غزة ومستقبل الجيوش العربية
سؤال يطرح نفسه بقوة، بعد إنجازات المقاومة الفلسطينية في تصديها للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، حيث دفعت إسرائيل إلى المعركة، بكل آلتها العسكرية فائقة القوة والتطور التكنولوجي، وهي جزء من الثورة في الشؤون العسكرية التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية.
وبالإضافة إلى القوات العاملة، استدعت إسرائيل نحو 82 ألف جندي من الاحتياط، ووضعتهم تحت السلاح، جيش تقليدي حديث على درجة عالية من الكفاءة وحسن التدريب، وقادة محترفون، وأهداف محددة وواضحة، وساحة قتال سبق دراستها والتعامل معها أكثر من مرة.
بالطبع، لا أقصد مديح العدو الإسرائيلي بأي حال!
ولكن فقط توصيف الحالة التي كان عليها، عندما أعلن عن بدء عدوانه على قطاع غزة في الثامن من أغسطس/آب 2014، بعد أن مهد له بعدة ضربات متفرقة، بهدف اختبار موقف المقاومة الفلسطينية، وبتعبير أبسط، جس نبضها، ولكنه لم يتلقَّ رداً، فمضى في تنفيذ خطته بثقة وغرور متناهيين، يدعمه رأي عام داخلي تم تعبئته جيداً، بل والأكثر من ذلك، وللأسف الشديد، كان هناك حشد عربي رسمي يندد بالمقاومة الفلسطينية، بل ويتهمها بالإرهاب وبالنزق.
كل هذه العوامل دفعت بعضهم إلى مطالبة المقاومة بالاستسلام والرضوخ لإملاءات العدو، حتى قبل أن يبدأ عدوانه! وكان مثيراً أن المقاومة لم ترضخ؟
انطلقت الآلة العسكرية الجبارة للعدو، بكل طاقاتها، تصب حممها من صواريخ وقنابل دقيقة التوجيه، ذات قدرة تدميرية عالية، إلى قنابل عنقودية وقنابل حديثة متعددة الأغراض، للتدمير المباشر وللحرب الكيماوية.
وبالمناسبة، كل ما ينتج عنه غازات أو أبخرة أو دخان أيا كان، يندرج تحت أنواع الأسلحة الكيماوية، وجاءت النتائج سريعة، حيث تمكن العدو من قتل البشر، أطفالاً ونساءً ومسنٍين من المدنيين، وحرق الشجر، وتدمير الحجر، وذلك كله من الجو ومن البحر.
وقد أعلن العدو أنه سيبدأ عملياته البرية الكاسحة والحاسمة، وسيدفع إلى معركته بوحدات النخبة من أفضل جنوده، تدريباً وإعداداً وكفاءةً، لاجتياح قطاع غزة، وإخضاع، بل تركيع المقاومة، بعد ضرباته الجوية البحرية التي مهدت لعملياته البرية.
ومن جديد، تعالت الأصوات المرتعشة تحذر المقاومة، وتتوعدها بالثبور وعظائم الأمور إن أضاعت فرصتها الأخيرة في الاستسلام. ومرة أخرى، تعاند المقاومة، وترفض الرضوخ، وترفض الركوع. ويبدأ العدو الإسرائيلي في حملته البرية، أيضاً، بكل ما يمتلك من أدوات وقدرات للقتل والتدمير. ومرة أخرى، جاءت النتائج نفسها، قتل البشر وحرق الشجر وتدمير الحجر.
ولكن، لا المقاومة استسلمت وركعت، ولا الشعب الفلسطيني في قطاع غزة فزع وفرّ في البرية، مستنجداً بالبشرية، لتوفير مناطق اللجوء، وإنقاذه من مقاومته، كما تصور بعض ذوي النفوس والإرادات المريضة والمتهافتة.
ولكن، جاء المشهد مفاجئاً للجميع. العدو الإسرائيلي يسعى، ويطلب، بل ويتحايل على الراعي الأميركي، ومن يعتقد أنهم أصدقاء له من العرب، لكي يتم إيقاف القتال تحت أي مسمى، هدنة أو تهدئة أو أي تعريف آخر.
أما المقاومة الفلسطينية، ومن دون تفاصيل كثيرة قد تؤثر عليها، فإنها فاجأت العالم، قبل أن تفاجئ العدو بأنها، ولأول مرة، كانت قد أعدت نفسها لخوض الحرب الجديدة التي أصبحت عنوان حروب القرن الحادي والعشرين، وهي الحرب اللاتناسقية، وأدارتها بكفاءة واقتدار. وهذه الحرب، باختصار، فن حرمان العدو من استخدام قدراته العسكرية الضخمة في تحقيق أهدافه.وهنا يظهر ما نطلق عليه عجز القوة، فمنذ بداية العدوان، ولأن المقاومة لم يكن في مقدورها مواجهة قدرات العدو الجوية والبحرية، والتصدي لها، اتجهت إلى ضرب عمقه الاستراتيجي والحدود، وهز منظومة الأمن والحماية التي يعيش عليها المجتمع الإسرائيلي كله، إلى درجة إجباره على إغلاق مجاله الجوي، وتوقف الحياة شبه التام، ثم جاء الدور على قوات النخبة البرية التي واجهت عمليات القتال الخفيفة والسريعة، ذات الطابع الفدائي، لتسقط الخسائر بين قتلى وجرحى وأسرى، من صفوة العسكريين الذين يطلق العدو عليهم جيش الدفاع.
ومن دون تفاصيل ليس هذا وقتها، قدمت المقاومة الفلسطينية درساً عملياً رائعاً من دروس الحرب اللاتناسقية الحديثة.
أما بشأن عنوان المقال عن مستقبل الجيوش العربية التقليدية، خصوصاً في ظل طبيعة التهديدات والعدائيات المحتملة، فلا شك أن العدو الإسرائيلي كان يفضل مواجهة أيٍ من تلك الجيوش، لأن المعيار سيكون مرتبطاً بمدى تطور تلك الجيوش، والتحاقها بالثورة في الشؤون العسكرية التقليدية، وهي، بالقطع، لم تلحق بها.
ويبقى السؤال معلقاً، يحتاج إلى بحث ودراسة حقيقية وجادة، لأنه يتعلق بمصير هذه الأمة مجتمعة، ولمستقبل كل دولة على حدة في الوقت نفسه.
ولا نملك سوى تقديم تحية تقدير للمقاومة الفلسطينية، ليس فقط على شجاعتها وبسالتها، ولكن أيضاً على كسرها حاجز التطور والانطلاق نحو مفاهيم وآليات عصر جديد بثقة واقتدار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق