الخميس، 11 فبراير 2016

من أم الدنيا لـ أم خريستو

من أم الدنيا لـ أم خريستو

مي عبدالغني
(1)
"يلا يا مي.. يلا يا مي" أحدث نفسي التي وصلت المطار مبكرة بأربع ساعات ونصف، وتنتظر أول رحلة لنا معاً خارج الوطن المحروس، أنا أحاول إقناعها بالإثارة والسعادة والاستمتاع بالتفاصيل، وهي قد رسمت 111 ببراعة أي امرأة مصرية أصيلة نجحت أمها أن تلقنها كيف تحول أي مغامرة لـ نكد منقىّ من أي شوائب ومن جبروتها تستطيع تعبئته وبيعه للمارة.

(2)
وصلنا إلى المطار الأوروبي الصغير الذي يجبرني أن أستغل هذا المنبر لأعتذر لاخواننا جماعة "الفريق شفيق عمل المطار"، وكان لقائي الأول بأثينا البلد عند انبلاج الصباح مصحوباً بألم في بطني حين قررت المجموعة الذهاب وحدنا للفندق بعد غياب الدليل، - رغم استمتاعي بالتجربة – راودتني توقعات مشابهة لمحاولات الوصول من أخر الجيزة لأخر دهاليز عزبة النخل اعتماداً على نصائح المصريين في المواصلات، لكن السيدة أثينا قررت إحباط أمي مجدداً وتركتنا نتنقل بين وسائل المواصلات بخريطة بسيطة من المطار للفندق يأتي الآن الوقت المناسب لاستعمال أكلشيه (زي عندنا بالضبط)!-

(3)
أقف على باب عربة المترو وحولي سبعة رجال، فأتخذ أسلحتي المعتادة، الحقيبة على ظهري يدي مفتوحة في وضع التأهب لـ(اللطش).. بينما باب المترو يتحرك بهدوء سينمائي واصلاً إلى المحطة فيتقدم من أمامي ويكرر من خلفي طلبه أن أتحرك حتى يستطيع الخروج، يمر الجميع بجواري في هدوء ويصعد المنتظرون ببساطة حركت العقارب في صدري "ماذا حدث للناس؟؟ هل سأدخل وأخرج من المترو حية في كل يوم بلا أحدهم يحاول أن يلمسك عسى أن تكوني فضائية مثلا!"، ماذا أفعل الآن بكل الخوف والريبة والتربص الذين حملتهم معي من مصر!

(4)
الطوابير والانتظار في أوروبا يصيب الغلابة أمثالنا بحالة انزلاق حضاري مؤلمة، الناس جميعا على اليمين واليسار فارغ تماما كتقليد أوروبي يسمح للمتعجلين أن يتحركوا أسرع، الانزلاق ألمني جداً كفتاة غير قاهرية عاشت بالقاهرة سبع سنوات حتى صادقت محطات المترو واحدة واحدة، وأمكنها أن تحدد بدقة القدر الذي تحتاجه من التدافع في كل محطة والزحام على السلالم في كل الأوقات باستعمال مهاراتي في الدفع المتوازن؛ ذلك لذا يسمح لك بدفع من أمامك والانسحاب في الوقت المناسب مع ابتسامة بلهاء "أنا ذنبي إيه هم إلّى بيزقوني"، والألطف أن جميع المحطات والأرصفة وكل شيء مجهز لحركة الكراسي المتحركة، حتى إنني استطعت أن أتحرك بحقيبتي الثقيلة دون صعوبة لأول مرة في عمري واحتبس صوتي بالسؤال المتكرر "الآن من الذي اخترع هذا النظام ولماذا يطبقه غالب الناس ببساطة"؟

(5)
نهار خارجي، نتحرك فيه إلى الميدان اليوناني الرئيسي (سينتاجما) فأبدأ فورا بالمقارنة بينه وبين محطة الرمل الإسكندرانية التي تفوق (سينتاجما) - بتاعهم - بالكورنيش ورائحة البحر حتى بالترام القديم والمشاريع المتكدسة بجواره.

وفجأة تأتيني النداهة فتندهني لأنتبه أن صوتي – الذي يشبه نداء أم محمد من نافذة الدورالعاشر للأرضي يومياً وأصوات زملائي هو المسموع الوحيد فى المكان رغم تكدسه بالناس والحافلات والترام والسواح، وقبل أن تغادر النداهة تلفتني إلى أن رئتي مرتاحة تماماً في الشارع الذي يخاصم العوادم والدخان ولا داعي للبخاخ ولا الكمامة، فأنتحي جانباً أفكر كيف أعود لشارعنا الآن وبأي وجه أستقبل شكمانات القاهرة الصديقة؟

(6)
ليل خارجي؛ كذلك في قلب المدينة العتيق حيث يرتفع معبد البارثينون فوق هضبة الأكروبوليس وتنتثر البيوت المسقوفة بالأحمر على طول الهضبة، وعلى رصيف مرتفع بميدان مونسترايكي يجلس بعض المصريين في قمة استمتاعهم بـ درة المدينة (إنترنت مجاني بالميادين ياخواجة).

أرفع ملعقة من الزبادي المثلج بالفواكه إلى فمي وأحاول تجاهل المتسولين بهدوء، وفي منتصف المشهد يقترب عامل جمع القمامة من مجموعتي حاملاً منديلاً ورقياً ملقى بالقرب منا؛ يلوح لنا الرجل بالمنديل غاضباً وموضحاً أن إلقاء القمامة عيب وحرام.. نحاول إقناعه أننا لسنا نحن من ألقينا بالمنديل والمكان ممتلئ عن أخره بالسياح، فيرطن باليوناني في غيظ بينما يمسح رأسي الميدان – لا عرب غيرنا بالمكان ما يجعلنا مرشحين ممتازين لتهم الفوضى وانعدام النظافة-!

في خلفية المشهد لا أنسى أن أستوعب غضب الرجل فهذا المنديل كان أول وأخر شيء أشاهده ملقى على الأرض طوال خمسة أيام، حاولت كثيراً أن أتصيد مواطناً بليداً يلقي بالقمامة خارج الصناديق أو عاملاً بليداً لم يلتزم بدوامه وينظف المكان فأضفت هذا إلى كتاب فشلي في أراضي اليونان.

(7)
لا يختلف البشر كثيراً –فيما عدا ظاهر الأجساد وما تربوا عليه- ، على مقاعد المترو تجاورني من استيقظت مبكراً وتزينت لتلحق بعملها ومن تسرع الخطو دوماً على يسار السلالم وتلحق بباب العربة وهو يغلق وتكمل تصفيف شعرها في مرآة الحقيبة الصغيرة، الحامل التى تتناقش مع زوجها فيما يمكن اقتناصه من تخفيضات كارفور والثنائي الذي يظهر الحب علناً. من ينظر إلى حجابي بريبة وتربص ومن يبتسم بترحاب يعكس انفتاحه على الغرباء ويحييك بـ "صباح الفل" و "شكرا" "ازيك" بلكنة غربية محببة.

"ديمتري" سائق الأتوبيس السياحي يصر على أن أدفع نصف ثمن التذكرة فحسب لأني لن أستمتع بالجولة كاملة وأن أخبر زميله بتوصيته تلك، و ترشدني إليزابيث إلى مقصدي ثم تستقبلني بابتسامة واسعة ونحن نتجاور صدفة داخل المترو ليأخذنا الحديث تماماً عن محاولتها أن تبدأ من جديد ومحاولتها الانتقال إلى بلد جديد وتعلم لغته –وهي الألمانية في أربعينيات العمر- وعن شغفي بالكتابة والصحافة حتى هيئ لي أننا نتحدث نفس اللغة ونعرف بعضنا لزمن.
الإيطاليتان اللتان أصرتا أن أقاسمهما الغداء، وسابينا المتحيرة بشأن مستقبلها الجامعي وخطتها في السفر حول أوروبا التي تحتاج مالاً لا تملكه.

(8)
خيالاتي تحلق في الإنسانية جمعاء وأنا أرى بعض الملامح العربية من حولي وأتفكر في أصول أجدادهم متمتمة "هو إحنا مش هنقعد ولا إيه" فيرد علي الغريب بالعربية "تعالي اقعدي يا أنسة" ويتكرر الموقف بحذافيره مرتين حتى انتفى عجبي وأنا أبرطم وسط حقائبي فيسألني أحد المارة "بدك شي يا أختي سمعتك بتقولي محتاجين مساعدة"، حتى فتى الشاورما اللطيف يصبح "محمد من المنصورة الذي نجا من قارب الهجرة كأسلافه الباقين".

نهرول للحاق بأخر مترو في 11 مساءً إذ ينتهي كل شيء تماماً في الـ 12 صباحاً بلا أي مواصلات عامة سوى التاكسي وتسبقهم المحال التجارية في السابعة مساء يومياً، فلا يدوم أي مظهر للحياة سوى تجمعات السائحين والنوادي الليلية والمتشردين في الشوارع، أحدق في الشوارع شبه الفارغة من نافذة الفندق فتجبرني أن آتحسر على محاولاتي اللولبية للنوم في العاصمة بينما تغلق المحال والورش الصباحية ليبدأ المقهى نشاطه الليلي، لا أملك إلا أن أتأمل رد محمد على سؤالي الساذج "أنا اتمرمطت أه بس دلوقت على أد ما بشتغل بأخد، وبعمل الي علي فبأخد إلى لىِّ، أزعل على مصر ليه"؟
(9)
أخبرني ديمتري أنني سأجد تردداً باللغة العربية على خدمة الأتوبيس اليوناني السياحي فلما بحثت عنه طويلاً ولم أجده، أشار بثقة إلى العلم الإسرائيلي في قائمة اللغات وإلى الصوت العربي الذي ينطلق عند الضغط عليه، ثقة جعلتني أخبره أن العرب فقط يتحدثون العربية وابتلعت باقي الحديث المبتور ببعض الماء لئلا يقف في حلقي.

وقبل المغادرة تماماً يا صديقى تهت بين الأسر السورية التي وصلت للتو من حملات الإنقاذ البحري إلى الميناء اليوناني "بيريوس" وتوسدت الشارع فيما أسرع من سبقهم بلصق بعض اللافتات بالعربية على حوائط المحلات - تنبئ بوجود طعام وخدمات للعرب بالجزيرة-.

الصغيرة "تالة" الرائقة كالصباح تاهت مني كذلك في الشوارع فرحلت إلى طائرتي ومعي الدمية أسرح في ضحكتها القماشية.

أنحني لأناول أماً جواز السفر الذي أسقطه طفلها وأبتسم؛ تجمد ملامحها وهي تأخذ مني جواز السفر الإسرائيلي لصاحبته المستوطنة وتخبر الضابط في سعادة أنها تقطن حيفا.. أتسمر إلى أن تنبهني ضابط التفتيش بندائها "حاملي الجوازات الإسرائيلية يمرون أولاً".

(مصر)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق