انقلاب النيجر.. معركة بين “باطلين”
كانت الانقلابات العسكرية -ولا تزال- هي المرض الخبيث الذي يفتك بجسد إفريقيا وشعوبها، وتُصنَّف القارة بأنها الأعلى عالميًّا في معدلات الانقلابات، حتى يقال من باب السخرية إن أي عسكري يستيقظ مبكرًا يستولي على الحكم، وفي السنوات الثلاث الأخيرة اجتاحت القارة موجة جديدة من الانقلابات، شملت مالي وبوركينا فاسو وغينيا والسودان، وأخيرًا الانقلاب الذي جرى في النيجر يوم 26 يوليو/تموز ضد الرئيس المدني المنتخب قبل عامين.
جاء الانقلاب على خلفية صراعات نفوذ بين الرئيس المدني (محمد بازوم) الذي ينتمي إلى أقلية عربية وقيادات سياسية وعسكرية تنتمي إلى أغلبية (الهوسا)، ومخاوف تلك القيادات من مساعي بازوم لتوسيع نفوذه على حسابها، وإقالة عدد من الموالين للرئيس الأسبق محمد إيسوفو ومخاوف قائد الحرس الرئاسي نفسه من الإقالة، لكن العسكريين الذين قادوا الانقلاب روجوا رواية تدغدغ عواطف شعبهم أو قطاعات كبيرة منه، وهي التخلص من النفوذ الفرنسي في البلاد، على الطريق ذاته الذي سلكه عسكريو مالي وبوركينا فاسو قبلهم.
تحركات غربية
النفوذ الفرنسي ليس خافيًا على أحد، حيث تَعُد باريس النيجر ركيزتها لتحقيق أهدافها الاستراتيجية في غربي إفريقيا بعد خسارتها كلًّا من مالي وبوركينا فاسو، ولذلك فهي تحتفظ بأربع قواعد عسكرية، كما أن النيجر تمتلك ثاني أكبر احتياطي عالمي من اليورانيوم، وهي التي تغطي 35% من احتياجات المفاعلات النووية الفرنسية، ناهيك عن احتياطاتها من الذهب ومعادن أخرى.
لا يقتصر الأمر على الوجود العسكري الفرنسي، بل تحولت النيجر إلى قاعدة رئيسية لحلف شمال الأطلسي (الناتو) في تحركاته لمواجهة الحركات الإسلامية المعادية له في إفريقيا، والحال كذلك فإن التحرك لمواجهة هذا النفوذ الفرنسي الغربي أو بقايا الاستعمار هو تحرك مشروع، ولكن في الوقت نفسه فإن الانقلاب العسكري الذي يرفع لواء هذا التحرك ليس بالضرورة صادقًا في شعاراته، وقد فعلتها انقلابات سابقة في دول إفريقية ما لبث قادتها أن تحولوا إلى أصدقاء للفرنسيين أو للغرب عمومًا بعد تمكنهم من السلطة.
ما لفت الانتباه في انقلاب عسكر النيجر هو تلك الانتفاضة الغربية ضده، وهو ما لم يحدث مع انقلابات أخرى في إفريقيا أو آسيا، لم ننس بعد أن الغرب مرر الانقلاب العسكري في مصر في 2013، كما مرر انقلاب العسكر في تايلاند بعد ذلك بعام واحد، ومرر العديد من الانقلابات الإفريقية الأخرى كما حدث في مالي وبوركينا فاسو وغينيا والسودان، لكنه يبدي موقفًا صارمًا حتى الآن ضد انقلاب النيجر، حيث قرر الاتحاد الأوربي تعليق مساعداته المالية والأمنية، وحذت واشنطن حذوه، كما تم توجيه إنذارات بتدخل عسكري مباشر لإعادة الرئيس المنتخب، لكن الأمر ليس نزهة بسيطة هذه المرة بسبب ارتكان قادة الانقلاب على الدعم الروسي ممثلا في “فاغنر”، ورغم أن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أدان الانقلاب نظريًّا، فإن موجة الانقلابات الجديدة في غربي إفريقيا استندت إلى هذا الدعم الروسي، وقد رفع أنصار الانقلاب الأخير الأعلام الروسية في مظاهراتهم في العاصمة نيامي.
مظاهرات داعمة للانقلاب
المظاهرات التي خرجت في العاصمة أو غيرها لدعم الانقلاب ليست بالضرورة تعبيرًا صادقًا عن غالبية الشعب في النيجر، فالغالبية الحقيقية تظهر في صناديق الانتخابات، وفي شعوب العالم الثالث هناك من يدعم الانقلابات العسكرية حيث لا تُمثل قضية الديمقراطية أولوية لديهم، بل يسبقها دومًا تحسين الأوضاع الاقتصادية، وفي إفريقيا تحديدًا يظل مطلب التخلص من بقايا الاستعمار أولوية لأن ذلك يحرر ثرواتها، ويمنحها نصيبًا عادلًا من عوائدها، وهو ما يسهم في تحسين معيشة الشعوب، وقد ظهر هذا الخطاب على لسان القادة في القمة الإفريقية الروسية التي عقدت أخيرًا.
الذين يدعمون تلك الانقلابات العسكرية في إفريقيا لم يتعلموا الدرس من انقلابات سابقة في بلدانهم، أو في غيرها من البلدان التي رفعت شعارات مشابهة، وتنكرت لها بعد تمكنها، وسامت شعوبها سوء العذاب، وعادت لاقتسام المغانم مع الدول الاستعمارية التي ادعت مقاومتها، كما أنهم يستبدلون استعمارًا باستعمار، فروسيا التي يهللون لها تبدي تعاطفها مع الأفارقة ضد الهيمنة الغربية، وتعد بتعويضهم بشحنات قمح، وتحرك قوات فاغنر لدعم الحكام المتعاونين معها، لكنها حتمًا ستقبض ثمن ذلك مضاعفًا من خيرات إفريقيا وثرواتها، كما فعل غيرها من المستعمرين.
الموقف المأمول
أدرك حكماء القارة وبعض قادتها أن الانقلابات العسكرية هي أحد أسباب استمرار تخلف القارة، ولذا فقد نصت المادة 30 من القانون التأسيسي للاتحاد الإفريقي تحت بند “تعليق المشاركة” على أنه “لا يُسمح للحكومات التي تصل إلى السلطة بطرق غير دستورية بالمشاركة في أنشطة الاتحاد”، ولكن هذا التعليق يكون عادة شكليًّا، وينتظر أي انتخابات شكلية لاحقة ليرفع قرار التعليق، وهو ما حدث مع انقلاب 2013 في مصر، وانقلابات أخرى، وإذا كان الاتحاد الإفريقي جادًّا في مواجهة ظاهرة الانقلابات، فعليه السعي لدى الأمم المتحدة لاعتماد قرار مشابه بتعليق عضوية أي حكومة وصلت بطريقة غير دستورية، وعدم الاعتراف بأي حكم إلا بعد انتخابات تجري تحت إشرافه ورقابته الكاملة مع الأمم المتحدة، بدءًا من الترشح وحتى إعلان النتيجة، وليس الاكتفاء بانتخابات صورية يجريها قادة الانقلابات لشرعنة حكمهم.
نحن الآن أمام معركة بين “باطلين”؛ الانقلاب العسكري، والتدخل الغربي المحتمل، ومع الرفض الكامل لكليهما فإن المأمول أن يتم دحر الانقلاب على يد أهل النيجر أنفسهم أو بمعاونة أشقائهم الأفارقة تجنبًا لتدخل غربي قبيح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق