الأربعاء، 21 مايو 2025

أخلاق الصهاينة

 أخلاق الصهاينة

وائل قنديل



كم مرّة سمعت مسؤولاً إسرائيليّاً يثرثر بالكلام عن الأخلاق، ويتحدّث كما لو كان هذا الكيان معياراً أخلاقيًا للحكم على العالم؟

ينهض هذا الإلحاح الصهيوني على فكرة الأخلاقية في عمق الشخصية الإسرائيلية عقدةً تؤرّقه وتطارده في وعيه، فيتوهّم أنه بكثرة الحديث عن الأخلاق يصير كائناً أخلاقياً ينتمي إلى قضية عادلة ومحترمة بالقياس الأخلاقي، غير أنّ الواقع ينطق بأنه كلّما اشتدّت جرائم الاحتلال، وبلغت خروقاته القانون الإنساني والأخلاقي حدّاً مُرعباً، كثر هروبه إلى الحديث عن الأخلاق، لتجد سياسييه وعسكرييه ونُخبه الثقافية على السواء ينتحلون النموذج الأخلاقي، ليصبح الجيش الذي يحتلّ بلداً ويقتل نحو ثلاثين ألف طفل وامرأة ويقتلع الشجر والحجر ويحرق الأخضر واليابس، ويمارس عملية إبادة وتطهير عرقي بنصّ الأحكام الجنائية والمعايير الإنسانية، هو الجيش الأكثر أخلاقيًة في العالم بزعم مجرمي الحرب بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت وبنيامين غانتس وبن غفير وسموترتش ويسرائيل كاتس.

 هذا الكيان الاستعماري الذي هو ابن خطيئة أخلاقية للغرب الذي قرّر دسّها في تلابيب جغرافيتنا وتاريخنا، لينمو فوق أجسادنا ويتغذّى على دماء شعبنا، يزعم كذلك إنه تجمّع بشري حضاري ينتمي لمُثل أخلاقية تمنحه جدارة بالعيش فوق عظام شعوبنا، كونه ابن ذلك الغرب الاستعلائي المتقدّم الذي يحاول أن ينتقده على استحياء بعد 20 شهراً من المذابح، من دون أن يقرّ بأنه كان راعياً لجريمة تأسيسية قامت عليها كلّ كوارث العالم على مدى قرن، منذ تلك الخطيئة بحقّ التاريخ، والتي تمثّلت في إنشاء كيان غير شرعي فوق عظام شعبٍ متأصّل الجذور على أرضه، ثم مع الوقت أضفى الرُعاة المؤسّسون قداسة على خطيئتهم، وراحوا يعبّدونها ويحاولون إكراه العالم كلّه على عبادتها وتقديسها، واستخدموا كلّ أنواع القوّة الباطشة لتثبيت هذه القداسة في وعي الأجيال.

أحدث تجليات انتحال الأخلاقية لدى مجتمع الاحتلال ما صدر عن الشخص الذي يوصف بأنه زعيم حزب "الديمقراطيين" الإسرائيلي المعارض، يئير جولان، في مقابلة مع هيئة البثّ الإسرائيلية، من تصريحاتٍ منها أنّ "الدولة العاقلة لا تتسلّى بقتل الأطفال الرضّع"، وأنه "كان يفترض أن نظلّ رمزاً للأخلاق الإنسانية، لا أن ننحدر إلى هذا المستوى"، وكلام كثير آخر استقبلته وسائل إعلام عربية بحفاوة شديدة، وكأنها عثرت على كنز معرفي يستحق الترويج له على الرغم مما يتضمّنه من فساد في المنطق والمنطوق، وخصوصًا حين يتحدّث عن أنهم "كانوا رمزاً للأخلاق الإنسانية" من دون أن يتوقف ناقل هذا الهراء قليلاً للتفكير في خطورة ما يروّجه، ويسأل نفسه: كيف يكون كيان استعماري غاصب ابن خطيئة أخلاقية مكتملة الشكل والمضمون موضوعًا يرمز للأخلاق الإنسانية؟ وكيف يكون إنسان وُلِد على فراش مسروق من أصحابه الأصليين بعد قتلهم، ثم نشأ وتربّى في أرضٍ مغتصبة من ملاكها الحقيقيين الفعليين، متصالحاً مع فكرة أنه ينصّب نفسه معياراً للقيم الأخلاقية، بينما هو ينتمي إلى كيان وجوده في هذه الجغرافيا أصلاً مسألة ضدّ الأخلاق؟

  الأسوأ من الصهاينة في ادّعاء الأخلاقية هم أولئك العرب الذين يتعاملون مع هذا الوجود غير الأخلاقي، وغير القانوني، على أنّه دولة طبيعية يتبادلون معها التمثيل الدبلوماسي والتعاون التجاري، ويسمحون برفع أعلامها في عواصمهم، ولا يزالون يحتفظون بعلاقاتٍ اقتصاديةٍ وسياسية معها، ويرهنون أنفسهم لمشيئتها فتظلم مدنهم وتتعطّل مصانعهم إن مَنعت (إسرائيل) عنهم الغاز.

في ذلك ما يثير العجب، وأن تتابع أخباراً تقول إنّ الكيان الصهيوني يبتزّ مصر بوقف ضخّ الغاز الطبيعي إليها منذ أسبوعين، وإنّ مصر راحت تبحث عن حلولٍ في قطر وتركيا، ثم تجد من يرى ذلك بطولة أخلاقية وموقفًا وطنيًا، من دون أن يسأل نفسه كيف أوصلت مصر نفسها إلى هذا القاع؟ كيف رضيت بالحفاظ على وارداتها من الغاز القادم من الاحتلال طوال شهور العدوان الإجرامي على شعب فلسطين والمُتواصل حتى الآن، ولم تقرّر الضغط على المعتدي لكي يوقف جرائمه بالتهديد، مجرّد التهديد، بتجميد علاقاتها التجارية معه؟

يفترض الموقف الأخلاقي أن تقطع علاقاتك بعدوك التاريخي حين يمارس القتل والتجويع والإبادة على شقيقك، لا أن تبحث عن بدائل مؤقتة لما يمنعه عنك حين يغضب، ثم يستأنف المنح حين يرضى عنك... ألا تخجلون؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق