من الإخضاع إلى الاستمتاع
وائل قنديل
انتقل الكيان الصهيوني بعد التوصّل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان إلى مرحلةِ الاستمتاع بما يقوم به من مذابح نوعيّة في شمال غزّة، بعد مرحلة طويلة من العدوان، كان محورها الانتقام والإخضاع.
بضرب مبدأ وحدة الساحات، بعد هجوم دبلوماسي أميركي أوروبي عنيف على الجانب اللبناني، صارت إسرائيل تتصرّف في لبنان وفي غزّة باعتبارها الطرف الذي قدّم تنازلات وتضحيات، وعلى الآخرين أن يقدّموا تعويضات، أو مكافآت ومزايا، عنها، فأصبحت ترتكب في عمق الأراضي اللبنانية جرائم لا تختلف عن مثيلتها قبل الاتفاق الأميركي، مع فارق وحيد، أنها تفعلها وهي ضامنة أنه ليست ردّة فعل هناك، أو عمليات مقاومة، باللغة ذاتها، والتي باتت تُصنّف خرقاً للاتفاق.
الشاهد أنه بهذا الاتفاق، ونحن في نهاية العام 2024، حقّقت واشنطن وتل أبيب ما عجزتا عن تحقيقه في العام 2006 بعد العدوان الإسرائيلي على الأراضي اللبنانية، والذي علّقت عليه وزيرة الخارجية الأميركية، كوندوليزا رايس، في ذلك الوقت، إنّ الشرق الأوسط الجديد سيولَد من رحم هذه الحرب، وتلك كانت عقيدة المحافظين الأميركيين الجدد الذين تشرّبوا مبدأ الانحياز الأعمى للحلم الصهيوني في الهيمنة على الشرق الأوسط وامتلاك إدارته، وفق مفهوم رئيس وزراء الاحتلال السابق، شيمون بيريز، في كتابه الشهير عن الشرق الأوسط الجديد "لقد جرّب العرب قيادة مصر المنطقة نصف قرن، فليجرّبوا قيادة إسرائيل إذن".
ومرّة أخرى، أستعيد ما كشف عنه صحافي التحقيقات الأميركي، سيمور هيرش، بشأن خطّة بين إدارة بوش الابن وقادة الكيان الصهيوني، للقضاء على قوات حزب الله وإنهاء وجوده على الأراضي اللبنانية، بوصفها خطوة لازمة لكي تتمكّن واشنطن من توجيه ضربةٍ جويّةٍ قاصمةٍ، وبلا تكلفة للمنشآت النووية الإيرانية.
يبدو الطريق ممهّداً أمام الكيان الصهيوني هذه المرّة بعد "اتفاق تحييد حزب الله" وإخراجه من المعادلة، والذي بات معه لبنان عمليّاً تحت الوصاية الأميركية، مع دور فرنسي ثانوي، وتحت تصرّف العربدة الإسرائيلية في جغرافيا الجنوب، بحجّة التصدّي لخروقات الحزب، بينما لا يُخفي قادة الكيان تطلّعهم إلى الشرق الأوسط كلّه، وها هي الأحداث تتسارع وتتداعى في الأراضي السورية، على نحوٍ مباغت، وبإيقاع غير طبيعي، بحيث لا يمكن الفصل بينها وبين المشروع الأميركي الإسرائيلي المؤجّل منذ العام 2006 لإخضاع الإقليم.
وفي غزّة، لم يعد الأمر انتقاماً وحشيّاً أو تفكيكاً منهجيّا لبنية المقاومة، بل صار تنفيذاً عمليّاً لخطّة الجنرالات، تحت غطاء من خطابٍ سياسيٍّ مخادع، ينفي وجود خطّة للجنرالات، ينتقل بها العدوان إلى مرحلة التطهير العرقي المدروس، عن طريق عمليات مُختارة بدقة شديدة، تستهدف مساحات محدّدة وعائلات فلسطينية بالاسم، وصولاً إلى انفراد الصهيوني بتقرير العدد المسموح به للشعب الفلسطيني في غزّة، وهو ما يتجسّد في الاستهدافات اليومية للنازحين الفلسطينيين في مخيّمات شمال غزّة، بمعدّلاتِ قتلٍ يوميّةٍ تكاد تكون ثابتة، إذ تقترب الحصيلة اليومية لشهداء القصف الصهيوني من 70 فلسطينيًا كلّ نهار، مع تركيز على فئة الأطفال والنساء.
لم يعد غُلاة الصهاينة في حكومة اليمين يُخفون هذا الأمر، بل يطالب به ويشدّد على ضرورة الاستمرار فيه الإرهابيان بن غفير وسموتريتش كلّ يوم، وتحدّث عنه علنًا وزير الدفاع الصهيوني السابق، موشيه يعالون، بالقول إنّ إسرائيل "تقوم بتطهير عرقي في شمال قطاع غزّة"، بحسب ما أبلغه به ضباط إسرائيليون شاركوا في العدوان.
اللافت هنا أن الإمعان في إظهار الاستمتاع الإسرائيلي بتنفيذ عمليات الإبادة والتطهير العرقي يمضي بوتيرة آخذة في التصاعد بعد قرار المحكمة الجنائية الدولية اعتقال بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه الذي أقيل حديثاً يوآف غالانت، بتهمة ارتكاب جرائم إبادة جماعية وتطهير عرقي في غزّة، ما يعني أنّ الحكومة الإسرائيلية تعيش مرحلة من الثقة في أنها باتت فوق المحاسبة والمساءلة، بل تسلك وكأنها هي المعيار والقانون، وخصوصاً وهي تجد محيطها العربي يشدّد ضغوطه على حركة حماس، وكأنه تنفّس الصعداء باتفاق إنهاء وحدة الساحات، والذي أكّدت تل أبيب أنه يتيح الفرصة لانفرادها، ومعها الوسطاء، بالمقاومة الفلسطينية، بعد عزل المقاومة اللبنانية عنها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق