الأربعاء، 28 مايو 2025

الحرب الأخيرة أو انتحار إسرائيل

 الحرب الأخيرة أو انتحار إسرائيل

حلمي الأسمر

يخوض الكيان الصهيوني حربه على غزّة، ولا حربَ تبدو بعدها، ولا نهايةَ قريبةً في الأفق. ويترافق هذا مع حربٍ من نوع آخر، يمكن توصيفها عمليةَ انتحار ذاتي، عنوانها الرئيس تفكيك مؤسّسات "الدولة" وتجريف نظامها السياسي، تحت تأثير عوامل ذاتية وموضوعية، محورها الأساس شخص "موهوب" آتاه الله بعض ما وهب إبليس من قدرة عبقرية على الشرّ، شرّ باتجاه الذات وباتجاه الآخر، من دون أيّ اعتبار لأيّ قيمة وطنية أو إنسانية.

في الأفق، تبدو الأخطار المحيطة بهذا الكيان أكثر كارثيةً ممّا يبدو عليه الأمر، فهو مشروعٌ لم يكن وطنياً بالمطلق، بل ارتبط بجملة من المحدّدات الجيوسياسية التي حكمت وجوده، وأيّ تغيير جذري يلحق به سيكون له هزّات ارتدادية عنيفة تلحق بمحيطه أولاً، ويصل مداها إلى أبعد نقطة في الكرة الأرضية، لهذا كان زلزال 7" أكتوبر" (2023) حدثاً يشبه في حجمه حجم حرب عالمية في تأثيراته وامتداداته، وستتلوه إعادة بناء نظام عالمي جديد تماماً، وستقوم كيانات جديدة، وتختفي أخرى. من هنا يصبح النظر في حال الكيان اليوم نوعاً من قراءة "طالع" المنطقة العربية والعالم.

وصْف "تفكيك" الكيان، وإن كان يبدو كبيراً وخطيراً، لم يعد استعماله حِكراً على خصوم الكيان ومناهضي الصهيونية، بل غدا جارياً على ألسنة من بقي من عقلاء الصهاينة، وسط جو هستيري مشحون بالأحلام التوراتية، المهووسة بأوهام ما يسمّونه "وعد الرب" بتوسيع حدود "أرض الميعاد" لتشمل فلسطين كلّها، وبعضاً من سورية ومصر والعراق، ولبنان كلّه، وهو حلم لفئة تعاني حمّى سياسية ودينية منفصلة عن الواقع، وهي تشبه أحلام الراعي الذي كان مستلقياً تحت جرّة السمن خاصّته، ويحلم ببيع الجرّة، وبالزواج وتكوين أسرة وإنجاب ولد أو أكثر، حتى إذا عصا أوامره أحد منهم، ضربه بالعصا "هكذا"... ولم يشعر الراعي إلا والسمن يسيل على وجهه ولحيته، منهياً بعصاه أحلام يقظته، بعد أن حطّمت عصاه الجرّة وتبعثر ما فيها. هذا هو حلم الصهيونية الدينية وأصحاب الحلم التوراتي المجنّح، الذين يتحدّثون عن "إسرائيل الكُبرى"، وهم اليوم عالقون في إخضاع "إسرائيل الصُغرى" وهضمها. أصحاب هذا الحلم التوراتي المجنّح لدينا جماعة منهم، يحلمون بانتهاء إسرائيل وخلاص الأمّة منها بالدعاء وانتظار انتصار الدم الغزّي بأشلاء نسائه وأطفاله وشيوخه على آلة حرب مجنونة، لم تزل تتسلح بذخائر الغرب وأسلحته ودعمه اللوجستي والعملياتي والسياسي والقانوني. الحلمَين كلاهما يستندان إلى "منطق" أعرج (إن جاز التعبير)، تختلط فيه الرغائب بالأحلام بالغيبوبة السياسية والعلمية، فلا غلاة متديّنيهم لديهم من القوة ما يمكّنهم من إقامة حلمهم "الأكبر" ولا متديّنينا (أو بعضهم أقلّها) لديهم من الخطط والبرامج العملية ما يُحقّق أحلامهم بزوال "إسرائيل".

الكيان الذي "يستمتع" بقتل أطفال "الأغيار"، لا يمكنه أن يكون سويّاً في "تربية" أطفاله، أو حتى كباره

بعيداً من أحلام الراعي و"رعيّته"، التي سلّمت زمام أمرها لوليّ أمر ليس له من الأمر شيء (!)، وبعيداً من مخرجات حمّى "الحريديم" والصهيونية الدينية، من سموتريتشيين وبن غفيريين، هناك وقائع تجري في الأرض لا تخطئها عين الخبير والمراقب الذكي، يمكن إجمالها في بضع نقاط. 

أولاً، خيارات الكيان كلّها سيئة، فهو لا يستطيع إيقاف الحرب ولا المضي فيها، ولا التقدّم ولا التأخّر، ولا الثبات. كلّ خيار من هذه الخيارات سيئ وقاتل، وباهظ الثمن، ليس على من يقود دفّة الكارثة "النتن ياهو" فقط، بل على كلّ المشروع الصهيوني. فبعد ستمائة يوم من الحرب الوحشية على قطاع محاصر برّاً وجوّاً وبحراً، عربياً وأجنبياً، لم يتمكن رابع أقوى جيش في العالم، مسنوداً بقوى نووية عظمى، من حسم عدوانه، ولم يزل متلعثماً في تعريف معنى نصر لم يبلغه بعد، ولن يبلغه إلا إذا اقترن بحالة من ينتصر على نفسه بقتلها. وتلك مسألة تحتاج إلى عشرات الصفحات لبسطها، فالكيان الذي "يستمتع" بقتل أطفال "الأغيار"، لا يمكنه أن يكون سويّاً في "تربية" أطفاله، أو حتى كباره. إن إمعانك في نفي الآخر وتغييبه هو بمعنى من المعاني تغييب لذاتك، ونفي لها، لا يمكن لبشر سوي أن يتعايش مع كوابيس حرب دموية خارجة عن كلّ قوانين الأرض والسماء، كتلك التي يخوضها وحوش الصهاينة في غزّة، من دون أن تتسلّل وحشيتها إلى جيناتهم وأرواحهم، فتحوّلهم كائنات لا تطيق نفسها، ولا تستطيع أن تتعايش لا مع ذاتها ولا مع غيرها، مع ما يتبع هذه الحرب من كلفة مادية ومعنوية، وأضرار نفسية واقتصادية واجتماعية مهولة.

الكيان الصهيوني اليوم لا ينتحر ويتفكّك وحده، بل سيجرّ معه كثيرين ممّن حملوه وساندوه طوال العقود الثمانية الماضية

ثانياً، يرافق هذا المأزق متعدّد الرؤوس، مأزق آخر نشأ قبل "7 أكتوبر" وتفاقم معه، وهو جنوح الكيان برمّته إلى حالة مهووسة من المشاعر الدينية المسيحانية، وسيطرة رجال مغسولة أدمغتهم بأساطير الحاخامات ونصوص التلمود، على أهم مفاصل "الدولة"، يقودهم ويتساوق معهم "زعيم" مسكون بجنون العظمة والنرجسية، فيما هو غارق حتى أذنيه بقضايا خيانة الأمانة والفساد، ومطلوب مجرم حربٍ وفق ما بقي من عدالة في القانون الدولي، هذا "الزعيم" وفي سبيل تحقيق أحلامه التي تشبه أحلام صاحبنا الراعي، هو أشبه ما يكون بالمرياع (قائد قطيع الغنم)، الذي يقود قطيعه إلى حافة الهاوية، من دون أن يقوى أحد من القطيع على وقفه عند حدّه، فهو بحسب غير كاتب ومحلّل سياسي "يفكّك" مؤسّسات "الدولة"، التي قام عليها النظام الديمقراطي في الكيان، ولم يعد يقيم وزناً للقانون الذي يحكمه، ولديه الاستعداد لسحق كلّ من يقف في وجهه وتصفيته، من دون نظر إلى المخاطر الوجودية التي تهدّد وجود الكيان أصلاً، إنه بحسب تعبيراتهم غدا "ملكاً" ودكتاتوراً محاطاً بمؤيّدين يرونه بمثابة إله صغير، ولا يهم إن كان هذا الإله يقود القطيع إلى خراب يرونه خلاصاً.

ثالثاً، خطورة ما يجري في الكيان لن يقتصر أثره على الكيان نفسه، فثمّة كيانات أخرى مرتبطة معه بعلاقات "وجودية"، وما يجري عليه من تفكّك وتحلّل سيجري عليها. لهذا نرى استماتة هذه الكيانات في "الدفاع" عنه، وإسناده وحماية ظهره، ومدّه بما يحتاج إلى الصمود من حاجات لوجستية ودعم سياسي، علماً أن هذا الدعم بدأ يتداعى ولو ظاهرياً، ذلك أن حلفاء الكيان (خاصّة في الغرب) لم يعودوا يستطيعون حمل كلفة توحّشه وإجرامه أمام شعوبهم، وتلك لحظة فارقة، ففي الوقت الذي يصبح حمل الكيان مكلفاً أكثر من قدرتهم على دفع هذه الكلفة، سيضطرّون إلى رميه عن ظهورهم، وربّما نحن نقترب سريعاً من هذه اللحظة الفارقة.

الكيان اليوم لا ينتحر وحده، ولا يتفكّك وحده، بل سيجرّ معه في رحلة الهاوية كثيرين ممّن حملوه وساندوه طوال العقود الثمانية الماضية، حتى قبل أن يكمل سنته الثمانين، مع استذكارٍ هنا لعقدة العقد الثامن، التي تحدّث عنها كثيرون بوصفها نذير شؤم على مستقبل الكيان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق