الأبْيَورْدي في مضايا
الحصار الطائفي لأهل مضايا ليس إلا امتداداً للإبادة التجويعية التي تعرّض لها اللاجئون الفلسطينيون (مسلمون سنّة بالطبع) في مخيم تل الزعتر (1976) ومخيمات برج البراجنة وشاتيلا والداعوق (1985-1987) على الأيدي القذرة نفسها.
غير أن البليّة ليست في "المجتمع الدولي" الغارق حتى أذنيه في الهولوكوست الشامي، بل في الأمة المنشغلة بأعداء مصطنعين عن الأعداء الحقيقيين.
نحن الملومون لا سوانا. اكتفينا بذرف الدموع وهي عادة حسنة نجيدها، لكنها لا تكفي لردع التوحش الباطني الذي تضاءلت أمامه الصهيونية.
نحن الملومون لا سوانا. اكتفينا بذرف الدموع وهي عادة حسنة نجيدها، لكنها لا تكفي لردع التوحش الباطني الذي تضاءلت أمامه الصهيونية.
كأن الشاعر أبا المظفر الأبْيَورْدي الذي عاش إبّان الحروب الصليبية ينتقد موقفنا من مضايا في قصيدته التي كتبها عندما احتل الفرنجة القدس (492 هـ، 1099 م)، وكان أقوى أبياتها قوله:
وشرّ سلاح المرء دمعٌ يُفيضُهُ/إذا الحربُ شبّت نارُها بالصوارمِ.
ليس من المروءة أن نشبع، وتجوع مضايا، وهو ما يخبرنا به الأبيوردي: أتهويمةٌ في ظلِّ أمنٍ وغبطةٍ/وعيشٍ كنوّار الخميلةِ ناعمِ؟ يفرّ بعضنا من صور ضحايا الجوع والحصار، متذرّعاً بأن ذلك ينغّص عيشه، ويعكّر مزاجه. لا شأن لي بالسياسة، يقول مبرراً هروبه. لا أريد وجع الرأس، وأنا الذي لا أملك من الأمر شيئاً، يضيف وهو يهمّ بالنوم.
يصرخ الأبيوردي من وراء القرون:
وكيف تنامُ العينُ ملءَ جفونها / على هفواتٍ أيقظتْ كلّ نائمِوإخوانُكم بالشام يُضحي مَقيلُهم / ظهورَ المذاكي أو بطونَ القشاعمِ
يسومهمُ الرومُ الهوانَ وأنتمو / تجرّون ذيلَ الخَفضِ فعلَ المُسالمِ!
نظر بعض العرب والمسلمين إلى الشام بوصفها نائية قليلاً عن بلده، فلم يشعر بالقلق من امتداد لهيبها إليه.
يخاطب الأبيوردي هؤلاء بقوله:
وتلك حروبٌ من يغِبْ عن غمارِها/ليسلمَ يقرعْ بعدها سنَّ نادمِ!
لماذا أسلمْنا الشام للغزاة من الفرس والصفويين؟ أليست هي الأرض المباركة وحاضرة الأمويين؟
يصف الأبيوردي المشهد بمرارة:
أرى أمتي لا يُشرعون إلى العدا/رماحَهمو والدينُ واهي الدعائم ويجتنبون النارَ خوفاً من الردى/ولا يحسبون العارَ ضربةَ لازمِ.
إنه حبّ الدنيا إذن. يا لعار أولئك "النخب" الذين يرون بأعينهم كل صور القتل الجماعي في الشام، فلا يفعلون شيئاً سوى التحذير من خطر "الانجرار" خلف الطائفية، والتشديد على صدق "مواطنة" الشيعة العرب، وكأنّ هذا هو ما يحتاج إليه سياق القتل جوعاً في مضايا على يد شيعة عرب حلّوا يوماً ضيوفاً على أهل تلك البلدة الوادعة في ريف دمشق، فذبحوا لهم الخراف "حباً وكرامة"!
ولا ييأس الأبيوردي من أمته المتخاذلة، فيحاول استثارة حميتها: أترضى صناديدُ الأعاريب بالأذى/ويُغضي على ذلٍّ كماةُ الأعاجمِ؟
في عصر الشاعر لم تكن هناك "الجزيرة" ولا "سي أن أن" لتنقلا إلى غرف النوم مشاهد المذابح التي ارتكبها الصليبيون، وربما لو شاهدها أهل ذلك العصر، ما احتاج الشاعر أصلاً إلى قصيدة. ما العمل إذا لم ينتفض المسلمون نصرةً لدينهم في القدس؟
يجيب الأبيوردي ساخراً:
فليتهمو إذ لم يذودوا حميةً/عن الدين ضنّوا غَيرةً بالمحارمِ!
لكن قد لا يجدي الشعر في استنهاض الأمة للثأر، وهو ما أدركه الشاعر في آخر قصيدته فقال:
لئن أذعنتْ تلك الخياشيم للثرى/فلا عطسوا إلا بأجدعَ راغمِ!
تُرى ماذا سيقول الأبيوردي عن مضايا التي تتضور جوعاً؟ لا ريب أنه سيقف أمام أهلها إجلالاً. لقد هزمهم الجوع، ولكنهم كانوا السبب في وأد أسطورة "المقاومة" إلى الأبد.
تُرى ماذا سيقول الأبيوردي عن مضايا التي تتضور جوعاً؟ لا ريب أنه سيقف أمام أهلها إجلالاً. لقد هزمهم الجوع، ولكنهم كانوا السبب في وأد أسطورة "المقاومة" إلى الأبد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق