"من أجل سما" لا من أجل الأوسكار
أحمد عمر
قام ناشطون دوليون بحملة لحماية سمك القرش من بطش اليابانيين خصوصاً، وفتك أثرياء آسيا عموماً، حتى صار القرش، ذئب البحر، مسكيناً، ومتسولاً، وعاجزا عن العمل، ومشرفاً على الانقراض، وهم (ثكلتهم أمهاتهم) يصطادونه ويمثّلون به حياً، فيقصون زعانفه، ويرمونه في البحر، فيعيش شهراً، ثم يموت قهرا، وهو يرى صغار السمك والكسَبة يمرون به، ويسْلَحون عليه، من غير أن يقول أحد منهم: ارحموا قرش بحر ذل.
يموت ذئب البحار قهراً، ويفطس في الماء. تقول الإحصائيات إنه يُقتل 100 مليون قرش من أجل الزعنفة. ويصل ثمن الزعنفة الواحدة إلى 20 ألف دولار أمريكي. ولم تقم حملة دولية حتى الآن من أجل السوري الذين نزعت زعانفه زعنفةً زعنفة، وطمست غلاصمه طمساً!
لم نحصل على الحرية ولا على الكرامة، لكننا استطعنا الوصول إلى الأوسكار، وقد خلبت أوسكار ألباب الناس، ونوبل لألبابهم أخلبْ، وما وصلنا إلى قاعة الجوائز إلا على أجساد مليون سوري، ولله الحمد. بعض السوريين لا يزال حياً، في قاع البرّ، أو قاع البحر، وبعضهم قضى، وبعضهم ينتظر، وتنبش قبور بعضهم بحثاً عن أحلام الحرية التي يُخشى من نموها تحت التراب، وعن زعانفهم التي سيدخلون بها الجنة.
الحاءات الأربع:
أُعجبت بالفيلم الوثائقي "من أجل سما"، هو يوميات "الحاءات الأربعة": حب، حرب، حرية، حياة. ونال الفيلم عشرات الجوائز العالمية، وكان يطمح إلى جائزة أوسكار. والأوسكار أهم جائزة سينمائية "عالمية"، تمنحها أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة في كاليفورنيا منذ عام 1927. وتضم هذه الأكاديمية أكثر من 6000 عضو مختص بالفنون السينمائية، منهم لجنة تصويت ضخمة، وقد صنعها الأمريكان لأفلامهم وعلى مقاسهم وأذواقهم. وصفنا الجائزة بالعالمية، والحقيقة أنها محلية تقريبا. وكان مخرج فيلم "الطفيلي" قد قال عقب فوزه بجائزة "كان"، إنه لن يشارك في مسابقة أوسكار لأنها جائزة محلية.. الأمريكان عالميون في العالم، محليون في أمريكا، ولا بد من استثناء لإضفاء الصدق على الجائزة.
يندر أن ينال فيلم غير ناطق بالإنكليزية جوائز كبرى، لولا جمال فيلم "الطفيلي" وإتقان الصناعة فيه، فهو أول فيلم ناطق بغير الإنكليزية ينال الأوسكار! وسبق أفلام الأمريكان، ودليل محلية الجائزة فوز فيلم عادي كما نرى، اسمه "مصنع أمريكي"، بجائزة الأفلام الوثائقية، من إنتاج أوباما، الذي باع سوريا مقابل ثلاثين من الفضة ومصادرة الكيماوي.
لكن هاهم أولاء يتذكرون أنَّ الطبيب حمزة الخطيب بطل الفيلم مشبوه، ويحققون معه، وقد يطردونه، أو يعتذرون عن استضافته، فله صور مع الإرهابين، الذين لا يجوز لهم أن يقاتلوا سوى بالأفلام والورود، فالنخبة الأمريكية المثقفة تقاتل عنها حكومتها وتغزو البلدان، وهي تنتقدها، فكلاهما من الأبطال: الحكومة الغازية والنخبة الناقدة!
ولادة جديدة:
وهناك جريمة أخرى للذين تصوَّر معهم الطبيب، وهي أنهم يهتفون الله أكبر، وقيل إن حمزة الخطيب اجتهد ليلاً وحذف الصور من صفحته حتى ينال رضاهم، عملاً بقول الشاعر الناصح: "دَارِهِم مَا دُمت فِي دَارهُم وأرِضِهِم مَا دُمت فِي أَرضهم". هو يريد الجائزة. لم نرَ أثرا سورياً أو شامياً في صور الخطيب وزوجته مع صنم أوسكار الذهبي وابنته سوى كلمة الكرامة، التي كانت تتجرجر وراءها على.. الأرض.
لم ينل نزار قباني مثلاً نوبل، ودواوينه في كل بيت، ولم ينل عمر أبو ريشة نوبل، ولا المتنبي الذي لم يكن في وقته جائزة نوبل.. ونوبل هو مخترع الديناميت القاتل، وأراد قبل موته أن يكفر عن السلاح الذي اخترعه، فأوصى بأرباح ثروته لتلك الجائزة. وتمنح أحيانا للقتلة أو مناصري القتلة، مثال ذلك النمساوي هاندكه، ويخشى أن يخرج شبيحة ترامب بربطات عنق لحمزة الخطيب، آمرين: قل لا إله إلا أوسكار الأسد.
كتبتُ مقالاً في مدح الفيلم، وهو وثائقي جميل، وقارنته مع الفيلم الروائي "التيتانك"، وهو عندي أجمل وأثمن من فيلم التيتانك، وإن كان من عيوب في الفيلم أو نقص، فهو أمر واحد هو الكلب. يقول شارلي شابلن: كل فيلم فيه طفل وكلب سيكون ناجحاً. كان فيه طفلة اسمها سما، وفيه كلب أيضاً، لكن ليس مثل كلب شارلي شابلن، الكلب في فيلمنا بشري مسعور. وكانت في الفيلم هررة تمنيتُ أن يكون لها شخصيات في الفيلم، ووددتُ حضورها. ولم تُرَ سوى في مشهد واحد. وفيه نباتات، نزحت من سوريا مع جذورها.
أماني أم وعد؟
أصيب سوريون بصدمة فرح، وبعضهم بصدمة خيبة. الفرح هو بجمال الصورة السعيدة للمخرجة وزوجها وابنتهما، والصدمة بها أيضاً، فعائلة الخطيب؛ الزوج الطبيب والزوجة المخرجة وابنتهما سما، وقد كبرت وارتدت تنورة مذهلة، لها أكمام وتوهجات وبتلات مثل بتلات الوردة، والمخرجة ارتدت ثوباً ضافياً في عرس أوسكار، يمتد من بغداد إلى الصين، فكأنما أصيبت بحمى رانيا، وقد كتبت عليه عبارة وطنية ثورية. وقارن السوريون بينها وبين صورة الطبيبة السورية أماني بلور بطلة فيلم "الكهف" الوثائقي الذي وصل إلى أمريكا. أماني هي نفسها، لا تغيّر فيها، لا ترف، ولا استعراض. الفرح لم يحن وقته، وليست أماني بحاجة إلى شعار تتدثر به، هي الشعار. وكان حكماء الثورة السورية يوصون المترفين من السوريين في المنافي أن يتنسكوا ويزهدوا ويتقشفوا في نشر صور موائدهم العامرة، كأنهم يقولون: كلوا، ولكن لا تنشروا صوركم. عيب، فهناك مئات الآلاف تحت الخيام، وذلك فجور لا يجوز. وقد يجري هذا الحكم قياساً على فستان المخرجة وعد، وإن حوّلت فستانها الجميل الذي يمتد من بغداد إلى الصين، إلى منشور شبه ثوري، فيه رائحة الاعتذار وشميم الندم. وطُربَ كثيرون ببلوغ فيلمين سوريين اثنين عتبة الأوسكار، وما بلغاها إلا على دماء مليون شهيد.
جوائز للموتى:
عصبة أوسكار يمنحون الجوائز للضحايا، ولكن بعد موتهم، جائزة الخوذ البيضاء مثلاً.. لا بأس بإسعاد بعض الضحايا، الرأسمالية ذكية، دليل ذكائهم أن الرأسمالية سرقت وعد وزوجها بنعومة، لكن ممنوع الوقوف بوجه الكلب، ليس كلب شارلي شابلن، وإنما الكلب الذي قصده الشاعر رياض الصالح الحسين عندما قال: "يا سوريا التعيسة، كعظمة بين أسنان كلب". مانحو الجائزة وأصحابها يحبون أفلام المطاردة، وهم مع الأقليات، والمخرجتان من الأكثرية، وهذه توصيفات ناعمة دفعا للطائفية. وقد حاولت المخرجة الأولى أن تنزع نفسها بزيها الجميل من الأكثرية ذات المعتقدات التقليدية، فصنعت ذلك الزي الطويل الفاخر، من بغداد إلى الصين. الأصالة غير مرغوب بها في أمريكا.. أمريكا قضت على الأصالة، ومحت الهنود محوا.
تحولت العبارة المكتوبة على فستان وعد الخطيب إلى شعار لكثير من الصفحات: "تجرأنا على الحلم، ولن نندم على الكرامة"، وهي عبارة فيها ذرور من سمسم الشاعرية، ونثار من التوافق اللفظي الثوري، وضعيفة البيان العربي، ولا أدري إن كنا حصلنا على الكرامة. والشعار ليس مثل شعار "الموت ولا المذلة"، ولا مثل شعار" الله وسوريا وحرية بس".. العبارة طيبة، فيها حلم وكرامة، وقد سعت صاحبتها إلى قول شريف وثوري ووداعي وتأبيني، فيه بذخ تعبيري وترف لغوي مثل ترف الزي، مثل الفستان الطويل، كأنها بفستانها تعلن نهاية الفيلم السوري، الذي صار فيلماً هندياً سعيداً. عبارة لا بأس بها، لكنها في ميزان الأقوال ضعيفة البلاغة، لا تعبّر عن مليون شهيد وعشرات المدن المدمرة، ولا عن بطل عالج آلاف الجرحى، ولا عن حلبية من حلب الشهباء غنَّت لابنتها: "ها الصيصان شو حلوين"، وهي أحسن من عبارة: الله وسوريا وأوسكار وبس.
صنم مصبوغ بالذهب:
وقد يذكّر الفستان الباذخ الاستعراضي الفاتن، بوشاح العلم الفلسطيني، الذي كان يضعه الموظفون الكبار في المناسبات النضالية، وفي المظاهرات، ثم رأينا تلك الصورة السعيدة لعائلة المخرجة، وخلف العائلة المظفرة يلمع صنم الذهب بدلاً من صنم الأسد. كلاهما صنم، وإن كان كانت دكتاتورية الأوسكار ناعمة، حريرية.
عانينا كثيراً من كتّاب كبار أو مشهورين، حكماء، كتبوا أجمل النصوص وخانوها: يوسف ادريس، يوسف القعيد، سعدي يوسف.. فهم نمور على الورق، وورق تحت أقدام النمور.
نعود إلى بداية المقال، ونقول: إن مثل المخرجة كمثل من دافع عن القرش للحفاظ عليه ومنع جنسه من الانقراض ثم وجدناها تشرب حساء زعنفته على الهواء.
قابلت المخرجة إيفانكا، ابنة القائد الرمز الأمريكي، أخيرا، وباعنا أبطال "من أجل سما" بوعاء من شوربة زعنفة سمك القرش.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق