الأزمات تتفاقم.. مصر إلى أين؟
مدير مركز (محكمات) للبحوث والدراسات – اسطنبول
أزمةٌ مالية تَقْصِمُ فقَّار الظهر.. عجزٌ فاحش بالموازنة.. ركودٌ وتضخم يغذي كل منهما الآخر.. بطالةٌ تتزايد باستمرار ويتزايد معها اليأس والبؤس.. تَضَاؤُلٌ وتآكُلٌ في الاحتياطيِّ النقديّ.. انهيارٌ لقيمةِ الجنيه أمام أغلب عملات الأرض وعلى رأسها الدولار.. فجوةٌ دولارية بين موازنة العام الماضي والعام الحالي تبلغ ثلاثين مليار دولار، هذا هو الواقع؛ فما الذي بقي من مؤشرات الانهيار الاقتصادي في مصر أخطأه العدّ أو تجاوزه الاستقصاء والاستقراء؟ أمّا أزمة انقطاع التيار الكهربيّ، وما تلاها من مؤشرات الانفلات الأمني، وما سبق ذلك من التفريط في النيل، وفي غاز المتوسط، وفي تيران وصنافير فلم تعد اللغة تجود بما يعبر عن الحسرة عليه، فإذا أضفنا لذلك بعضًا مما أشار إليه مقال “ستيفن كوك” في مجلة “فورين بوليسي” في مقال: “كيف دمر عبد الفتاح السيسي مصر”؛ لم يبق إلا أنْ نسأل: أين المخرج؟!
تجديفٌ عَبَثِيّ في الاتجاه العكسيّ
وعلى الرغم من ذلك يستمر النظام في ممارسة السلوكيات ذاتها التي أجمع العقلاء على أنّها مَكْمَنُ الخطر، فلا يزال النظام مصرًّا على المضيّ قدمًا بلا تريث ولا تؤدة، في المشروعات العقارية العملاقة، التي ثبت فشلها وعدم جدواها، مع كونها في الأصل لم تكن في اتجاه خدمة الشعب الذي يحمل على عاتقه عبء الضرائب مع سائر الأعباء التي يحملها بالعسف، ولا يزال النظام يُرخي العنان للجيش لكي يزداد توحشًا وتغولًا على حساب الاقتصاد الصحيح الذي يأبى أشدّ الإباء أن تتدخل السلطات الخشنة في تسييره وتوجيهه فضلا عن الهيمنة عليه واحتكاره، فها هي الحكومة تعطي جهاز مشروعات الخدمة الوطنية التابع للجيش 48000 في منطقة شرق العوينات ليقوم بزراعتها، ولا ندري إلى متى سيظلّ الجيش يتولى مثل هذه الأمور التي يُفترض أنّها من محفزات الاستثمار الحقيقيّ الذي يستهدف القضاء على البطالة والتنافس في زيادة الإنتاج؟! إلى متى تمارس جمهورية الضباط السطو والهيمنة على الإنتاج القوميّ.
حلول انتحارية
من أين ستوفّي الحكومة أقساط الديون وفوائدها بعد أن بلغ الدين الخارجيّ فقط 165 مليار دولار؟ ومن أين ستقوم بسداد 15.3 مليار دولار يجب عليها سدادُها في الربع الثالث من هذا العام والذي تسبح الآن في لُججه؟
لا حلّ أمامها إلا تلك الحلول الانتحارية، المزيد من القروض، والزيادة في المعروض من النقود، والإصرار على بيع ما يمكن بيعه من الأصول مهما كانت رتبتها في سلم الأولويات الاستراتيجية، فعلى الرغم من تراجع الإقبال الخليجيّ على شراء الأصول المصريّة بسبب رغبة الممول في خفض القيمة؛ تحاول الحكومة جاهدة في البحث عن العملة الصعبة عن طريق طروحات متنوعة، وقد نجحت هذا الشهر في طرح ما قيمته 1.9 مليار دولار، مع طرح أذون خزانة من قِبَل البنك المركزي بقيمة 40 مليار جنيه، أمّا الصيحة الجديدة فتتمثل في توجه الحكومة لبيع حصص مملوكة للدولة، لمستثمرين استراتيجيين؛ بغرض الحصول السريع على العملة الصعبة، إنّهم يطبقون المثل القائل: “أحيني اليوم وأمتني غدا” وليس هذا بِحَلٍّ يا أيها الفجار، إن هو الانتحار، الذي سيذوق به الموتَ شعبُنا المسكين.
مخاوف قريبة وأخرى بعيدة
بينما تُشير التوقعات كلها إلى تراجع النمو الاقتصادي بشكل كبير في العام الحالي والأعوام التالية له، وتَصْدُر البيانات عن البنوك الكبرى الدولية محذرةً من احتمال عدم قدرة مصر على سداد الديون، وبينما أدى عجز الموازنة العامة للدولة إلى تراجع قدرة الدولة على تقديم الخدمات؛ مما اضطرها للتحميل على المواطنين، إمّا بفرض ضرائب ورسوم عالية وإمّا بالتهرب من الاتزامات البسيطة تجاه الشرائح المهمشة؛ بينما يجري ذلك كله نسمع صوت المراسل المالي والاقتصادي للوكالة العالمية يحذر ويشتدُّ في التحذير من زيادة المعروض النقديّ؛ لكونه سيؤدي حتمًا إلى اشتعال التضخم وازدياد الضغط على الجنيه المصريّ، إنّ التوقعات بانخفاض قيمة الجنيه وازدياد التضخم والركود مرعبة ومفزعة، والأشد فزعا ورعبًا من ذلك هو الوصول لحالة الإفلاس، ولاسيما مع ما تظهره دول الخليج من التململ من الشحاذة المصرية.
تلك كانت إشارات سريعة إلى بعض المخاطر الوشيكة، أمّا الأهوال التي يمكن أن تكون محصلةً نهائيةً لكل تلك المخاطر فهي مفزعةٌ ومروعة، ففي ظل إصرار النظام على الْمُضِيِّ قُدُمًا في سياساته الغشومة تلك، ومع التراجع الملحوظ لدور مصر الإقليميّ والدوليّ، وفي ظلّ تصاعد الغضب واشتعال جذوته في قلوب الجماهير، ولاسيما بعد أزمة الكهرباء التي لا يُرى لها نهاية بسبب أزمة الغاز، ومع انشغال الوسط الإقليميّ والدولي بتدافعات إقليمية ودولية كفيلة بشغل الداعمين عن مجرد التفكير في أزمة بلدٍ يصرّ قادته على أن يظل مأزومًا، في ظل ذلك كله ومع ازدياد جرعات الفساد والاستبداد؛ يُخشى من تفجر الأوضاع الداخلية واندلاع موجات من الغضب الشعبيّ، تكون فوضوية مذعورة، وتأتي بلا تدبير ولا ترتيب ولا قيادة ولا مشروع، ولاسيما مع فشل أغلب مكونات ما يسمى بالمعارضة الخارجية؛ مما قد يهيء البلاد لحالة من الفوضى، وتوقعها في أحابيل مخططات التقسيم، وما السودان العنيد منَّا ببعيد.
الحلول الجذريّة
إنّ بين أيدينا حلولًا جذريّةً لكل تلك المشكلات، صحيحٌ أنّها لن تكون حلولًا سحريّة، إذْ لا وجود لحلول سحريّة لمثل هذه الأزمات، ولن تكون سريعةً قريبةَ الحصاد؛ إذ لا يعرف ذلك في دنيا السياسة والاقتصاد، ولن تكون سهلةً تنالها الأيدي بغير مشقة ولا كلفة؛ ومن ذا الذي ينشد الخلاص من الضياع وهو مستسلم لليأس منقاد للقعود؟ إنّها حلولٌ ليست سحريّةً ولا سريعةً خاطفةً ولا سهلةً ميسورة، ولكنّها مع ذلك قائمةٌ وقادرةٌ على إخراج البلاد من الضيق إلى السعة ومن الضنك إلى الرفاهية.
يأتي على رأس هذه الحلول أن تتخلى الدولة عن كافّة سياساتها التي أشرنا إليها آنفًا، والتي أنكرها ولا يزال ينكرها كل عاقل من أهل الاختصاص، فعلى الجيش أن يعود لثكناته ويترك الاستثمار لأهله، وعلى الدولة أن تتخلى عن مشروعاتها الافتخارية العقارية، وعلى البنك المركزيّ أن يتوقف عن طبع الجنيه إلى بدائل إنتاجية، ثم يأتي الإجراء الأهم والأبعد أثرًا، ألا وهو غلق جميع أبواب الفساد؛ فإنّ مصر ليست بلدًا فقيرًا بموارده، ولكنّها بلدٌ تُسرق مواردُه، ثمّ يأتي الأمر الذي ينتظره العقلاء كافّة ولكنّهم يترددون في طرحه خوفًا من الضباع التي لا تحسن إلا المزايدة، هذا الأمر هو رفع الظلم عن المظلومين، وإطلاق سراح المعتقلين؛ فإنّ الظلم ظلمات، وهل في الظلمات يرى أحد من التائهين طريق الخلاص؟ وكل هذا ممكن التحقيق، وشرطه الرئيسيّ رحيل عبد الفتاح السيسيّ، بأيّ وسيلة تراها الأمّة المصريّة، فإنّ رحيل هذا الذي دمر مصر في عشريته السوداء المظلمة ضرورة وطنية وإسلامية وإنسانية وحضارية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق