الأربعاء، 13 أغسطس 2014

موقفان إزاء المقدسات


موقفان إزاء المقدسات

محمد عمارة
لقد ولد الإمام الشافعي في مدينة غزة، وله فيها مسجد من أكبر مساجد القطاع، ولقد قامت إسرائيل – في حربها الأخيرة على غزة – بتدمير مسجد الإمام الشافعي، مع عشرات من المساجد في القطاع، الأمر الذي يطرح مبدأ الموقف من المقدسات الدينية على بساط البحث التاريخي، ويستدعي مواقف الأطراف الدينية والحضارية من هذا الموضوع. 
لقد قامت إسرائيل، منذ إنشائها عام 1948م، بتدمير عشرات القرى الفلسطينية، بما فيها من مساجد ومقابر وأضرحة للأولياء. واستولت على الحرم الإبراهيمي – بمدينة الخليل – بعد مجزرة ارتكبتها ضد المصلين الساجدين فيه! 
كما قامت بمحاولة لإحراق المسجد الأقصى عام 1969م، وها هي الآن تمنع المسلمين من الصلاة فيه، وتفتح أبوابه للمستوطنين الصهاينة تحت حراسة جنودها المدججين بالسلاح!. إذن، فنحن أمام موقف إسرائيلي ثابت لا يقيم وزنا لمبدأ إحترام المقدسات الدينية لدى الأغيار، وإسرائيل، التي تصنف نفسها، ويصنفها حماتها الغربيون جزءا من الحضارة الغربية، إنما تقدم – في هذا المقام – نموذجا له شواهد كثيرة في تاريخ الصراع بين الغرب والإسلام، وهو تاريخ قد سجل موقفين ثابتين ونموذجين متميزين في هذا الموضوع.
لقد كتب رسول الإسلام – صلى الله عليه وسلم – عهدا للنصارى عام 10 هـ، جاء فيه: "وأن أحمي جانبهم، وأذب عنهم وعن كنائسهم وبيعهم وبيوت صلواتهم ومواضع الرهبان بما أحفظ به نفسي وخاصتي وأهل الإسلام من ملتي".
وعندما حرر المسلمون القدس من الاحتلال الروماني عام 15 هـ، كتب عمر بن الخطاب لأهلها "الأمان لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم، لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص من حيزها ولا من صليبهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم".
وعندما جاء الصحابي حاطب بن أبي بلتعة، برسالة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى المقوقس - عظيم القبط بمصر – قال له: "ونحن لا ننهاك عن دين المسيح، وإنما نأمرك به"!..
فلما حرر الفتح الروماني مصر من الرومان، وجدوا كنائسها وأديرتها قد اغتصبها الرومان، واجبروا بطركها "بنيامين" على الهرب أحد عشر عاما، فرد المسلمون كنائس مصر وأديرتها إلى أهلها، وأمنوا بطركها، وأعادوه إلى منصبه ورعيته، وسجل التاريخ "أن سبعين ألفا من رهبان أديرة وادي النطرون ذهبوا – وبيد كل واحد عكاز – إلى عمرو بن العاص، فسلموا عليه، وأنه كتب لهم كتابا بالأمان حفظوه عندهم".
فلما حدث وانحرف أحد ولاة مصر عن هذا المبدأ الإسلامي، تصدى له فقيه مصر العظيم الليث بن سعد، وأفتى "بأن بناء الكنائس يعد من عمارة البلاد". 
ولكن، وفي مواجهة هذا الموقف الإسلامي – الثابت والدائم – ماذا صنع الغرب بمقدسات المسلمين إبان عقود الصراع بين الغرب والإسلام؟ 
لقد حول الصليبيون المسجد الأقصى إلى اصطبل للخيل ومخزن للسلاح عندما احتلوا القدس عام 1099م، وعندما احتل الصليبيون دمياط عام 1218م، لم يكتفوا بنهب نفائس المساجد، وإنما مارسوا اغتصاب النساء في مساجد دمياط! 
وإبان الحملة الفرنسية على مصر عام 1798م، اقتحمت خيول نابليون الجامع الأزهر الشريف، وقتلوا علماءه وطلابه، وداسوا بنعالهم المصاحف وكتب السنة، وربطوا خيولهم في قبلة المسجد، وسكروا وبالوا وتغوطوا بحرم الأزهر الشريف، حتى لقد وصف الجبرتي هذه الجريمة، ثم قال: "إن جيش الرحمن قد أعطى تلك الليلة فسحة لجيش الشيطان"!. 
وكرر الإنجليز هذه الجريمة – جريمة اقتحام الأزهر الشريف – في 11 ديسمبر عام 1919م، أثناء مطاردتهم للمتظاهرين الثوار!. 
وعلى أرض العراق، وفي مدينة "الفلوجة" اقترف الجيش الأمريكي ذات الجريمة عام 2004م، فدمر أكثر من نصف مساجد المدينة، وتم – في هذه المساجد – قتل الأسرى، والإجهاز على الجرحى، والإعتداء على النساء والأطفال الذين احتموا بها!..
بل وحولوا عدد من هذه المساجد إلى ثكنات عسكرية لجنود الإحتلال.
وفي 9 مايو عام 2005م، نشرت النيوزويك الأمريكية خبر وضع الأمريكان – في معسكر جوانتانامو – المصحف الشريف في المراحيض، كجزء من التعذيب للمعتقلين المسلمين هناك!. فهل نحن بإزاء موقفين وفلسفتين من المقدسات؟ وهل ما فعلته إسرائيل هو "القاعدة" وليس "الإستثناء"؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق