نقطة الانطلاق الأولى للنهوض والتجديد؟
إذا كنّا نؤمن بحتمية النهوض وضرورة التجديد؛ فمن أين نبدأ المسيرة علميًّا ونظريًّا؟ وما هي نقطة الانطلاق الأولى؟ وكيف نحسن اختيار “المحطة” التي ينطلق منها القطار إلى غايته؟
لو تأملنا أقوال المستشرقين ثم تأملنا أصداءها عند الحداثيين؛ لوجدنا أنّ منطلقَهم جميعًا في النظر للتراث الإسلاميّ ومن ثم للعقل العربيّ الذي يناط به النهوض منطلقٌ واحد، هو “نظرية المعرفة”، والحقُّ يقال: إنّهم قد انطلقوا في نقدهم وتوجيه سهامهم من منصة خطيرة ومؤثرة، لكنْ لأنّ الاستشراق كان يمثل الوجه الثقافي للإمبريالية وجدناه ينحرف في فهمه ثم في نقده، ولأنّ الحداثيين العرب تبعوهم في ذلك حذو القذّة بالقذّة وجدناهم على نفس الخط المنحرف، لكنّ نقطة الانطلاق صحيحة؛ فهل نستطيع أن نحرر “نظرية المعرفة” في الإسلام؟ وهل نملك القدرة على أن ننطلق بها في مسيرة النهوض والتجديد؟
ما هي “نظرية المعرفة”؟
كيف نفكر بطريقة علمية آمنة وسليمة؟ ما هي القواعد التي تضبط عملية التفكير والبحث والنظر وتضمن سيرها إلى غايتها دون انحراف أو قصور؟ هل هناك مناهج للمعرفة يتبعها الباحث عن الحقيقة ويسير على هداها خطوة خطوة؟ أين نجد المناهج المعرفية السليمة المستقيمة؟ ما علاقة هذه المناهج بالعقل والنفس والحواسّ؟ هل هناك حقائق حدسية فطرية ومبادئ عقلية ينطلق منها التفكير؟ أسئلة تدور كلها في فضاء ما يسمى بنظرية المعرفة أو “معرفة المعرفة”، التي نجد الفرق بينها وبين المعرفة ذاتها في قول “أندرييه لالاند”: يجب التمييز في العقل بين “العقل الْمُنْشَأ” و”العقل الْمُنْشِئ”.
وإذا كانت المعرفةُ الحقّةُ ضروريّةً للنهوض؛ لكونها -بحسب فرنسيس بيكون- هي المعرفة الوحيدة التي تزيد قوة الإنسان في العالم؛ فإنّ معرفة كيفية الوصول إلى هذه المعرفة الحقة ضرورية كذلك، ومن هنا وضع “بيكون” ما أسماه بالأورجانون الجديد، أي: منهج المعرفة الجديد، ووضع فيه قواعد المنهج التجريبيّ على أنقاض المنطق اليونانيّ القديم، الذي وضعه أرسطو، فنسخ بهذه النظرية النظرية القديمة، والنظرية عبارة عن كُلّيات مجردة تتّحد في سياق منطقيّ، لتقوم بعملية “توضيح العلاقة بين السبب والأثر”، وبذلك نستطيع أنْ نُعَرّف نظرية المعرفة بأنّها: “سلسلة منتظمة من الحقائق الكلية والمفاهيم العامّة التي تُعْنَى بتحديد طبيعة المعرفة وعلاقتها بالعقل والحسّ والوجدان، وبمصادر هذه المعرفة وينابيعها الأصلية، وبمجالاتها التي تتحرك فيها، وبالقواعد المنهجية التي تؤدي إلى الربط الصحيح بين السبب والأثر، فبالإضافة إلى قواعد ومناهج البحث والنظر تبحث نظرية المعرفة في ثلاثة أمور: طبيعة المعرفة ومصادر المعرفة، ومجالات المعرفة، ويتصل المنهج العلميّ بنظرية المعرفة اتصال الجزء الأهم بالكلّ المهم.
الحاجة إلى نظرية المعرفة الإسلامية
إذا كان منطق أرسطو الذي تجاهل المنهج التجريبيّ، قد وضع القياس المنطقيّ في قوالب جافّة مليئة بالمحددات التحكمية؛ فإنّ المنهج التجريبي بعد روجر بيكون وفرنسيس بيكون قد قضم على يد ديكارت وديفيد هيوم وجون ستيوارت ملْ وغيرهم عند مفصل جوهريّ وهو المفصل الذي ينقل حركة التفكير من المعرفة المباشرة إلى المعرفة غير المباشرة، ومن ثمّ فليست حاجتنا إلى النظرية الإسلامية قاصرة على مجرد الردّ على الحداثيين أو الذب عن التراث، وإنّما هي حاجة إنسانية عامّة.
وليس خافيًا ما تعانيه البشرية من اضطراب شديد بهذا الصدد؛ فبينما فتن الناس قديمًا بالمنهج اليونانيّ العقيم، الذي يعتاش على الجمل الكلامية الباردة ويقتات العبارات المنطقية الباهتة؛ ليخرج لنا في النهاية منتجًا غاية في التناقض والاضطراب، نجد الخلق اليوم قد فتنوا بالمنهج التجريبيّ الذي لا يؤمن إلا بما يمليه الحس، ولا يتقدم خطوة بعد ذلك في اتجاه تلبية الحاجات الفطرية للإنسان، ولعل ما أوردته “الموسوعة الفلسفلية المختصرة” وصفًا لهذه الحالة واقتراحًا مجملا للعلاج كان دقيقًا وموفقًا، إذ تقول الموسوعة: “يرى بيكون أنّ الفلاسفة العقليين كالعناكب؛ ينسجون الأفكار من تجاويف عقولهم”، ثم تعلق: “على أنّ التجريببيّين الغلاظ ليسوا بأفضل من هؤلاء؛ لأنّهم كالنمل يجمعون المواد دون ما هدف، أمّا النحل فهو يقدم لنا النموذج الصحيح لخطة السير العملية”، وهذا الذي يفعله النحل عندنا، إلا أنّنا غُلبنا على أمرنا؛ فصرنا كشحاذ يتكفف الخلق وهو لا يدري أنّ تحت جدار بيته كنزا عظيما.
الضرورة الحضارية
ينقل لنا كتاب “خواء الذات والأدمغة المستعمرة” تصويرًا لحالة اليقين المعرفيّ في الغرب الآن: “صار الميل للاأدرية سمة مميزة لما بعد الحداثة، مع هجرة إلى العاطفة كما يعبر (هنري أتلان) وبدلًا من محاولة إيجاد طريقة للخروج من المأزق المعرفيّ اتجهوا إلى الحكمة الشرقية في تراث بوذا وكننفوشيوس، ليلتمسوا فيها نسبية يائسة، صاروا يخجلون من الحديث عن: الحقيقة.. الصدق.. العقل.. الموضوعية، إلا في شكل استشهادات مذعورة كما تعبر (سوزان هاك) واعتبرت الحقيقة العظمى رواية خيالية عظيمة”.
لذلك فنحن بحاجة إلى بعث المنهج الإسلاميّ؛ ليس فقط للرد على الحداثيين، ولا حتى لمجرد التجديد في هذا الجانب، وإنّما لغاية كبيرة ونبيلة، وهي تأمين الاهتداء؛ لأنّ شق الهداية الأول يتمثل في معرفة الحقيقة؛ فلابد من معرفة المعرفة، وثَمَّ غايةٌ لا يصح أن تُهمل، ألا وهي الإعداد لما هو قادم، والقادم هو دور الأمة الإسلامية في الدورة الحضارية القادمة، بعد إفلاس الحضارة المعاصرة وفشلها وإخفاقها في تحقيق إنسانية الإنسان، وفي تحقيق غاية الخلافة: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}.
وإذْ ندعو العلماء للقيام بهذا العمل الخطير، وإذْ نحاول الإسهام بحسب جهدنا المتواضع؛ فإننا لا ندّعي أنّنا نخترع شيئًا ونقدمه للإسلام، إنّما عملنا هنا على تواضعه تجربة كشفية، نحاول فيها الكشف عمّا تضمنه القرآن واشتمل عليه الإسلام من قواعد وأسس ومناهج، يمكن أن تتكون منها نظرية معرفية، بل لا ندعي الإحاطة بما سنقوم بالكشف عنه، إنْ هي إلا محاولة، لكنّها طموحة، والله الموفق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق