الثلاثاء، 8 أغسطس 2023

نهايات عصر التنوير وانتصار الإلحاد

نهايات عصر التنوير وانتصار الإلحاد

رويدا رويدا، تتكشف لنا في القرن الـ19 ثمار الهجمة الشرسة التي شهدها القرنان الـ17 والـ18 في أوروبا، وخاصة في النصف الثاني من القرن الـ18، بهدف إقصاء كافة المؤثرات اللاذاتية التي تحدد طبيعة السلوك البشري والقرارات والقوانين والضوابط التي تتحكم به، وعلى رأسها الدين والأخلاق.

فالمحاكمات التي أدارها الفلاسفة الأوروبيون في تلك الحقبة للرب والدين والرسل والوحي والأخلاق، انتهت في القرن الـ19 بـ"موت الرب" وإقصاء الدين بالكلية من حياة الدولة والمجتمع، وحلّت القوانين والتشريعات الصادرة عن الأجهزة التنفيذية للدولة مكان الأخلاق، تحت شعارات مخادعة تعد بإقامة حياة آمنة مستقرة متسامحة، خالية من الحروب والصراعات، يسودها العلم والعقل وترفرف فوقها راية الحرية والعدل والمساواة، وهو ما لم يشهده العالم حتى اليوم. وقد استعرضنا في المقال السابق السياق التاريخ العام للقرن الـ19، وما حفل به من ثورات في مجالات عديدة، ساهمت في تعدد الاتجاهات الفلسفية وموقفها من الدين والأخلاق، بصورة تجاوزت كثيرا حدود ما انتهى إليه القرن الـ18، ونستعرض في هذا المقال أبرز هذه الاتجاهات.

أسهمت التحولات والمؤثرات التي صاحبت القرن الـ19 في ظهور العديد من التيارات الفلسفية الإلحادية المتطرفة التي تمحورت حول إقصاء الدين والأخلاق من حياة المجتمع الأوروبي والغربي عامة

  • انتصار الإلحاد

مهّدت نهايات عصر التنوير بشكل تدريجي إلى الانقلاب الشامل على الدين والأخلاق في القرن الـ19، الذي يعتبر عصر "موت الرب" على حد تعبير الفيلسوف الألماني "فريدريك نيتشه"، لتدخل أوروبا والدول الغربية التي أنشأتها في شرق الكرة الأرضية وغربها، في مرحلة جديدة لم يعد للدين فيها أي دور في تنظيم الدولة وإدارة شؤون المجتمعات والأفراد. وقد أسهمت الحروب الأوروبية الدامية والتحولات السياسية والثورة الصناعية وما صاحبها من إفرازات ومتغيرات رأسمالية وأخلاقية، ساهمت في تعزيز هذا الاتجاه. ولا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا للحظة واحدة هنا دور الحركة الماسونية التي كانت مهيمنة حينها -وما زالت- على المشهد الأوروبي الغربي، السياسي والاقتصادي والعلمي والثقافي.

وهكذا أسهمت هذه التحولات والمؤثرات في ظهور العديد من التيارات الفلسفية الإلحادية المتطرفة التي تمحورت حول إقصاء الدين والأخلاق من حياة المجتمع الأوروبي والغربي عامة، وفيما يأتي أبرزها:

الرومانسية

ظهرت في فرنسا أواخر القرن الـ18، وانتشرت في أوروبا في النصف الأول من القرن الـ19، كردة فعل ضد الثورة الصناعية التي تسيطر عليها الأرستقراطية والرأسمالية. وكانت في بدايتها حركة ثقافية فنية أدبية، تغذّي المشاعر والأحاسيس والعواطف والخيال، بما فيها مشاعر الخوف والرعب، إلا أنها سرعان ما ارتبطت بالتيارات الليبرالية والراديكالية، وساهمت في نمو الهوية القومية لدى الشعوب الأوروبية، كما لها تأثير كبير في السياسة والعلوم والتعليم والتاريخ. وجاءت كرد فعل على التيار الكلاسيكي العقلاني الذي ظهر أواخر القرن الـ18 محاولا إحياء ملامح القرون الوسطى الفنية والأدبية وقيودها وقواعدها. وتخالف الرومانسية الكلاسيكية في أن الأدب ليس محاكاة للطبيعة، وإنما عملية خلق إبداعي خيالي يجمع بين الماضي والحاضر والمستقبل. ولم تقتصر الرومانسية على الأدب والفن، بل كان لها اتصال واسع بالفلسفة والعقيدة والأخلاق.

المثالية الألمانية

حركة فلسفية ظهرت في ألمانيا أواخر القرن الـ18، وانتشرت في أوروبا في النصف الأول من القرن الـ19، كرد فعل على مثالية الفيلسوف كانت الذي انتقد في كتابه "نقد العقل الخالص" جميع المحاولات لإثبات وجود الله وتحطيم أسس المسيحية، ثم يعود ليعترف بالإله وخلود الروح. وتعتبر الرومانسية من أكبر التيارات الفلسفية في القرن الـ19، وقد تأثرت بالرومانسية والثورات التي شهدها أواخر القرن الـ18 في أوروبا. وتعطي المثالية أولوية للمثل العليا والمبادئ والقيم عن طريق الحقائق. ويصف المثاليون العالم كما يجب عليه أن يكون، على عكس البراغماتيين الذين يركّزون على العالم كما هو في الوقت الحاضر. كما تركّز المثالية على المخيلة ومحاولات إدراك المدلول العقلي للجمال معيارا للكمال. وقد تمايزت المثالية إلى عدة اتجاهات، كالمثالية المتعالية والمثالية الميتافيزيقية والمثالية الذاتية، والمثالية البريطانية.

النفعية

تطورت في النصف الثاني من القرن الـ18 على يد الفيلسوف الإنجليزي جيرمي بنثام، الذي يعتبر أن أفضل سلوك أو تصرّف هو الذي يحقق أكبر قدر من المنفعة، أي الرفاه للكيانات التي تحسّ كالبشر والحيوانات. هي نهج أخلاقي معياري يرى أن السلوك الصحيح أخلاقيا هو الذي يعزز رفاهية الإنسان بشكل أفضل. وتعتبر النفعية واحدة من أكثر الأساليب جاذبية وإقناعا للأخلاق المعيارية. وقد اختلف النفعيون حول ما إذا كان ينبغي اختيار السلوك على أساس نتائجه، أو على أساس القواعد التي يتم اتباعها لتحقيق الزيادة القصوى من المنفعة. وكانت الأفكار الرئيسية لهذا التيار قد ظهرت في القرن الـ17، بتعريف السلوك المناسب أخلاقيا بأنه هو الذي لن يؤذي الآخرين، بل يزيدهم سعادة أو منفعة. بعض المفكرين النفعيين الأوائل يعتقدون أن تعزيز السعادة البشرية واجب منذ أن أقرّها الرب.

يعتقد الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي أوغست كونت أن العالم سيصل إلى مرحلة من الفكر والثقافة تلغي فيها كل القضايا الدينية والفلسفية وتبقى القضايا العلمية التي أُثبتت بالحس والخبرة الحسية أو بالقطعية والوضعية، وفي ذلك الوقت سوف يُمحى الدين من ساحة المجتمعات البشرية

الماركسية

ظهرت على يدي كل من الفيلسوف الألماني كارل ماركس والاقتصادي الألماني فريدريك إنغلز منتصف القرن الـ19، وهي وجهة نظر اجتماعية وسياسية واقتصادية تستند إلى الفلسفة المادية التي تعارض المثالية، وترى التاريخ نفسه عبارة عن صراع طبقي منذ المجتمعات البدائية مرورا بالعصر الحجري ثم عصر العبودية ثم المجتمع الإقطاعي وأخيرا الثورة الصناعية. وكان ماركس يعتقد أن الخطوة التالية هي قيام الطبقة العاملة (البروليتاريا) بالإطاحة بالملاك الصناعيين وإنشاء مجتمع اشتراكي، والذي من شأنه أن يتطور إلى مجتمع شيوعي، حيث تختفي الاختلافات الطبقية والمال والدولة تماما. وقد استخدم ماركس الفكرة الهيغيلية عن الاغتراب للإشارة إلى عجز العمال عن التمتع بمنتجات عملهم، والمعاملة القاسية التي يلاقونها باعتبارهم مجرد سلعة، حيث يتمم تجريد الأفراد من إنسانيتهم بشكل عام في المجتمع الرأسمالي الأناني الذي لا يهمه سوى الربح.

الوجودية

وهي حركة فلسفية من حركات القرن الـ20، لكن أسلافها الرئيسيين، وعلى رأسهم الفيلسوف الدانماركي "سورين كيركغارد" والفيلسوف الألماني "فريدريك نيتشه" أسسوا الفكر الذي قامت عليه الوجودية منذ أربعينيات القرن الـ19. حيث سعى كيركغارد لإعادة روح سقراط في الفلسفة، بالتشديد على الذاتية والالتزام والإيمان والعاطفة التي تشكل جزءا من الحالة الإنسانية. وعندما رأى نيتشه القيم الأخلاقية لأوروبا في القرن الـ19 تنهار إلى العدمية، سعى إلى تقويض القيم الأخلاقية التقليدية، وميّز بين الأخلاق السائدة وأخلاق العبيد، بحجة أن الإنسان يجب أن يبتعد عن وداعة وتواضع أخلاق العبيد الأوروبية. كلا الفيلسوفين هما من رواد الأفكار مثل الوجودية في أهمية "الرجل العظيم" للعصر.

العدمية

استخدم الفيلسوف الألماني نيتشه هذا المصطلح لوصف تفكك الأخلاق التقليدية في المجتمع الغربي. أنكرت وجود حقائق أو قيم أخلاقية حقيقية، ورفضت إمكانية المعرفة أو التواصل، وأكدت اللامعنى المطلق للحياة أو بلا هدف، وأصبح العدميون في ستينيات وسبعينيات القرن الـ19 يُنظر إليهم على أنهم رجال غير مرتبين وغير منضبطين، تمردوا على التقاليد والنظام الاجتماعي. وقد عرّف البعض العدمية باعتبارها رمزا للنضال ضد جميع أشكال الاستبداد والنفاق والاصطناعية ومن أجل الحرية الفردية. وقد شكك العدميون في عقيدة الحق الإلهي للملوك، ودخلوا في صراع مماثل مع السلطات العلمانية، نظرا لأنهم احتقروا جميع الروابط الاجتماعية وسلطة الأسرة.

يرى أصحاب تيار "البراغماتية" أن الكلمات والفكر كأدوات للتنبؤ وحل المشكلات والعمل، ويرفضون القول إن وظيفة الفكر هي وصف الواقع أو تمثيله أو نقله، حيث إن قيمة الفكرة تعتمد على جدواها العملية وليس على مدى انعكاسها للواقع

الوضعية

يرى أصحاب هذا التيار أن المعرفة الحقيقية هي البيانات المستمدة من التجربة الحسية، والمعالجات المنطقية والرياضية، وغيرها من البيانات التي تعتمد على الظواهر الطبيعية الحسية وخصائصها والعلاقات فيما بينها، والتي يمكن التحقق منها من خلال الأبحاث والأدلة التجريبية، وأن عالم المعرفة الإنسانية يجب أن يتكون فقط من ترتيب صارم للملاحظات القابلة للتحديد. وقد نشأت الفلسفة الوضعية كنقيض للعلوم التي تعتمد على المعرفة الاعتقادية غير المبرهنة. وقد وضع الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي أوغست كونت هذا المصطلح في القرن الـ19 وهو يعتقد أن العالم سيصل إلى مرحلة من الفكر والثقافة سوف تلغي كل القضايا الدينية والفلسفية وتبقى القضايا العلمية التي أثبتت بالحس والخبرة الحسية أو بالقطعية والوضعية، وفي ذلك الوقت سوف يُمحى الدين من ساحة المجتمعات البشرية.

البراغماتية

تيار فلسفي ظهر في الولايات المتحدة في النصف الثاني من القرن الـ19، واستمر حتى الربع الأول من القرن الـ20. يرى أصحاب هذا التيار أن معرفة العالم على نطاق واسع لا تنفصل عن الفاعلية بداخله، وأن الفائدة من التطبيق العملي للأفكار والسياسات والمقترحات هي معايير جديرة، ويرون أن الأفكار تستمد معانيها من نتائجها وحقائقها التي يتم التحقق منها، كما يرون أن الكلمات والفكر كأدوات للتنبؤ وحل المشكلات والعمل، ويرفضون القول إن وظيفة الفكر هي وصف الواقع أو تمثيله أو نقله، حيث إن قيمة الفكرة تعتمد على جدواها العملية وليس على مدى انعكاسها للواقع.

الداروينية الاجتماعية

ظهرت في النصف الثاني من القرن الـ19، وتنسب إلى العالم والفيلسوف الإنجليزي تشارلز داروين، وتدعو إلى تطبيق المفاهيم البيولوجية للانتخاب الطبيعي والبقاء للأصلح على علم الاجتماع والسياسة. ويرى أتباع هذا التيار أن من شأن القوي أن يرى ثروته وقوته يتزايدان، بينما من شأن الضعيف أن يرى ثروته وقوته يتناقصان. كما لهم آراء مختلفة حول الآليات المحددة التي يجب استخدامها لمكافأة القوة ومعاقبة الضعف. وتشدد العديد من هذه الآراء على التنافس بين الأفراد في رأسمالية عدم التدخل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق