في ظلّ تسارع الأحداث الكبيرة.. ما الذي يجب على علماء الأمة؟
د. عطية عدلانمدير مركز (محكمات) للبحوث والدراسات – اسطنبول- أستاذ الفقه الإسلاميلم تكن هذه الأمة في يوم من الأيام متروكةً لحالها، هملًا بلا ترتيب ولا تدبير تضمنه لها الشريعة الإسلامية، ولم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تحقق لنا ما أنبأ به القرآن في آية من أواخر ما نزل:(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (المائدة: 3)، ولم يفارق الدنيا إلى الرفيق الأعلى إلا وأمّته على المحجّة
البيضاء.
وعليه، فإنّ أمر الأمّة في أصل الشرع مرتَّب، فللأمراء دورهم، وللعلماء دورهم، وللرعية دورها، وواجبات كلّ طرف من هذه الأطراف الثلاثة واضحة وجلية سواء، في أوقات السلامة والاستتباب أو في أزمان الفتن والاضطراب، فما دور العلماء في أيَّامنا هذه؟ ما واجباتهم الكبرى سوى الدعوة والتعليم والفتوى؟ ما الذي يجب عليهم اليوم في ظلّ تسارع الأحداث الكونية حولنا؟وليس خافيًا ما تعانيه الأمة في أيّامنا هذه؛ إذْ لم يعد الخطب قاصرًا على هوان الأمة وضعفها وتحكم الأعداء في مصيرها كما كان إبّان تمزيقها في «سايكس بيكو»، ولا على دورانها في فلك المشروع الصهيونيّ من لدن «كامب ديفيد» و«أوسلو» إلى بدايات الدخول في العقد «الإبراهيمي» طوعًا وكرها!
وإنّما صار خَطْبُنا اليوم خَطْبَ غُنَيْماتٍ فقدت الراعي والفحل والمسرح والمراح في آن واحد؛ فهي لذلك بين فريسةٍ قد انغرست في جسدها أنياب السباع، وأخرى تنتظر -في ليلة شاتية حالكة الظلمة- مصير الضياع، وإلّا فليقل لنا من لا يزال إلى اليوم لا يروعه ما يجري؟ هل لما يجري في السودان غاية ونهاية؟ أم هل لليبيا مخرج من النفق الذي كلما شارفت على الخروج منه عادت لتستقرّ في جوفه؟ أم هل لغزة أمل ولو ضئيل في الإفلات من مصير التهجير؟ ثم ما مصير القدس وفلسطين في ظلّ تصاعد المدّ اليميني المتطرف؟
ما الذي يجب على العلماء؟
لكي ندرك حقّ الإدراك واجب العلماء في زماننا هذا يجب أن نعرف وضعهم الذي تنبت منه صلاحيّاتهم، وقد بيّن القرآن ذلك قبل كلّ شيء، قال الله تعالى: (يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء: 59)، فهذه الآية الكريمة تأمر المسلمين بطاعة أولي الأمر، وهذا يعني أن لهم نفوذاً وسلطاناً، وأولو الأمر هم «أصحاب الأمر وذووه، وهم الذين يأمرون الناس، وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة وأهل العلم والكلام؛ فلهذا كان أولو الأمر صنفين: العلماء والأمراء»(1).
يقول الإمام أبو بكر بن العربي: «والصحيح عندي أنهم الأمراء والعلماء جميعاً، أما الأمراء فلأن أصل الأمر منهم والحكم إليهم، وأما العلماء فلأن سؤالهم واجب متعين على الخلق، وجوابهم لازم، وامتثال فتواهم واجب، وقد سماهم الله حكامًا فقال: (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ)(2).
ويقول الإمام الجصاص: بعد أن ذكر خلاف العلماء حول أولى الأمر: أهم العلماء أم الأمراء: ليس بممتنع أن يكون هذا الأمر للفريقين؛ إذ ليس في تقديم الحكم بالعدل ما يوجب الاقتصار بطاعة أولي الأمر على الأمراء دون غيرهم(3)،
ويقول ابن عاشور: «وطريق ثبوت هذه الصفة لهم إمّا الولاية المسندة إليهم من الخليفة ونحوه، أو من جماعات المسلمين إذا لم يكن لهم سلطان، وإمّا صفات الكمال التي تجعلهم محلّ اقتداء الأمّة بهم وهي الإسلام والعلم والعدالة، فأهل العلم العدولُ من أولي الأمر بذاتهم؛ لأنّ صفة العلم لا تحتاج إلى ولاية، بل هي صفة قائمة بأربابها الذين اشتهروا بين الأمّة بها، لما جرب من علمهم وإتقانهم في الفتوى والتعليم(4)، وعليه فإنّ العلماء لا يقف دورهم على الوعظ والتعليم والفتوى، ولا سيما لدى انعدام الإمام -حقيقة أو حكمًا- ليصبح علماءُ البلاد وُلاةَ العباد، كما عبر الجوينيّ.
وأين هم العلماء؟
ومن حقّ الأمة أن تسأل: أين هم علماء؟ وأين دورهم في الشأن العام؟ والإجابة عن هذا السؤال غاية في السهولة والبساطة، ولكنّنا نعقد الأمور بسبب ما تلقيناه من صدمات.إنّ علماء الأمة المخلصين بل والربّانيين مبثوثون في كلّ مكان، ويحاول بعضهم أن يقوم بدوره المنوط به شرعًا، ولكنّهم يفتقدون المؤسسة الجامعة، ويفتقدون القدرة على إيجادها وإنهاضها، وينتظرون دور المبدعين في إدارة الموارد البشرية في هذا المستوى الخاصّ وهذه المساحة الشائكة، فلا ييأسنّ شباب هذه الأمة ومثقفوها وأهل الحركة الرشيدة فيها من يقظة العلماء؛ فإنّ الله تعالى لا يترك أمّته خلوًا من العلماء الربانيين، وعليهم أن يسعوا لإيجاد الطرق والوسائل التي يفعلوا بها الدور القياديّ لهم، ولا يذهبوا إلى البديل البائس: الاستغناء؛ فليس لغيره العلماء فيما تخصصوا فيه غَناء، وعلى العلماء أن يلينوا في أيدي المخلصين من أبناء الأمة وأن يلبوا النداء.
حيث يتأخر العلماء يتقدم السفهاء
همسة في آذان العلماء
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق