المؤسسات الإسلامية.. وتحديات النهوض
د. عطية عدلان
مدير مركز (محكمات) للبحوث والدراسات – اسطنبول- أستاذ الفقه الإسلامي
إنّ الأثر المحسوس لهذه المؤسسات ضعيف وهزيل ويكاد -لولا ما تقوم به بعض المؤسسات الإغاثية من إسعاف الملهوفين بالحدّ الأدنى- يكون معدوماً!
أين دور الروابط العلمائية والاتحادات العلمية والأندية والمنتديات والنقابات والجمعيّات وغيرها من المؤسسات؟
لماذا نشعر دائماً بأنّنا متروكون بلا راعٍ يرعانا ولا وكيل ينافح عنّا؟ وكيف نضرب في سبل الحياة بلا هاد ولا خرّيت، نعتسف السير اعتسافاً، ونرد الموارد اقتحاماً وافتئاتاً وفضولاً؟
لا ريب أنّ هناك خللاً نتج عن وجوه من القصور تراكمت حتى صارت تحدّيات كبرى لا بدّ من مواجهتها؛ فما هذه التحديات؟
لسببين؛ الأول: ما تمارسه الأنظمة الحاكمة من غلوٍّ في الرقابة والتسلط، الثاني: ما درج عليه المسلمون من الرضا بالقليل المتمثل في مجرد الموافقة من الأنظمة على إنشاء المؤسسة وعلى تركها تمارس عملها دون منع، بغضِّ النظر عن جدوى ما تمارسه؛ فتتحول المؤسسة شيئاً فشيئاً إلى أدوات للنظام تقدم له الخدمات الجليلة لقاء مصالح قليلة وهزيلة، فتصبح الهيئة العلمائية مثلاً واجهة تحسن من صورة النظام وتضفي عليه شرعية دينية لازمة له في مرحلة ما؛ لقاء بعض المؤتمرات المبثوثة في ثنايا العمر، عناوينها مثل الزئبق، ومضامينها مثل الإسفنج، وآثارها مثل البيض المكنون، يوضع بعيداً عن متناول الأيدي والأبصار، في أدراج أشدّ إحكاماً من زنازين المستبدين.
وقل مثل هذا في أغلب الأنشطة، ومواجهة هذا التحدّي بالمدافعة والمثابرة؛ فتأخذ على الاستبداد مساحات تتابع وتتراكم وتثبت حتى تصير واقعاً.
المؤسسية في العمل والإدارة وتسيير الأمور تعني أن يمضي ذلك العمل كلُّه في المؤسسة وفق أُسس مقررة لها شرعية، وألا يمضي حسب ما يقرره شخص أو أشخاص، وسُمّي هذا السلوك الإنسانيّ الرشيد مؤسسية؛ نسبة إلى مادة «أسس» في اللغة العربية، فالأسُّ أصل البناء، وكذا «الأساس» وجمع الأساس «أُسس»(1).
ونبدأ مسيرتنا مع المؤسسية في الإسلام من النقطة المركزية التي لا يصح تجاوزها؛ لأنّه لا يصح عمل إلا بها، وهي التربية المؤهلة للشخصية النزَّاعة إلى المؤسسية، فمهما كانت القوانين واللوائح حاسمة، فإنّه من المؤكد أنّ ذلك كله لا يجدي نفعاً كبيراً ما لم تكن الشخصية قد صيغت بشكل يجعلها نزَّاعة إلى العمل المؤسسي، ولكي تكون كذلك لا بدّ من توافر جملة من العوامل النفسية والشعورية والمفاهيمية التي تشكل المكون الداخلي للشخص الذي سيكون عضواً في مؤسسة.
إنّ الشخصية التي يسيطر عليها الهوى، وتستبدّ بها الأنا، وتحتوشها الشهوات النفسية، وتقع بين فكي الأفعى القاتلة: الحرص على المال والحرص على الشرف والزعامة والتسلط، هذه الشخصية -لاسيما إذا كانت هي الغالبة في النوع البشريّ المكون للمجتمع- فإنّ العمل المؤسساتي سيكون في دائرة الخطر، وستكون معه المؤسسات على شفا جرف هار، ولن يجدي قانون ولن تنفع لوائح ولن يؤثر -إلا قليلاً- عراقة المؤسسات ورسوخها.
ومن هنا جاء القرآن بالتعاليم والتوجيهات التي تحمي المجتمع من شرِّ تلك الأمراض الخلقية والاجتماعية والإدارية الفتَّاكة، فذمَّ الهوى بما لم تُذم به الأصنام التي جاء القرآن بهدمها، حتى قال المتفرسون من أهل العلم: ليس على وجه الأرض إله يعبد من دون الله أبغض إلى الله من الهوى، وجاءت السُّنة بتفصيل ما أجمله القرآن؛ قولاً وعملاً وتطبيقاً وتربية، وتوارثت الأمّة ذلك جيلاً بعد جيل، والنصوص من القرآن والسُّنّة أكثر من أن تحصر، وكذلك أقوال العلماء والمربين وتوصياتهم، بل ومواقفهم الدالة على النقاء الداخليّ والرشد الذاتيّ الذي فاق كل التصورات.
ثمّ إذا تحركنا إلى أقرب دائرة محيطة بهذه النقطة المركزية وجدنا التربية على كل العناصر التي تشكل روح ولبّ المؤسسية، التي لا قيام لعمل مؤسسي إلا بتوافرها، إذ تنأى بالفرد والجماعة والمؤسسات عن شخصنة القرارات وشخصنة المشاريع وشخصنة الإدارة، هذه العناصر، هي: الشورى، الجماعية، التخصصية، الحسبة المتجردة، اللين والطاعة في غير مخالفة للقانون، سيادة القانون، نبذ الآبائية وسائر العصبيات، تقديم الحق على الرجال، الحوار البناء، التجرد للحق.. إلخ.
وأخيرًا، فهذه أهم التحديات، ولست أزعم أنّني استقصيتها، ولكنّه اجتهاد، يستدعي المزيد، فمن رأى أنّ هناك ما يمكن أن يزاد ويضاف فلا يحرم المسلمين من خيره، والله المستعان.
الاستقلال هو التحدي الأول والأكبر
لا تكاد توجد مؤسسة على سطح هذا الكوكب مستقلة بشكل كامل، غير أنّ أغلب المؤسسات في العالم تسعد بقدر من الاستقلال يزيد أو ينقص، يتسع أو يتقلص، لكنّه موجود ويعطي هامشاً من حرية الحركة، إلّا في عالمنا الإسلاميّ، فإنّ الاستقلال عزيز ونادر ومحاصَرٌ ومضيَّقٌ عليه إلى حدّ الاختناق؛ لماذا؟لسببين؛ الأول: ما تمارسه الأنظمة الحاكمة من غلوٍّ في الرقابة والتسلط، الثاني: ما درج عليه المسلمون من الرضا بالقليل المتمثل في مجرد الموافقة من الأنظمة على إنشاء المؤسسة وعلى تركها تمارس عملها دون منع، بغضِّ النظر عن جدوى ما تمارسه؛ فتتحول المؤسسة شيئاً فشيئاً إلى أدوات للنظام تقدم له الخدمات الجليلة لقاء مصالح قليلة وهزيلة، فتصبح الهيئة العلمائية مثلاً واجهة تحسن من صورة النظام وتضفي عليه شرعية دينية لازمة له في مرحلة ما؛ لقاء بعض المؤتمرات المبثوثة في ثنايا العمر، عناوينها مثل الزئبق، ومضامينها مثل الإسفنج، وآثارها مثل البيض المكنون، يوضع بعيداً عن متناول الأيدي والأبصار، في أدراج أشدّ إحكاماً من زنازين المستبدين.
وقل مثل هذا في أغلب الأنشطة، ومواجهة هذا التحدّي بالمدافعة والمثابرة؛ فتأخذ على الاستبداد مساحات تتابع وتتراكم وتثبت حتى تصير واقعاً.
غياب المؤسسية داخل المؤسسات وخطره
إذا كان الله تعالى قد قرّر في محكم التنزيل أنّ القرآن يهدي للتي هي أقوم؛ وكان السبيل الأقوم في إقامة المؤسسات وإدارتها هو المؤسسية، وإذا كان الإسلام بشريعته الغراء يتسم بالشمول؛ فلا يَنِدُّ من تحت سلطانه مجال من المجالات؛ فإننا نجزم بناء على هاتين المقدمتين المحكمتين بأنّ المؤسسية إحدى السمات الرئيسة للمؤسسات في الإسلام، وقبل أن نقتحم عتبة هذا الموضوع المهم: ما المؤسسية؟المؤسسية في العمل والإدارة وتسيير الأمور تعني أن يمضي ذلك العمل كلُّه في المؤسسة وفق أُسس مقررة لها شرعية، وألا يمضي حسب ما يقرره شخص أو أشخاص، وسُمّي هذا السلوك الإنسانيّ الرشيد مؤسسية؛ نسبة إلى مادة «أسس» في اللغة العربية، فالأسُّ أصل البناء، وكذا «الأساس» وجمع الأساس «أُسس»(1).
ونبدأ مسيرتنا مع المؤسسية في الإسلام من النقطة المركزية التي لا يصح تجاوزها؛ لأنّه لا يصح عمل إلا بها، وهي التربية المؤهلة للشخصية النزَّاعة إلى المؤسسية، فمهما كانت القوانين واللوائح حاسمة، فإنّه من المؤكد أنّ ذلك كله لا يجدي نفعاً كبيراً ما لم تكن الشخصية قد صيغت بشكل يجعلها نزَّاعة إلى العمل المؤسسي، ولكي تكون كذلك لا بدّ من توافر جملة من العوامل النفسية والشعورية والمفاهيمية التي تشكل المكون الداخلي للشخص الذي سيكون عضواً في مؤسسة.
إنّ الشخصية التي يسيطر عليها الهوى، وتستبدّ بها الأنا، وتحتوشها الشهوات النفسية، وتقع بين فكي الأفعى القاتلة: الحرص على المال والحرص على الشرف والزعامة والتسلط، هذه الشخصية -لاسيما إذا كانت هي الغالبة في النوع البشريّ المكون للمجتمع- فإنّ العمل المؤسساتي سيكون في دائرة الخطر، وستكون معه المؤسسات على شفا جرف هار، ولن يجدي قانون ولن تنفع لوائح ولن يؤثر -إلا قليلاً- عراقة المؤسسات ورسوخها.
ومن هنا جاء القرآن بالتعاليم والتوجيهات التي تحمي المجتمع من شرِّ تلك الأمراض الخلقية والاجتماعية والإدارية الفتَّاكة، فذمَّ الهوى بما لم تُذم به الأصنام التي جاء القرآن بهدمها، حتى قال المتفرسون من أهل العلم: ليس على وجه الأرض إله يعبد من دون الله أبغض إلى الله من الهوى، وجاءت السُّنة بتفصيل ما أجمله القرآن؛ قولاً وعملاً وتطبيقاً وتربية، وتوارثت الأمّة ذلك جيلاً بعد جيل، والنصوص من القرآن والسُّنّة أكثر من أن تحصر، وكذلك أقوال العلماء والمربين وتوصياتهم، بل ومواقفهم الدالة على النقاء الداخليّ والرشد الذاتيّ الذي فاق كل التصورات.
ثمّ إذا تحركنا إلى أقرب دائرة محيطة بهذه النقطة المركزية وجدنا التربية على كل العناصر التي تشكل روح ولبّ المؤسسية، التي لا قيام لعمل مؤسسي إلا بتوافرها، إذ تنأى بالفرد والجماعة والمؤسسات عن شخصنة القرارات وشخصنة المشاريع وشخصنة الإدارة، هذه العناصر، هي: الشورى، الجماعية، التخصصية، الحسبة المتجردة، اللين والطاعة في غير مخالفة للقانون، سيادة القانون، نبذ الآبائية وسائر العصبيات، تقديم الحق على الرجال، الحوار البناء، التجرد للحق.. إلخ.
ضرورة استيعاب المؤسسات لطاقات الأمة
في كلّ أمّة تتعدد وتتنوع الطاقات والمواهب والاستعدادات؛ وبقدر ما تكون الأمة من الأمم واعية وناضجة تفلح في استخراج مكنون هذه الطاقات وفي استيعابها داخل دولاب العمل الإنساني الواسع المتعدد الأطياف، والسؤال الأصعب عادةً هو: كيف نفلح في استكشاف المواهب والطاقات؟ ويليه السؤال: كيف نوفق في توظيفها بالشكل المناسب الذي يحقق الغايات؟ غير أنّ هناك سؤالًا أشد صعوبة وأكثر استعصاء، وهو: هل نحن على استعداد لسبر الساحة بمنهجية متحررة متجردة؟ هل نحن على استعداد أن نتخلى عن الاكتفاء إلى البحث عن الأكفاء؟ هل لدينا الشجاعة النفسية والحرّية القلبية حتى نخرج بالمؤسسة عن الاحتباس في إطار الجماعة التي ننتمي لها أو الحزب الذي نمارس من خلاله أنشطتنا إلى فضاء الأمة الواسع لنعطي الفرصة لأصحاب الكفاءات، ونعطي الفرصة كذلك للأمة لتنعم بكفاءاتها المبثوثة في أكنافها؟ أعتقد أنّه قد آن الأوان للخروج من الشرانق المغلقة إلى رحاب الأمة الواسعة.
التنوع والاستيعاب وصحة الانتساب
ليس المهم هو الانتساب والالتحاق ونيل الفرصة، وإنّما المهم هو أن تكون الفرصة ملائمة لمن ظفر بها؛ فلنتخلّ عن المحسوبية والمجاملات وحشر الأقارب والأصدقاء في مناصب أو في مواقع يوجد في المسلمين آلاف أولى بها منهم؛ لما لديهم من تخصص وموهبة وحسن تأتٍّ، فهذا يصلح للعمل الخيري، وهذا يصلح للعمل العلميّ، وهذا للإعلاميّ، وهذا للدعوي، وهذا للسياسي، وهذا للخدميّ، وتنوع المواهب هبة من الله للمجتمع الإنسانيّ؛ لذلك حمل بعض العلماء حديث: «اختلاف أمتي رحمة على اختلاف الصنائع والمواهب»، والقائد الفذْ، وكذلك المجتمع الفذْ هو الذي يضع كل لبنة من لبنات المجتمع في مكانها المناسب، كصنيع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث لم يعط راية الجهاد لأبي هريرة، ولا لمعاذ، ولم يكلف بالتحديث خالدًا ولا حمزة ولا زيد بن حارثة، وكذلك فعل خلفاؤه الراشدون.وأخيرًا، فهذه أهم التحديات، ولست أزعم أنّني استقصيتها، ولكنّه اجتهاد، يستدعي المزيد، فمن رأى أنّ هناك ما يمكن أن يزاد ويضاف فلا يحرم المسلمين من خيره، والله المستعان.
(1) مقاييس اللغة (1/ 14)، تاج العروس (15/ 399)، مختار الصحاح، ص 18، المعجم الوسيط (1/ 17).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق