مأزق المترقب
3 من جمادى الآخرة 1435هـ
الحمد لله وبعد:
واضعا يده على ذقنه يتفرج باهتمام بالغ على مشروعات العلم والدعوة والثقافة والحقوق تتسابق فعالياتها بين ناظريه .. هو يعرف أسماءها جيدا، وفي أيام مضت تواصل مع بعض رجالات الإنتاج في هذه المشروعات، بل له الآن علاقات طيبة مع بعضهم، وبحوزته أيضا رقم الهاتف الخاص ببعضهم، كما أن أحدهم دعاه يوما إلى مجلس ضم بعض هؤلاء المنتجين، بل هو لا يزال يتذكر أنه أرسل إلى بعضهم رسالة جوال أو بريد إلكتروني ورد عليه، لكنه إلى الآن ليس جزءا من أي مشروع، ولم يبدأ الخطوة الثانية في أي حلم سبق أن فتح له ملفا في جهازه المحمول.
هذه أزمة الإنسان المترقب، الذي تململت من جلوسه مدرجات المتفرجين، وما زال متفرجا.
الإنسان المترقب قد يكون يرفل في ربيع العمر ويحرق سنواته الذهبية، بلا مبالاة، كمن يشعل سيجارة لصديق وضع يده على جيبه ولم يجد ولاعته، وأخذ ينفث الزمن في الهواء.
الإنسان المترقب حدث تحول مهم في حياته، كان يتابع الجدل والردود المتبادلة ونقائض التيارات عبر المنتديات الإلكترونية، ثم صار اليوم يتابعها عبر شبكات التواصل، هذا كل ما في الأمر.
الإنسان المترقب قد يكون في المسجد يراجع حفظا أو يذكر الله، فتنسل يده لجواله وينقر أيقونة شبكات التواصل، ويخرج من المسجد وهو فيه، أتى إلى المسجد لتغتذي روحه العطشى بذكر الله، لكنه دخل المحراب بجسده ثم قذف بروحه في العراء خارج الأسوار.
هل هذا يعني أن الإنسان المترقب هو كائن معزول الإحساس بالزمن؟ هل المترقب عديم الأحلام والطموحات؟ لا، بل هو يتحرق كثيرا، ويتمنى أن يصنع شيئا لنفسه وللآخرين، ولكنه واقف كالمشلول. لماذا؟ المترقب نفسه لا يدري.
حين يكون المترقب في مجلس ذكر عن قيام الليل تشتعل همته للمناجاة في هزيع السحر، وحين يكون المترقب يستمع لدرس عن فضل العلم ومناقب المعرفة يكاد يمضغ ذاته حماسة، ويتخيل نفسه قد حبس عليه غرفته بين أرفف مكتبته، لكن ما إن يتجاوز لهيب الحماسة حتى يتبدد كل شيء ويعود لذات برنامجه اليومي في التفرج على المنتجين.
لدى المترقب مشكلة يمكن تسميتها مشكلة "ترحيل المهام"؛ فحين كان المترقب في المرحلة الثانوية كان يحدث نفسه بأنه إذا انتقل للجامعة وصار له استقلال وحرية أكبر فسيبدأ مشروعات علمية وعملية، ولما بدأ الدراسة الجامعية صار يقول لنفسه: متى ينتهي ضغط المذكرات والبحوث وتحضير المحاضرات والاختبارات، وتبدأ مرحلة المهنة، وأتفرغ لمشروعاتي العلمية والعملية؟! وهو يقولها صادقا، ولما بدأت مرحلة المهنة؛ أصبح يقول لنفسه: بعدما أنتهي من هم الزواج والمسكن والاستقرار المادي سأبدأ -بإذن الله- تنفيذ خططي وأحلامي العلمية والعملية، ثم أنخرط في مسؤوليات الأسرة والأبناء ومتطلبات المهنة، حتى طوح به العمر خارج الموسم الذهبي للإنتاج، وصار يقول لنفسه: ذهب وقت التحصيل والبناء "وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر".. وهكذا أحرق المترقب عمره عبر آلية "ترحيل المهام"..
يشتكي البعض ويقول: إن شبكات التواصل أو تصفح الإنترنت جذاب، ويشغلني عن مشروعات علمية كثيرة، ربما يكون هذا الكلام يتضمن توصيفا دقيقا للمشكلة، ولكن لي رأي آخر، رأيي أن كثيرا من الملهيات عن العلم والعمل ليست جذابة أصلا، وإنما هي في حقيقتها وسيلة "هروب نفسي" عن المهام الواجبة.. ألا ترى أنك أيام الاختبارات تدع المذكرات وتقرأ بعض الكتب التي كنت منشغلا عنها خارج الاختبارات؟ ألا ترى أنك إذا بدأت بكتاب في علم معين، صارت نفسك تحدثك بمطالعة كتاب في علم آخر لم تكن لتطالعه قبل ذلك؟
صحيح أن حالة التفرج والترقب هذه فيروس خطر يهدد حياة كل واحد منا، لكن الشاب الذي يعيش المرحلة الذهبية للتحصيل العلمي هي في حقه أفظع وأكثر خطورة، فقد أصبح كالمزارع الذي نام على البذور حتى فات الموسم.. فالمرحلة الذهبية للتحصيل العلمي هي مرحلة الذروة في قوة الملكات.. وأي غبن أن تبدأ المعركة بعد أن تخور قواك؟..
ومن تأمل الليل والنهار الذي نعيش فيه، وكيف نتقلب في أيامه، ثم رأى قسم الله سبحانه بهذا الزمن {والعصر} [العصر: 1] امتلأ قلبه بإدراك شرف "الزمن".. وأنه في كل ثانية ودقيقة وساعة ينفق من (رصيد زمني) منحه الله إياه، وكتبه الملك حين كان جنينا عمره أربعة أشهر.. لا شيء ساكن في حياتك.. أنت في كل لحظة تنفق من رصيدك الزمني.. فإما أن تشتري به علما وعملا رابحا.. أو يذهب في الترقب والتفرج في صفقة خاسرة..
وأزمة الخسارة والغبن في استثمار هذا الرصيد الزمني هو الذي أشار له الحديث الذي رواه البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ )) [البخاري:6412].
ويبدو أن هذه الأزمة -أعني: أزمة الترقب والتفرج- قريبة من (الحالة السبهللية) التي وصفها الفاروق عمر بن الخطاب في الأثر المروي عنه: (إني أكره الرجل يمشي سبهللا، لا في أمر الدنيا، ولا في أمر الآخرة).
وهناك منظومة في الآداب مشهورة لابن عبد القوي -رحمه الله- جمع فيها في بيت واحد حديث البخاري وأثر عمر؛ حيث قال -رحمه الله-:
ولا يذهبن العمر منك سبهللا ** ولا تغبنن في النعمتين بل اجهد
ومن أكبر عوامل الحالة السبهللية هي مشكلة "التقطع"، ومرض الترحل في أنصاف المشروعات.. ولعلك تتذكر أن العلامة ابن عثيمين يمثل مشروعا فقهيا مكتملا.. فبالله عليك لاحظ كيف يشرح فكرة نبعت من خبرته الطويلة؛ حيث يقول في كتابه الذي جمعه من خطبه، وسماه الضياء اللامع:
(وإن من الحكمة أن من ابتدأ بعمل وارتاح له فليستمر عليه، فمن بورك له في شيء فليلزمه، وبعض الناس يبدأ الأعمال ولا يتممها، فيمضي عليه الوقت سبهللا من غير فائدة، فمثلا يقرأ في هذا الكتاب أو في هذا الفن، ثم يدعه من غير أن يكمله، وينتقل إلى غيره، ثم إلى آخر، من غير تكميل الأول؛ فيضيع عمله، وينقضي عمره بلا فائدة، وكذلك في الأعمال الأخرى كل يوم له عمل، وكل يوم له رأي، فيضيع الوقت عليه من غير فائدة).
هذه حكمة عصرتها الخبرة يشرحها فقيه حدد هدفا علميا رفيعا، وبلغه فعلا.. وليست نظرية يتاجر بها منتسب لعلم النجاح في قاعات الفنادق..
ومن الظواهر المثيرة للغرابة فعلا، أن أزمة المترقب لم تعد مقتصرة على إحراق الوقت في متابعة الجدليات والمناقضات عبر شبكات التواصل، بل أصبحت مثل هذه المماحكات التويترية مادة للحديث في بعض مجالس الأخيار، رد فلان على فلان بتغريدة قوية، وتفكه فلان على فلان بتغريدة مضحكة، وقصف فلان جبهة فلان، وهكذا، يا ضيعة الأعمار.. ويا سقى الله أياما كان المجلس فيها نقاشا عن ترجيحات ابن تيمية، ومسلكيات ابن القيم ومنهج المتقدمين في الحديث وفقه المعاملات المعاصرة وأخبار القوم من سير النبلاء..
حدثت نتوءات في لا وعي المترقب، وبثور في ذوقه، وترهل قدراته الذهنية؛ تزامنت مع متغيرات نظم الاتصالات الحديثة.. ففي بداية فتوة المترقب كان يحضر بعض الدروس المتخصصة، ويقرأ بعض الكتب الراقية في لغتها ومحتواها.. وبعد أن لبس المترقب نظارة شبكات التواصل، وأدمنها، كثرت تبعا لذلك قراءته للتلفظات السوقية، والمخاشنات الحوارية.. حتى تدهور ذوقه وتخلخلت تلك الروح الجمالية التي كانت تلهمه في النظر لذاته ولمن حوله، واستسهل من النابيات ما كان يشمئز منه..
وكثير من الناس يظن التأثر هو بمدى القناعة بالمقروء من عدمه، وهذا غير دقيق، فنمط المادة المقروءة ونوعها إذا كثر يؤثر في القارئ دون أن يشعر حتى لو لم يكن مقتنعا بها، ولذلك قال أبو العباس ابن تيمية (من أدمن على أخذ الحكمة والآداب من كلام حكماء فارس والروم، لا يبقى لحكمة الإسلام وآدابه في قلبه ذاك الموقع، ومن أدمن قصص الملوك وسيرهم، لا يبقى لقصص الأنبياء وسيرهم في قلبه ذاك الاهتمام، ونظير هذا كثير) [الاقتضاء:1/543].
وكما كانوا يقولون للمسافر للخارج: "احذر المرأة الأولى والكأس الأول"، فما أقرب أن يقال للمنخرط في شبكات التواصل: "احذر الشتيمة الأولى"، ولقد رأيت إخوانا لي كانوا من أبعد الناس وأكثرهم نفورا عن الردود الفجة والكلمات النابية، ثم مع كثرة تعرضهم لمناقشين غير راقين، تساهلوا مرة في رد خشن، ثم تبعها أمثالها، وذهب الحاجز بينهم وبين هذه الأساليب، وصرت إذا ناقشته في أسلوبه الجديد قال لي: "هناك أناس لا يفهمون إلا هذه اللغة" فانظر كيف وقع في سلوك جديد شرعنه لنفسه لم يكن ليقع فيه مسبقا بسبب كثرة جلوسه في طرقات شبكات التواصل، وتعرضه المستمر لتدفق ردود بمستوى هابط.
وهكذا القدرات الذهنية؛ فهي ليست شيئا مختلفا كليا عن القدرات البدنية، بل كثير من القوانين التي تجري على القدرات البدنية تجري ذاتها على القدرات الذهنية، ومنها قانون (اللياقة)، فعضلات الجسم تترهل وتضمر إذا لم يمارس الإنسان التمارين البدنية، وهكذا القدرات الذهنية تضمر وتضعف إذا لم يمارس العقل المران الذهني العميق، ولذلك كان لفظ الرياضة في التراث الإسلامي يشمل ثلاثة مستويات: البدن والذهن والنفس، كما يقول ابن تيمية في الرد على المنطقيين (لفظ الرياضة يستعمل في ثلاثة أنواع: "رياضة الأبدان" بالحركة والمشي، و"رياضة النفوس" بالأخلاق الحسنة، و"رياضة الأذهان" بمعرفة دقيق العلم، والبحث عن الأمور الغامضة).
وكانت رياضة الذهن وتمرينه، وبناء القدرات العقلية مسألة حاضرة لدى المتقدمين من السلف كما قال ابن تيمية في كتابه السابق ذاته: (كان كثير من علماء السنة يرغب في النظر في العلوم الصادقة الدقيقة كالجبر والمقابلة وعويص الفرائض والوصايا والدور، لشحذ الذهن).
والمراد أنه إذا طال فراق المترقب للكتب والبحوث الدقيقة وتوليد المفاهيم وتمحيص الاستدلالات وحل الإيرادات، وصار زاده المعرفي تغريدات أفقية، وطالت هذه الحال، ضمرت قدراته الذهنية، بل يتطور الأمر إلى حالة أخطر، وهي كونه ينفر من المسائل العلمية الدقيقة وينفد وقود احتماله وطاقة التركيز لديه، ويصبح عقله يعمل بنظام الوجبات السريعة..
أخي المترقب.. أنا ناصح لك، وأحب الخير لك، صدقني أنت تحتاج التوقف سريعا، وتغيير نمط حياتك، وأسأل الله أن نرى منتجاتك العلمية والعملية قريبا، والله يسددك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق