الخميس، 29 مايو 2025

الجوع الثائر

 الجوع الثائر



600 يوم مضت، كأنها دهر يسكب في كف الزمن قطرة قطرة، 600 يوم من النار التي لا تنطفئ، ومن الدمع الذي لا يهدأ، ومن الوجع الذي صار خبزاً يومياً على موائد الغياب، ومع ذلك، ما انحنى الرأس، وما خبا الوهج، وما أطفأ التوحش «الإسرائيلي» شعلة الإنسان في قلوب الغزيين.

أرادوا أن يعلموا هذا الشعب معنى الهزيمة، أن يعيدوا تشكيله بالطائرات والمدافع والطعام المشروط، أن يهندسوا جوعه كما تهندس الحدائق في قصر بعيد عن الله والعدالة، لكنهم نسوا أن الجائع إذا غضب، كتب على جدران الحصار ملحمة، وأن الجرح إذا نطق، أفصح أكثر من كل المؤتمرات.

فاليوم، حينما اقتحم الغاضبون مراكز توزيع المساعدات، لم يكونوا يركضون نحو الطحين، بل كانوا يقتلعون قناع الإنسانية الزائف عن وجه من جوّعهم ثم تظاهر بالشفقة، كانوا يعلنون للعالم بوضوح لا يعرف المجاز: «لن نأكل من يد ملطخة بدمنا، ولو هلكنا جوعاً».

الاحتلال لم يفشل فقط في اقتلاع هذا الشعب، بل فشل في ترويضه، وفي برمجته، وفي تحويله إلى رقم في جدول المحتاجين، أرادوا شعباً يسير خلف الشاحنات، فجاءهم شعب يقتحم أسوار المذلة ويصرخ: «كفى!»، أرادوا مشهداً من الانكسار، فصنع لهم شعبنا مشهداً من الكرامة البركانية، المشتعلة حتى الرمق الأخير.

قالوا: إنهم يقيمون «ممراً إنسانياً»، ونسوا أن كل ما أقاموه على هذه الأرض هو ممر للدم، وممر للخذلان، وممر للنفي، الفقاعة التي حاولوا أن يطلوا من خلالها على العالم، انفجرت اليوم تحت أقدام من رفضوا أن يكونوا متفرجين على موتهم، وجودهم هو الفقاعة الوحيدة، وقد شارفت على الزوال.

يا لهذا الشعب! ما أعجبه! يحاصر فيغرس علمه في الجوع، يجوع، فيصنع من الحنظل نبوءة، يخذل، فيجعل من عظامه جسراً لعودة قادمة.

يا غزة، يا ابنة النار والبسالة، من رحمك يولد العناد، ومن عريك يولد الكبرياء، ومن تجاعيد جوعك يولد التاريخ الذي لا ينسى.

إن هذا الشعب لم يخلق ليروّض، ولم يخلق ليأكل على موائد القتلة، بل خلق ليكون الحرف الأخير في جملة الحرية، والنقطة التي تسقط سطر الاحتلال إلى الأبد.

السلام عليك يا غزة الجائعة.. الثائرة.. النقية.. السلام على من لا يزالون ينهضون كل فجر، وهم أضعف جسداً، لكنهم أصلب من الحديد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق