في محنة السجن والظلم.. تعليم ودعوة يوسف عليه السلام
مما ذكرته سورة يوسف عليه السلام محنة السجن الذي دخله يوسف عليه السلام بسبب كيد النسوة وظلمهن له بعد أن رفض وأبى ما تريده امرأة العزيز منه من فاحشة نكراء، لا يقبلها مؤمن تقي، فضلا عن مخلص نبي، ودخل نبي الله الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف عليه السلام السجن بعد أن خرج من محنته الكبرى في قصر العزيز تقيا نقيا ليواجه محنة أخرى: ضيق السجن وظلمته ووحشته والشعور بالظلم والاضطهاد، وهو سجن آخر للنفس يزيدها هما وألما وحسرة. وقد عرض القرآن الكريم صورة هذا النبي الكريم في أول مشاهد حياته في السجن، التي بدأها بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وتوحيده وعبادته مع ساكني السجن، في إشارة إلى أن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى لا تنقطع بحال، ولا توقفها الظروف الصعبة، أو اللحظات القاسية. ولذلك كان أول ما فعله النبي الكريم عليه السلام الدعوة إلى أعظم شيء خلق الإنسان من أجله في هذه الأرض، ألا وهو عبادة الله وتوحيده.
إن الذي يستحق أن يكون ربا يعبد ويطاع أمره، ويتبع شرعه هو الله الواحد القهار
قال الله تعالى حاكيا عن يوسف عليه السلام قوله لصاحبي السجن: "يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار" [يوسف: 39]
لقد رسم يوسف عليه السلام بهذه الكلمات القليلة الناصعة الحاسمة المنيرة كل معالم هذا الدين وكل مقومات هذه العقيدة كما هز بها كل قوائم الشرك والطاغوت والجاهلية هزا شديدا عنيفا.
- "يا صاحبي السجن"
أن يتخذ منهما صاحبين ويتحبب إليهما بهذه الصفة المؤنسة ليدخل من هذا المدخل إلى صلب الدعوة وجوهر العقيدة.
- "أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار"
وهو سؤال يهجم على الفطرة في أعماقها ويهزها هزا شديدا. إن الفطرة تعرف إلها واحدا ففيم إذا تعدد الأرباب؟
إن الذي يستحق أن يكون ربا يعبد ويطاع أمره، ويتبع شرعه هو الله الواحد القهار، ومتى توحد الإله وتقرر سلطان القهر في حياة الناس، وما يجوز لحظة واحدة أن يعرف الناس أن الله واحد وأنه هو القاهر ثم يدينوا لغيره ويخضعوا لأمره ويتخذوا من دون الله ربا.
إن الرب لا بد أن يكون إلها يملك أمر الكون ويسيره، ولا ينبغي أن يكون العاجز عن تسيير أمر هذا الكون كله ربا للناس يقهرهم بحكمه وهو لا يقهر هذا الكون كله بأمره.
إن الله الواحد القهار خير أن يدين العباد لربوبيته من أن يدينوا للأرباب المتفرقة والأهواء الجاهلة القاصرة العمياء عن رؤية ما وراء المنظور القريب، كالشأن في كل الأرباب إلا الله.
وما شقيت البشرية بشيء قط ما شقيت شقاءها بتعدد الأرباب وتفرقهم وتوزع العباد بين أهوائهم وتنازعهم، فهذه الأرباب الأرضية التي تنازع الله في سلطانه وربوبيته أو يعطيها الجاهلون هذا السلطان لا تملك لحظة أن تتخلص من أهوائها ومن حرصها على ذواتها وبقائها، ومن الرغبة الملحة في استبقاء سلطانها وتقويته، وفي تدمير كل القوى التي تهدد السلطان من قريب أو من بعيد وفي تسخير تلك القوى والطاقات في تمجيدها والطبل حولها والزمر والنفخ فيها كي لا تذبل.
وإن الإله الواحد القهار في غنى عن العالمين فهو سبحانه لا يريد منهم إلا التقوى والصلاح والعمل والعمارة وفق منهجه، فيعد هذا كله عبادة، وحتى الشعائر التي يفرضها عليهم إنما يريدها لإصلاح قلوبهم ومشاعرهم ولإصلاح حياتهم وواقعهم.. وإلا فما أغناه سبحانه وتعالى عن عباده أجمعين. (في ظلال القرآن، 4/1990).
بين يوسف عليه السلام لمن ينبغي أن تكون الطاعة، أو بمعنى آخر لمن ينبغي أن تكون العبادة.
قوله تعالى: "ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون" [يوسف: 40]
رسم يوسف عليه السلام بهذه الكلمات القليلة الناصعة الحاسمة المنيرة كل معالم هذا الدين، وكل مقومات هذه العقيدة كما هز بها كل فوائد الشرك والطاغوت والجاهلية هزا شديدا. (في ظلال القرآن، 4/199)
- "ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم"
أي: ما تعبدون إلا أسماء لا مسميات لها، لأنها في الأصل لا تستحق أن تعبد وتعظم، فكأنها معدومة غير موجودة. (التفسير الموضوعي، 4/178)
- "ما أنزل الله بها من سلطان"
أي: ما أنزل الله حجة ولا برهانا على عبادتها، ولا عقل يسلم بذلك. إن العبادة لا تكون إلا بسند شرعي، فلا يعبد تبارك وتعالى إلا بما شرعه وبينه ونزل به الوحي، فمعبوداتكم ليس لها في عالم الحق مكان، فلم تأتكم بها دعوة من رسول من رسل الله عليهم السلام، ولم يحملها إليكم كتاب من كتب الله تعالى، إنها نابعة ومولدة من الوهم والضلال. (يوسف وقصته العجيبة، ص 277)
كان يوسف صريحا في بيان ما عليه صاحباه من شرك بالله، ليعرفهما حقيقة ما هما عليه ويميزا بين الحق والباطل، ليكون هذا دافعا لهما إلى ترك الباطل الذي عليه القوم واتباع الحق الذي هو عليه. وقد بين يوسف عليه السلام لمن ينبغي أن تكون الطاعة، أو بمعنى آخر لمن ينبغي أن تكون العبادة. (القصص القرآني، الخالدي، 2/147)
- "إن الحكم إلا لله"
أي: ما الحكم الحق في الربوبية، والعقائد والعبادات الدينية؛ إلا لله وحده، يوحيه لمن اصطفاه من رسله، ولا يمكن لبشر أن يحكم فيه برأيه وهواه، ولا بعقله واستدلاله، ولا باجتهاده واستحسانه، فهذه القاعدة هي أساس دين الله تعالى على ألسنة جميع رسله لا تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة.
العبادة لا تكون إلا لله، والعبادة بمفهومها الواسع الشامل التي تعني الخضوع المطلق وإفراد الله بالحكم صورة من صور إفراده بالعبادة.
- "أمر ألا تعبدوا إلا إياه"
أي: بل إياه وحده فادعوه واعبدوه وله وحده فاركعوا واسجدوا، وإليه وحده فالجؤوا، حنفاء لله غير مشركين به ملكا من الملائكة الروحانيين، ولا ملكا من الملوك الحاكمين، ولا كاهنا من المتعبدين، ولا شمسا ولا قمرا، ولا نجما، ولا شجرا ولا نهرا مقدسا كالغانج والنيل، ولا حيوانا كالعجل أبيس. فالمؤمن الموحد لله لا يذل نفسه بالتعبد لغير الله من خلقه بدعاء ولا غيره، إلا بإيمانه بأنه هو الرب المدبر المسخر لكل شيء وأن كل ما عداه خاضع لإرادته وسننه في أسباب المنافع والمضار، ولا يملك لنفسه ولا لغيره غير ما أعطاه من القوى التي هي قوام حسنة، ومادة حياة شخصية: "الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى" [طه: 50].
فإليه وحده الملجأ في كل ما يعجز عنه الإنسان أو يجهله من الأسباب وإليه المصير للجزاء على الأعمال يوم الحساب. ويوسف عليه السلام يعلل القول بأن الحكم لله وحده، فيقول: "أمر ألا تعبدوا إلا إياه". (تفسير المنار، 12/307)
وإن العبادة لا تكون إلا لله، والعبادة بمفهومها الواسع الشامل التي تعني الخضوع المطلق وإفراد الله بالحكم صورة من صور إفراده بالعبادة، والخضوع له وحده، واتباع أمره وحده، سواء تعلق هذا الأمر بشعيرة تعبدية، أو تعلق بتوجيه أخلاقي، أو تعلق بشريعة قانونية، فالدينونة لله وحده في هذا كله هي مدلول العبادة التي خص الله سبحانه بها نفسه، ولم يجعلها لأحد من خلقه. وهذا الفهم في مفهوم العبادة يبين لنا تعليلا لاختصاصه بالحكم. فالعبادة -أي: الدينونة- لا تقوم إذا كان الحكم لغيره، وسواء في هذا حكمه القدري القهري في حياة الناس وفي نظام الوجود، وحكمه الشرعي الإداري في حياة الناس خاصة، فكله حكم تتحقق به الدينونة.
إن يوسف عليه السلام يقرر لصاحبي السجن، ولكل الناس أن اختصاص الله سبحانه بالحكم -تحقيقا لاختصاصه بالعبادة- هو وحده الدين القيم.
- "ذلك الدين القيم"
الإسلام وحده هو الدين القيم، الدين المستقيم الصحيح المقبول عند الله. الدين الذي يقوم على معادلة ذات طرفين: إفراد الله بالعبادة يعني إفراده وحده بالحكم، وهذا يعني أن من فعل ذلك كان على دين قيم، ومن لم يفعله فليس على دين قيم، فهو جاهل غير عالم. والمقصود أن الدين الموصل لرضوان الله هو الدين الذي لا يعبد فيه إلا الله ويكون فيه الحكم لله. "ذلك الدين القيم" أي: الحق المستقيم الذي لا عوج فيه من جهالة الوثنيين، الذي دعا إليه جميع رسل الله أقوامهم، ومنهم آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام. (في ظلال القرآن، 4/1991)
- "ولكن أكثر الناس لا يعلمون"
أي: ليس لهم علم بالحقائق، بل تسيطر عليهم الأوهام الباطلة، التي تخدع العقول فلا تعلم، والمصريون القدماء كانوا خاضعين للأوهام ولا تزال بقية منهم خاضعة للأوهام وهم الذين لم يدخلوا في دين التوحيد، دين الله القيم.
وهكذا نرى نبي الله يوسف عليه السلام ابتدأ بإثبات معجزته ثم نهى عن الشرك، ووجههم إلى الاقتداء بشخصه وقد صاروا له صاحبين ثم وازن بين الوحدانية وتعدد الآلهة، ثم بين لهم أنه لا وجود لما يسمونه آلهة، وأن الدين القويم الحق الذي يوافق قضية العقل البديهية هو الوحدانية. (زهرة التفاسير، 7/3826)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق