ماذا يجري في النيجر من الناحية الإستراتيجية؟
إن التطورات التي تحدث في دول الساحل الإفريقي من الناحية الإستراتيجية، تنتمي إلى التداعيات والانهيارات المتعددة التي يعاني منها النظام الدولي، وهو مؤشر خير للأمة المسلمة، وفق القراءة المنهجية لُسنن التدافع والصراع بين حملة الحق وجنود الباطل، والتي يمكن تتبعها في القرآن الكريم وفي سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وفي تاريخ الأمة المسلمة؛ وهو المنهج الأساسي الذي استخدمته في قراءتي لتقدير الموقف الاستراتيجي للأمم التي تحكم النظام الدولي، وتقدير الموقف الاستراتيجي لأمة الإسلام، وذلك في كتاب مشروع تمكين الأمة المسلمة.
فإن الذي نراه إنما هو أحد الثقوب السوداء، والفراغات الكبيرة والخطيرة التي يعاني منها النظام الدولي، فلم تعد مفاصله وكوابحه قادرة على الاستمرار في التفاهم على تقاسم غنيمة ما بعد الحرب الباردة، ولا على تثبيت ضحايا ذلك النظام وإخضاعهم للذبح المستمر، وفي مقدمتهم الشعوب المسلمة، فهم الذين يقع عليهم الضغط الأكبر من النظام الدولي منذ تأسيسه عام خمسة وأربعين 1945.
أما الآن فبحمد الله تعالى، قد انتقل الصراع من المركز إلى الأطراف، وأوضح مؤشر على ذلك اشتعال الحرب في أوكرانيا، وبالتالي أصبحت منطقة المركز تعاني من فراغ أمني كبير، وضعف في سيطرة النظام الدولي، سواء كنا نتحدث عن الشام وما حولها، أو إفريقيا، وما يُسمى بمنطقة الشرق الأوسط، وشمال إفريقيا ومنطقة الساحل الإفريقي.
ويرجع سبب هذا الفراغ الأمني، أن الذين كانوا يهيمنون بأدواتهم الأمنية والعسكرية والاقتصادية على المنطقة، يعانون من تفكك كبير، سواء على مستوى مؤسسات الأمم المتحدة، أو مستوى العلاقات البينية بين رؤوس النظام الدولي، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية والصين وروسيا، وكذلك التفكك والضعف الذي تعانيه بقية المنظومات الداعمة للنظام الدولي، كالمنظومات الأمنية والعسكرية، والمنظومات الاقتصادية، ومنظومات الأنظمة السياسية العميلة التابعة للنظام الدولي بشقيه الغربي والشرقي.
ولذلك انعكس الأمر على جميع دول الساحل، بل يكاد يصل للسنغال على سواحل الأطلسي، فالسنغال تشتعل فيها مؤشرات الانهيار السياسي والأمني أيضا.
الأمر الذي يسهِّل على الشعوب مهمة الانعتاق من أنظمة الوصاية الغربية خاصة (أوروبا وأمريكا)، صحيح بأن الأمة المسلمة تعاني بدورها من فراغ في التصوُّرات التي تقود إلى سيادتها وعزتها، وطبيعة الترابط العَقَدي والاستراتيجي بين شعوبها ومكوِّناتها، ولا تزال بدائل الإنقاذ غير واضحة المعالم، لإدارة هذه الفرصة أو استثمارها، لا من حيث التصوُّرات ولا من حيث الآليَّات، والتكوين، والجماعات، والتيارات، والمؤسسات.
لكن الذي يبعث على الاطمئنان أن سُنَن الله عز وجل ماضية: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا)، فالأمة تمر بمرحلة انتقاليَّة لا بد منها، وهي مرحلة الاستضعاف وتندفع إلى مرحلة التدافع وصولا إلى مرحلة التمكين، وسيبعث الله عز وجل من الرجال من يستثمر هذه الفرصة ويقود المرحلة القادمة.
لكن ينبغي ألا نُعوِّل على الآمال وحدها ونجلس، وإنما ينبغي أن نعمل على إيجاد التصوُّرات والاجتهاد الذي يلمُّ شعث الأمة المسلمة، ثم نتحرك نحو إعداد الشباب الذين يفهمون ما الذي يجري في العالم؟ ويدركون أن ثمَّة فرصة متاحة عظيمة للأمة المسلمة، ينبغي استثمارها؛ وما لم نعمل على كسر حدة الانغلاق الوطني والعِرقي والقومي، الذي تعاني منه شعوب الأمة المسلمة، بحيث يتواصل شباب ليبيا مع شباب تشاد مع شباب مالي، ويعملون بشكل مُوَحَّد، ويرفعون عنهم الوهم الذي صنعته أمريكا تحت مسمَّى «الإرهاب»، فإنه ما لم يحصل هذا فإن المسافة بيننا وبين استثمار هذه الفرصة ستبقى بعيدة.
أيضا يدل ما يحدث في النيجر على انهيار النُّظُم السياسية القُطرية، العسكرية منها والملكية، التي تدير هذه السجون الكبيرة في الأمة، والتي يُطلَق عليها مُسمَّى «أوطان»، وما هي إلا سجون كبيرة يحتشد فيها العبيد، كسجن الجزائر وسجن مصر وسجن المغرب إلى غيرها من السجون الكبيرة؛ فالأحداث تدل على عجز تلك المنظومات عن الاستمرار في إدارة القمع، والسيطرة التي تفرضها على الشعوب.
وسوف تضطر نُظُم القمع العربي في مصر والجزائر وأنظمة الخليج إلى التدخُّل في منطقة الساحل لملء الفراغ، بناء على أوامر أسيادها في واشنطن وباريس ولندن، الأمر الذي سوف يفاقم من أزماتها وإنفاقها واقترابها من الانهيارات الداخلية، وبالتالي ازدياد الفرص المواتية للشعوب لخوض معارك إسقاط تلك الأنظمة البائسة، والتحرر من السيطرة التي تفرضها على شعوب الأمة المسلمة، باسم أوليائهم الصليبيين واليهود، كما الأمر الآن في السودان، فبالرُّغم من المعاناة الهائلة التي يجد الشعب السوداني فيها نفسه، في ظل حرب العسكر المجرمين، فهي فرصة للذهاب نحو الانعتاق من هيمنتهم والتحرر من ربقة العبودية التي فرضتها بريطانيا منذ احتلالها للسودان وحتى الآن.
وأما فيما يتحدث به البعض، بأن أحداث النيجر، ومن قبل أحداث مالي والسودان، تؤشِّر بأن روسيا قادمة للمنطقة وبقوة، وأنها ستحل محل الأمريكان والفرنسيين، فما هي إلا دعاية وآمال كاذبة، بل أظن بأن الأمريكان والفرنسيين يعملون على أن تكون منطقة الساحل الإفريقي هي منطقة فخ لروسيا، بحيث يُغرونها بالنزول العسكري فيها، ومن ثم تحويلها إلى معركة استنزاف مُكلفة لروسيا، كما تُستنزف روسيا في أوكرانيا، ولعلَّ «الانسحاب» العسكري الفرنسي من المنطقة يُشير إلى هذا الاتجاه؛ لأن الانسحاب صنع فراغا أمنيا كبيرا، فكأنهم يقولون لروسيا: تفضلي فالساحة خالية! فهم يغرونها بالدخول عبر الفاغنر، فإذا دخلت الفاغنر يعني دخلت روسيا في الحرب، لأن الفاغنر هي قوات روسية في النهاية، صحيح أنهم مرتزقة لكن روسيا هي المسئولة عنهم، فالتمويل روسي والإدارة العسكرية والأمنية روسية؛ لكن يبدو بأن بوتين مدرك لهذه اللعبة فهو متردد في التجاوب مع هذه العروض غير المباشرة، لأن عنده ما يشغله ويهدده على الساحة الأوكرانية، ومع ذلك فلا زال الأمريكان والفرنسيون يُعوِّلون على إمكانية انزلاق روسيا في هذا الفخ لصالحهم.
والعجيب أن هناك من بين المسلمين من يبشِّر بأن الروس قادمون، فهم ينتظرون التحوُّل من عبيد أمريكا وفرنسا إلى عبيد لروسيا، فهم لا يصلحون إلا أن يكونوا عبيدا، إما للشرق وإما للغرب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق