صعوبات أمام التدخل العسكري في النيجر
تبذل فرنسا محاولات مستميتة لاستعادة نظام الرئيس محمد بازوم التابع لها في النيجر، ولكن الظروف الداخلية والخارجية لا تساعدها، فلا أنصار للرئيس المخلوع الذي باع بلده للفرنسيين، كما لم يتحقق التأييد الكافي للعملية العسكرية التي تعد لها فرنسا بغطاء إفريقي، وتتسع دائرة الرفض من دول الجوار للتدخل العسكري الذي سيترتب عليه خسائر لا حصر لها ولن يقف عند حدود النيجر وإنما سيمتد إلى ما هو أبعد.
فشلت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) التي تديرها فرنسا من وراء الستار ولم تستطع حتى الآن الحصول على موافقة كل دول المجموعة، كما أن في نيجيريا التي يتبنى رئيسها التدخل العسكري ويقود عملية الحشد رفض مجلس الشيوخ النيجيري الموافقة ودعا للحل الدبلوماسي، ويأتي الموقف الجزائري الرافض للعملية العسكرية ليضع العراقيل أمام التخطيط الفرنسي ويقوي من موقف قادة النيجر.
العامل الأكثر بروزا في المشهد هو التأييد الشعبي للانقلاب العسكري والمسيرات الجماهيرية التي توضح صلابة الجبهة الداخلية ضد أي عدوان، ووجهت الحشود التي تجمعت في استاد نيامي لإظهار الدعم للقادة الجدد لطمة لمن راهنوا على الانقسام بين الجيش والشعب، وهذا التأييد نتيجة التطابق في المواقف ضد فرنسا التي تنهب خيرات البلد، فالجيش الذي ألغى كل اتفاقات التعاون مع فرنسا يحقق حلم الشعب في التحرر من فرنسا.
ليست كل الانقلابات العسكرية شرا
تحاول فرنسا شيطنة الانقلابات العسكرية ضدها، لكن الانقلابات التي تدبرها وتدعمها مشروعة ومقبولة! والحقيقة أن الانقلابات ليست كلها شرا وليست كلها خيرا، فما كان لصالح الشعب وضد الاحتلال فهو مقبول ومرحب به، وأما الانقلاب ضد الشعب لصالح القوى الاستعمارية فهو خيانة ويستحق الإدانة، فليس كل العسكريين شياطين وليس كل المدنيين ملائكة، ومعيار التقييم للعسكريين والمدنيين هو موقفهم من التبعية لفرنسا وغيرها من القوى العالمية المهيمنة، وما إذا كانوا مع التحرر والاستقلال أم لا؟
تزعم فرنسا أن الانقلاب أطاح بالتجربة الديمقراطية، والحقيقة أنها تجربة زائفة، فدول غرب إفريقيا مستعمرات تديرها فرنسا بالقوة العسكرية، وهي التي دبرت الانقلابات في القارة للإطاحة بالحكام الراغبين في الاستقلال والتحرر، وهي التي تختار النخبة السياسية في الحكم والمعارضة وتجري لهم الانتخابات كما تريد، وإذا خرج طرف عن حدود اللعبة تكون نهايتة بانقلاب فرنسي وبالاغتيال أيضا.
في النيجر دبرت فرنسا انقلاب فبراير 2010 وأطاحت بالرئيس الأسبق محمد تانجا، لأنه حاول تغيير اتفاقيات استخراج اليورانيوم ومنع النهب الفرنسي، وفرنسا هي التي دبرت الانقلاب ضد زعيم بوركينا فاسو الشهير توماس سانكارا عام 1987 وتم قتله والتمثيل بجثته ليكون عبرة وأمثولة، لأنه سعى للتمرد على فرنسا وقام باجراءات لصالح الشعب، وقرر إصدار عملة بدلا من الفرنك الإفريقي الذي يطبعه البنك المركزي الفرنسي في 14 دولة إفريقية تابعة.
فرنسا التي تطالب قادة النيجر اليوم بالعودة للمسار الدستوري هي التي أيدت تولي محمد إدريس ديبي منصب الرئاسة بعد اغتيال والده بدون الرجوع للدستور، وحضر ماكرون جنازة ديبي لنقل السلطة بغير انتخابات، وهناك شكوك حول الاغتيال الذي تم من الخلف! وتؤيد فرنسا النظام القبلي الحاكم كما توطد علاقاتها بالقبائل التي تنتمي إليها المعارضة؛ أي تدعم الحكم والمعارضة المسلحة في نفس الوقت لتضمن السيطرة على الطرفين.
ما يجري في السنغال الآن يوضح خديعة الديمقراطية الفرنسية، فالشعب السنغالي الكاره للاحتلال الفرنسي يؤيد بقوة الزعيم المعارض عثمان سونكو المرشح الرئاسي في الانتخابات القادمة، وتسببت حالة الغليان في الشارع السنغالي في إجبار الرئيس الحالي ماكي سال على إعلان عدم الترشح لفترة ثالثة، ولكن فرنسا تدخلت وأمرت الرئيس السنغالي بالقبض على زعيم المعارضة وحل حزبه لقطع الطريق عليه ومنعه من الترشح!
هل سينجح التدخل العسكري لو تم؟
رغم عدم تحقيق فرنسا للدعم المطلوب للعملية العسكرية لإسقاط القادة الجدد، فإنها لن تستسلم بسهولة، فمستقبلها متوقف على نتيجة المعركة في نيامي، ولذلك فسيناريو التدخل وارد بقوة حتى لو لم تتجاوب دول “إيكواس”، ولكن قادة الانقلاب يصرون على موقفهم، فالمعركة بالنسبة لهم “تكون النيجر أو لا تكون”، ورغم ما يبدو من قوة الجيش الفرنسي فإن الظروف لصالح التحرر والاستقلال.
رغم استدراج فرنسا للاتحاد الأوربي وإقناعهم بأن منطقة الساحل من السودان وحتى موريتانيا تدخل في المجال الأمني الأوربي، ورغم توفير القواعد لأمريكا وحلف الناتو بالمنطقة بالمشاركة مع القوات الفرنسية، فإن معركة النيجر واضحة تماما أنها ضد الاحتلال الفرنسي، وإنهاء الحقبة الاستعمارية تماما، وهذا يفسر تراجع أمريكا والدول الأوربية خطوات عن فرنسا في المواجهة.
قد تندفع فرنسا في عمل عسكري بغطاء أو بدون غطاء إفريقي، لكن فرص نجاحها في تحقيق ما تريد محدودة، وستكون أقرب للفشل منه للانتصار، فالغزو البري من نيجيريا وبنين صعب جدا خاصة أن العاصمة نيامي قريبة من مالي وبوركينا فاسو اللتين أعلنتا وقوفهما مع النيجر إذا قامت الحرب، وجيشيهما الأقرب والأسرع في حالة المشاركة في الحرب ورد القوات المهاجمة، ورغم أن الهجوم من تشاد مستبعد لموقفها المعلن ولكن حتى لو تم الهجوم منها فالمسافة بعيدة جدا للوصول إلى العاصمة.
محور الهجوم الفرنسي المتوقع سيكون بالطائرات والقصف الصاروخي، وهذا لن يؤدي إلى نتيجة في غياب الظهير الشعبي لفرنسا، حيث يحتشد الشعب مع الجيش بكل حماس ضد الاستعمار الجديد، لكن هذا الهجوم سيكون وبالا على فرنسا لأن القواعد الفرنسية في نيامي وأنحاء النيجر ستكون غنيمة بكل ما فيها من طائرات ومعدات، وهذه القواعد بالفعل الآن تحت الحصار.
بكل الحسابات لم يعد أمام فرنسا الكثير، وستخرج مطرودة من النيجر، فالمتغير الجديد الذي لا يمكن تجاهله هو حالة اليقظة الشعبية الطاغية في إفريقيا بعد قرنين من النهب والقهر والعيش تحت الاحتلال، وهي موجات يصعب تجنبها بالحيل والخديعة والمؤامرات كما كان في السابق، واتحاد الجيوش مع الشعوب في هذه المنطقة أصبح كالفجر الذي يبدد ظلام العبودية وتتسابق إليه الدول للخلاص من أبشع احتلال غربي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق