النيجر والسنغال وموجة التحرر من الاحتلال الفرنسي
رغم أن الأوربيين الذين احتلوا إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية بمزاعم الاستعمار سحبوا جيوشهم من الدول المحتلة، فإن فرنسا هي الدولة الوحيدة من العصر الاستعماري التي أبقت على جيوشها في إفريقيا، وأقامت قواعد عسكرية في غرب القارة وشرقها، وتدخلت عسكريا ضد كل الحكام الذين فكروا في الاستقلال، فدبرت الانقلابات، واتُّهمت باغتيال السياسيين وقادة التحرر، وزوَّرت الانتخابات ونصبت حكّامًا من النخب التابعة لها.
منذ عامين عندما تمردت مالي وبوركينا فاسو على الهيمنة الفرنسية، وقام القادة الجدد في البلدين بطرد الجيش الفرنسي، وسط تأييد شعبي غير مسبوق، كان واضحا أن شعوب دول غرب إفريقيا لم تعد قادرة على الصبر أكثر من ذلك، وأن موجة التحرر ستستمر؛ فالأجيال الجديدة أكثر وعيا وأشد حماسا للاستقلال، وهناك إصرار على إنهاء أسوأ حقبة استعمارية حكمت بلادهم بالحديد والنار.
لقد شهد هذا الأسبوع انقلابا عسكريا في النيجر أطاح بالرئيس المدني محمد بازوم الذي جاءت به فرنسا في انتخابات شكك فيها المعارضون، وشهدت السنغال -بتحريض فرنسي- اعتقال زعيم المعارضة عثمان سونكو المرشح الرئاسي القريب من الفوز لمنعه من خوض الانتخابات، لموقفه المعلن ضد الوجود الفرنسي ووعوده بالخلاص منه وطرد الفرنسيين.
الغضب في فرنسا وأوربا وأمريكا من الانقلاب العسكري في النيجر والتهديد والوعيد بالتدخل العسكري لإعادة الرئيس المعزول يكشف طبيعة التحولات التي تشهدها القارة الإفريقية، فالاحتلال الغربي يلفظ أنفاسه الأخيرة أمام شعوب ترفض البقاء في العبودية، وتأبى الخضوع للمستعمر، وترفض الحياة في الفقر بسبب النهب المتواصل للثروات، وأصبحت حركة الخلاص من الاحتلال الفرنسي الغشوم أكبر من أن يتم الهروب منها أو التحايل عليها.
القلق الغربي من تحرر النيجر
رغم أن قادة الانقلاب في النيجر لم يظهروا توجهاتهم والتزموا الصمت، وحرصوا على أن يكون انقلابهم سلميا؛ فإن ردّ الدول الغربية يكشف عن حالة القلق والفزع من تغير السلطة في البلد الذي انتقلت إليه الجيوش الفرنسية بعد طردها من مالي وبوركينا فاسو، وتتشارك معها القوات الأمريكية التي لها قواعد أيضا في ذات البلد.
أعلنت الحكومة الفرنسية أن باريس لن تعترف بـ”المجلس الوطني لحماية الوطن” الذي أعلن عن تشكيله قادة الانقلاب كسلطة شرعية، وقال الرئيس الفرنسي ماكرون أن “هذا الانقلاب غير شرعي بتاتًا وخطير للغاية على النيجيريين والنيجر والمنطقة بأسرها”، كما دعا مجلس الأمن إلى الإفراج الفوري وغير المشروط عن الرئيس محمد بازوم الذي أطيح به، وأدان “المساعي الرامية لتغيير السلطة الشرعية للنيجر على نحو غير دستوري”، ورفض الاتحاد الأوربي الاعتراف بالانقلاب وقرر تعليق إجراءات التعاون في مجال الأمن إلى أجل غير مسمى.
وأعلنت وزارة الخارجية الأمريكية أن الوزير أنتوني بلينكن اتصل برئيس النيجر المخلوع تليفونيا وأكد له أن أمريكا ستعمل على ضمان استعادة النظام الدستوري بالكامل، وقال المتحدث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض، جون كيربي: “نذكّر أولئك الذين يحاولون الاستيلاء على السلطة بالقوة أن إطاحة الرئيس المنتخب ديمقراطيا ستعرّض تعاون الولايات المتحدة الكبير مع حكومة النيجر للخطر”.
التهديد بالتدخل العسكري
مع إصرار قادة الانقلاب على موقفهم وتماسكهم بدأ الرد يتطور بالتهديد بالتدخل العسكري، فكان بيان المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) الذي أمهل المجلس العسكري الجديد أسبوعا لإعادة بازوم وإلا فسيتم استخدام القوة لإعادته، وتصاعد الرد الفرنسي ليصل إلى التهديد بالتدخل العسكري ببيان للرئاسة الفرنسية، أكد أن أي هجوم على مواطنين فرنسيين أو مصالح للبلاد في النيجر سيتبعه ردّ فوري وحازم.
يأتي الانزعاج الغربي من انقلاب النيجر لما سيترتب عليه من رحيل الفرنسيين من آخر دولة مهمة في الساحل الإفريقي، وتفكيك منظمة إيكواس التي أسستها فرنسا لحراسة المصالح الفرنسية، لتقوم بدور الوكيل الذي يتصدى لمحاولات التمرد بفرض العقوبات والحصار والتدخل العسكري دفاعًا عن فرنسا، كما أن الولايات المتحدة التي لها قوات تابعة لها ولحلف الناتو ستضطر هي الأخرى إلى الرحيل من النيجر في حالة استقرار الحكم الجديد.
نجاح الانقلاب في النيجر سيعزّز قوة مالي وبوركينا فاسو ويزيد التكتل الإفريقي الذي يقف ضد فرنسا، خاصة أن التطورات في المنطقة تساعد على هذا الاتجاه، فالجزائر شمالا تسير بقوة للتحرر من نفوذ فرنسا، وفي ليبيا فشل المشروع الفرنسي الداعم لحفتر وتم طردها بعد التدخل التركي، والسنغال الذي يعيش ثورة شعبية في طريقه إلى التحرر، رغم ما يجري من محاولات لمنع الشعب من انتخاب الرئيس المستقل.
هذا التكتل الصاعد المؤيَّد جماهيريًّا سيكون القاطرة التي تسحب باقي الدول المجاورة، للخروج من قبضة الفرنسيين، وبالتخلص من التهديد العسكري الذي تشكله القوات الفرنسية والأوربية المتحالفة معها سيكون سهلا التخلص من الهيمنة الاقتصادية، التي جعلت البنك المركزي الفرنسي هو المسيطر على الاقتصاد في هذه الدول.
الاستعانة بالروس
وقد التقط الرئيس الروسي هذه الفرصة التي لا تكلفه الكثير للدخول في هذه المنطقة على حساب فرنسا، وأعلن في القمة الروسية الإفريقية التي عقدت الأسبوع الماضي عن توفير الدعم العسكري لمواجهة ما سماه “الاستعمارية الجديدة” وتعهد بتقديم الحبوب مجانًا، وإسقاط 20 مليار من ديون بلاده على إفريقيا، والأهم هو استخدام العملات الوطنية في تسوية المدفوعات مقابل الروبل.
يأتي لجوء القادة الأفارقة الجدد إلى التعاون مع روسيا لضمان الفيتو في مجلس الأمن ضد العقوبات، ولضعف قوتهم العسكرية في مواجهة الجيش الفرنسي، لتعمد الفرنسيين الإبقاء على هذه الجيوش بلا قوات جوية وبدون دفاع جوي، وتسليحهم بما يجعلهم فقط قوات لمكافحة الإرهاب الذي تغذيه فرنسا ليكون مبررا لبقائها في المنطقة إلى الأبد، والروس هم البديل العسكري المناسب في الوقت الراهن؛ فالصين تتعاون اقتصاديا فقط، وتركيا هي القوة الصاعدة التي قدمت لهم بعض الأسلحة الذكية مثل الطائرات المسيّرة لكن القيود والحواجز تمنعها من تقديم أكثر من ذلك.
القادم في إفريقيا لصالح الاستقلال ونهاية ما تبقى من الاستعمار، وعجلة التغيير دارت ولن تستطيع فرنسا وقفها، وإن لم يفهم الفرنسيون أن اللعبة انتهت ويتعايشوا مع الواقع الجديد فسيدفعون ثمنا باهظا أكثر من خسائرهم المؤكدة بسبب رحيلهم التام، لأن معركتهم مع الشعوب وجهًا لوجه، ولم تعد النخب التابعة قادرة على مواصلة دور الحراس لمصالح الفرنسيين على حساب الشعوب التي تم تجويعها وإفقارها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق