، ذلك البيان الصادر في الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني  2011، عن البيت الأبيض، ومن بين ما جاء فيه "نحث جميع الأطراف على الامتناع عن استخدام العنف، ونتوقع من السلطات المصرية أن ترد على أي احتجاجات بطرق سلمية. إننا ندعم الحقوق العالمية للشعب المصري، بما في ذلك الحق في حرية التعبير والتجمع والانضمام إلى الجمعيات. وأمام الحكومة المصرية فرصة مهمة لتستجيب لتطلعات الشعب المصري وتنتهج إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية يمكن أن تحسن معيشته وتسهم في رخاء مصر. إن الولايات المتحدة ملتزمة بالعمل مع مصر والشعب المصري لدفع عجلة هذه الأهداف".

وفي اليوم نفسه صدر بيان عن مساعد وزيرة الخارجية الأميركية للشؤون العامة، جاء فيه "إننا نرصد الوضع في مصر عن كثب، وأن الولايات المتحدة تؤيد حق التعبير والتجمع للشعب كله، وعلى كل الأطراف أن تمارس ضبط النفس، وإننا نهيب بالسلطات المصرية أن تتعامل مع تلك التظاهرات بأسلوب سلمي".

وأضاف البيان "إننا نود أن نرى الإصلاح يتحقق في مصر، وأماكن أخرى وإتاحة الفرص السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تتفق مع تطلعات الشعب. وإن الولايات المتحدة شريك لمصر وللمصريين في هذه العملية التي باعتقادنا يجب أن تجري في مناخ سلمي. وقد أثرنا مع الحكومات في المنطقة الحاجة للإصلاحات والانفتاح وإلى مشاركة أرحب من أجل التجاوب مع تطلعات الشعب، وسنواصل فعل ذلك".

وفي الثالث من فبراير/شباط قال المتحدث باسم الخارجية الأميركية "طالما استمر الوضع دون اتخاذ فعل ملموس يمكن أن يراه الشعب المصري، فإن خطر المجابهات الجارية والعنف سيزداد. ولذا نحن نواصل تشجيع الحكومة والمعارضة على الالتقاء معاً الآن وبذل جهد شامل والمضي قدماً بحيث يرى الشعب أن التغيير قادم وأن التغيير جار في الواقع".

وأضاف "إن الولايات المتحدة تتبادل مع الحكومة المصرية النصح ووجهات النظر، وتجري اتصالات يومية مع الجيش المصري ومع أعضاء من المعارضة أيضا، لكن ليس من حق الولايات المتحدة أو أي قوة أجنبية أن تُملي مَن سوف يحكم مصر. كما أن القرار الخاص بمدة بقاء الرئيس مبارك في السلطة قرار مصري، فهذه مسألة لا تتعلق بنا، إنما هي تخص العلاقة بين الشعب المصري والحكومة المصرية".

"
اتسمت المواقف الأميركية بالضبابية والتردد والتذبذب في التعاطي مع تطورات الثورة المصرية، سواء على مستوى التصريحات الرسمية أو على مستوى الإجراءات التي تبنتها الإدارة الأميركية
"

وقال إن علاقات الولايات المتحدة الخارجية "توجهها أولا وأخيراً المصالح الوطنية، مصالحنا ومصالح البلدان الأخرى. وهي ليست قائمة على أشخاص معينين، ولكن المسؤولين الأميركيين يتمتعون في الوقت ذاته بعلاقة عمل وثيقة جدا مع الزعماء غير الأميركيين".

وفي الأسبوع الثاني للثورة بدا أن أوباما اتخذ خيار دعم الشعب المصري، وترك مبارك يسقط، وطالب بتحول حقيقي في مصر يبدأ "الآن"، حسب قوله. ولكن مع ما تصوره أوباما أنه تراجع في الاحتجاجات في المدن المصرية، واستمرار تأكيد مبارك أنه لن يتنحى عن الحكم، جاءت تصريحات وزيرة الخارجية الأميركية، حول "عدم الإسراع في تحقيق التغيير في مصر"، بدعوى "تجنب وقوع فوضى في أكثر البلدان العربية سكانا"، وأن "التغير يمكن أن يؤدي أيضا إلى انتكاسة إلى حكم استبدادي جديد"، ثم جاءت تصريحات المبعوث الأميركي لمصر، فرانك ويسنر حول أن مبارك "بالغ الأهمية بالنسبة للمرحلة الانتقالية".

ولكن سرعان ما عاد أوباما (6 فبراير/شباط 2011) ليؤكد رغبته في حصول عملية انتقالية منظمة وملموسة تؤدي إلى قيام حكومة تمثل الشعب في مصر، مؤكدا أن مصر لن تعود إلى ما كانت عليه. وقال "أريد حكومة تمثل الشعب في مصر"، .. "المصريون يريدون الحرية وانتخابات حرة وعادلة، يريدون حكومة تمثل الشعب، يريدون حكومة منفتحة. وقد قلنا، يجب أن تبدؤوا المرحلة الانتقالية فوراً، مرحلة انتقالية منظمة".

وشدد على أن المجتمع المصري لا يقتصر على جماعة الإخوان المسلمين، لكنه أقر بوجود مخاوف حيال مواقفهم، قائلاً "أعتقد أنهم أحد الفصائل في مصر. هم لا يتمتعون بدعم غالبية المصريين، ولكنهم منظمون جيدًا. وفي أيديولوجيتهم نواح معادية للأميركيين، لا شك في ذلك. لكن ثمة مجموعة كبيرة من الأشخاص العلمانيين في مصر، ثمة مجتمع مدني واسع يريد التقدم إلى الواجهة أيضًا. ومن المهم ألا نقول إن الخيارين الوحيدين أمامنا هما الإخوان المسلمون أو شعب مصري مقموع. أريد حكومة تمثيلية في مصر، ولدي الثقة بأنه إذا تقدموا في عملية منظمة، يمكننا العمل معا".

وفي اليوم التالي لهذه التصريحات، جاءت تصريحات نائب الرئيس الأميركي، جون بايدن (8 فبراير/شباط)، والذي دعا لكبح وزارة الداخلية المصرية لإنهاء فوري لاعتقال ومضايقة والتنكيل بالصحفيين والناشطين السياسيين وناشطي المجتمع المدني، وإتاحة حرية التعبير والتجمع، وإلغاء فوري لقانون الطوارئ، وتوسيع قاعدة الحوار الوطني لتشمل طائفة واسعة من أعضاء المعارضة، ودعوة المعارضة كشريك لتطوير خارطة طريق مشتركة وجدول زمني لنقل السلطة، بجانب سياسة واضحة بعدم الانتقام".

وعلى مستوى الإجراءات، جاء تكليف فرانك ويسنر، السفير الأميركي السابق في مصر، ليكون مبعوثاً شخصياً للرئيس أوباما، لبحث تداعيات الثورة المصرية، وما إن أصدر ويسنر تصريحات مؤيدة للرئيس مبارك -كانت محل انتقاد من العديد من الجهات- خرجت الإدارة الأميركية لتعلن أن هذه التصريحات تعبر عن رأيه الشخصي، هذا من ناحية ومن ناحية ثانية، وعلى مستوى الشريك الرئيس الثاني في صنع السياسة الخارجية الأميركية -وهو الكونغرس- فقد دعا مشروع قرار -تقدم به السيناتور الجمهوري جون ماكين والسيناتور الديمقراطي جون كيري إلى مجلس الشيوخ الأميركي- الرئيس المصري إلى نقل السلطة إلى حكومة مؤقتة لتصريف الأعمال تضم جميع الأطياف، والبدء سريعا في انتقال سلمي وسلس إلى نظام سياسي ديمقراطي، على أن يشمل ذلك نقل السلطة إلى حكومة مؤقتة تضم جميع الأطياف بالتنسيق مع زعماء من المعارضة المصرية والمجتمع المدني والجيش، لتنفيذ الإصلاحات اللازمة لإجراء انتخابات حرة ونزيهة هذا العام".

وبين هذا وذاك، وفي إطار هذه الضبابية وتلك العبثية الأميركية، يمكن القول إن التصريحات الأميركية حول "الانتقال السلمي للسلطة" وليس "التنحي الفوري للرئيس حسني مبارك"، هي التي تعبر عن الموقف الحقيقي للولايات المتحدة، فالولايات المتحدة لن تسمح بتغيير النظام في مصر (انتصار الثورة المصرية تجاوز هذا الموقف) بشكل يمهد لتحولات جذرية من شأنها أن تخل بالمعادلة الإقليمية القائمة منذ عام 1979، أي منذ توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وقيام الثورة الإيرانية، تلك المعادلة التى تقوم على تبني سياسة الركائز الإستراتيجية المتعددة، في مواجهة الأزمات التى تشهدها المنطقة، وكانت أدواتها الرئيسة إسرائيل، ومصر والسعودية وتركيا، مع تغيير الأدوار، وتغيير الأولويات وفقاً لطبيعة كل أزمة، ولكن بما يتفق في المحصلة مع المصالح الأميركية.

ثالثاً: انعكاسات المواقف الأميركية على الثورة

"
الإدارة الأميركية خسرت المزيد من مصداقيتها، أمام الشباب المصري، بل والعربي، وأصبح الربط بينها وبين النظم الاستبدادية والفاسدة أكثر قوة، وهو ما سينعكس بطبيعة الحال على مستقبل علاقاتها بالشعوب والنظم السياسية العربية 
"

مع هذه الازدواجية، اتجه البعض إلى القول في توصيف التعاطي الأميركي مع الثورة المصرية، بأنه هروب إلى السيناريوهات التقليدية لدبلوماسية الأزمات، وذلك من خلال تهدئة الوضع وعدم طرح خيار خاص لحل الأزمة، والمراهنة على الوقت، وتبني سياسة ردود الأفعال وفقاً لتطورات الأوضاع في مصر.

ولكن مع وجود ما يشبه التوافق الأميركي على أن "عمر سليمان" هو بديلها المفضل لخلافة مبارك لخبراته الواسعة بملف الصراع العربي الإسرائيلي، وموقفه من حركة المقاومة الإسلامية (حماس) ودوره في الحرب الأميركية على الإرهاب، وكذلك مواقفه من التيارات الإسلامية في مصر، والذي ينسجم مع التوجهات الأميركية، هذا بجانب خلفيته العسكرية وقدرته على الهيمنة على صناعة القرار الإستراتيجي المصري، وفق ما تعتقده الولايات المتحدة.(هذا التحليل قبل سقوط نظام مبارك). 

وهذا ما جعل البعض يربط بين إدراك سليمان لهذا التوافق ورفضه لتنحي الرئيس مبارك، ودعوته إلى عملية انتقالية تستغرق وقتا طويلا، وإغراق الأحزاب والتيارات المعارضة في تفاصيل سياسية ودستورية معقدة، من أجل الحفاظ على النظام القائم بكافة أركانه عدا الرئيس، بما يعني ضمان انتقال السلطة إليه في مرحلة تالية.

إلا أنه في مواجهة هذا الإدراك وذلك التوافق الأميركي، يمكن القول إن الإدارة الأميركية خسرت المزيد من مصداقيتها، أمام الشباب المصري، بل والعربي، وأصبح الربط بينها وبين النظم الاستبدادية والفاسدة أكثر قوة، وهو ما سينعكس بطبيعة الحال على مستقبل علاقاتها بالشعوب والنظم السياسية العربية في المستقبل القريب، وهو ما تؤكده -كمؤشر أولي- الشعارات المنددة بالولايات المتحدة وسياساتها، والتي يزأر بها المتظاهرون في أركان المنطقة من أقصاها إلى أدناها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق