أين ذهبت الطبقة الوسطى في مصر؟
في "قارة" يسكنها أكثر من 100 مليون شخص، يرضخ ثلثهم تحت خط الفقر، ويتربّع أقل من عشرهم في الأدوار العليا من السلم الاجتماعي، فإنّ أكثر من نصف السكان يرقصون بين هذا وذاك، أو كما نقول "يرقصون على السلم" بالفعل، ليسوا تابعين للأسفل، ولا واصلين للأعلى، لا يسمح لهم كبرياؤهم، وجهدهم، وتعليمهم، بالاعتراف بالهزيمة والانحدار إلى الطبقات الدنيا، ولا يسمح لهم وضعهم، وراتبهم، ومعارفهم، بالطموح في النظر إلى الأعلى.
كنّا، ونحن أبناء طبقة وسطى، حسب الوضع الاجتماعي المصري، قادرين على الذهاب إلى مصيف لمدة أسبوعين كلّ عام، وشراء تلفزيون بالألوان، والخروج في نزهة كلّ عدّة أشهر، وشراء ملابس جديدة في العيد، والتمتّع بحقيبة جيّدة للمدرسة، واصطحاب كيس معقول من السندوتشات كلّ يوم، ويستطيع أبي (الذي يعمل فترتين إضافيتين في اليوم) أن يضحّي بربع جمَل في عيد الأضحى، وأن يدّخر قليلًا من المال للطوارئ، التي على أيّ حال تستدعي الاحتياطي كلّه حال حدوثها، فضلًا عن الاستدانة، والأهم من ذلك كله أننا نملك بيتنا الذي نعيش فيه.
وأعرف أنّ هذا لن يكون نفسه تعريف الطبقة الوسطى في بلدان أخرى، لكنه في مصر، مُرضٍ على كلّ حال. لكن اليوم، لن تستطيع ملاحظة أبناء الطبقة الوسطى لتصنيفهم، إما أن تجد أطفالًا يذهبون إلى مدارس دولية يدفعون فيها نصف مليون جنيه في العام الواحد، أو تلاميذ يُساقون كالغنم إلى مدارسهم في أزياء مهلهلة ومرقعة من العام الماضي، ولم تعد السندوتشات مثلًا عادة غذائية في المتناول بالنسبة لهم.
الموظفون لن يستطيعوا الخروج في مصيف كانوا يخرجون إليه قبل عشر سنوات، الأطباء لن يستطيعوا شراء بيوت ولا توسيع عيادة ولا المشاركة في مستوصف طبي، من خلال كشوف المرضى، فضلًا عن الراتب الحكومي الذي لن يكفي شراء سماعة طبية جديدة، ولن يستطيع أيّ أحد من الذين كانوا في ذلك التصنيف أن يحافظ على المستوى الاجتماعي الذي كان يجلس فيه مرتاحًا، بعد مضيّ سنوات عشر على وضعهم القديم.
لا يسمح لهم كبرياؤهم، وجهدهم، وتعليمهم، بالاعتراف بالهزيمة والانحدار إلى الطبقات الدنيا، ولا يسمح لهم وضعهم، وراتبهم، ومعارفهم، بالطموح في النظر إلى الأعلى
اليوم يكافح المتساقطون من الطبقة الوسطى للبقاء في الهواء مدّة أطول قبل الارتطام بالقاع المزري، ولأوّل مرّة يجرّبون أن يريد أطفالهم أحذية جديدة ولا يستطيعون شراءها، أو تريد الزوجة تحديث البرّاد كثير المشاكل وشراء آخر جديد، يختبرون لأول مرّة أن يقولوا "ممعيش" "مش هعرف أجيب" أو "استنى لأول الشهر".
الطبقة الوسطى في مصر باتت تستخدم الآلة الحاسبة أكثر من اللازم، وبصورة أكبر مما اعتادت عليه من قبل، بكثير، لحساب الفواتير والمصروفات والديون واللوازم والطلبات، ثم يستخدمها الأب وحده في المواصلات، لحساب راتبه: كم أصبح يساوي بالدولار حسب السعر الحقيقي في السوق السوداء؟ ثم يستخدمها ثالثًا في خلواته قبل النوم، وبعدما نامت زوجته من الهمّ، لحساب ما يفصله بالكاد عن السقوط في خط الفقر، باحثًا بضراوة عن وظيفة ثالثة، تقيه السقوط الحرّ.
لم تذهب الطبقة الوسطى إلا لواحد من مكانين، وبنسب متفاوتة؛ القلّة القليلة جداً، من أصحاب العلاقات، وأقارب الرتَب، ومن استطاعوا الفوز بمصالح مع المقرّبين من الحكم، استطاعوا ربّما بقدرة قادر أن يفلتوا وينتقلوا إلى أعلى الهرم، ضمن الطبقة المخملية التي تستحقر وفودهم الجديدة إليهم، لأنهم محدثو نعمة، ويبدو ذلك في تصرّفاتهم الإجرامية التي تصبح تريندات في مصر، يلوّث ذكر "مدينتي" الفاضلة أو المجتمعات التي فوقها.
أما الأكثرية الباقية من الطبقة الوسطى، فقد رُحّلت رسميًّا إلى المهدّدين بالوقوع من على حبل الفقر، إلى جهنم التي يعاني منها 50 مليون مصري تقريبًا، يبحثون عن قوت يومهم كلّ صباح، ولا يعودون إلا بفتات يهدّد أمنهم الغذائي ونظامهم الصحي، وبقاءهم على قيد الحياة، أو على الأقل بقاء عقولهم قادرة على التفكير واستيعاب الوضع.
في النهاية، يمكنك التأكد من أنّ هذا الكلام ليس "أخبارًا كاذبة" حين تنزل إلى القاهرة والأقاليم، وتنظر في عيون الناس بينما تسألهم "أين ذهبت الطبقة الوسطى في مصر؟".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق