الأربعاء، 4 ديسمبر 2024

صامدون في القتال حائرون في السياسة

 

صامدون في القتال حائرون في السياسة


قرار المحكمة الجنائية الدوليّة ملاحقةَ رئيس وزراء إسرائيل باعتباره مجرم حرب يعطينا أملًا في أن ينتصر الدم على السيف يومًا ما. إذ من أهم آثاره أنه يكسر الحصانة التقليدية التي تمتعت بها الدولة العبرية منذ قيامها، بحيث تحولت إلى كيان فوق القانون والمساءلة، وليس فقط فوق البشر «الأغيار» كما تقول أساطيرهم.

والقرار (الذي يشمل أيضًا وزير الدفاع المقال يوآف غالانت وقائد عز الدين القسام محمد الضيف الذي يُعتقد أنه قُتل منذ أشهر)، يدخل كتاب التاريخ الذي سطرته انتفاضة طوفان الأقصى منذ أطلقته المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وكُسرت به هيبة إسرائيل وقوة الردع التي أشاعها جيشها الذي ادعى أنه لا يُقهر.

لكن تلك خطوة في رحلة الألف ميل كما يُقال؛ لأن هناك الكثير من التحديات التي تنتظرنا بعد ذلك.

ما حدث لن يغير كثيرًا من موازين القوى في الأجل المنظور، بينما الصراع الراهن الذي تديره الولايات المتحدة لصالح إسرائيل يحفل بمظاهر الخلل لصالح الاحتلال، مما يستبعد حسمه عسكريًا أو بالضربة القاضية.

لكن ذلك لا يحول دون استنزاف العدو وإرهاقه بالنقاط التي يتم تسجيلها عسكريًا في جولات الصراع، وهو ما يحتاج إلى وقت يستمر فيه الصمود والإصرار العنيد من جانب الفلسطينيين في جبهات القتال وخارجها.

إعلان

ولذلك، فإن استمرار المقاومة يزود المقاتلين بالقوة التي تمكنهم من مواصلة تسجيل النقاط في مواجهة العدو. وكانت النتيجة حتى الآن أنه رغم مضي 14 شهرًا على القتال الضاري، ورغم الخراب والدمار والتهجير، فإن المقاومة لم تنهزم كما أن الاحتلال لم ينتصر.

لا تزال إسرائيل تدمر القطاع وشعبه، لكنها لم تحقق شيئًا من أهدافها الإستراتيجية التي أعلنتها في البداية، فلا هي قضت على حماس، ولا هي استعادت أسراها لدى المقاومة.

ظاهر الأمر أن الحرب تدخل في الوقت الراهن مرحلة الانتهاء، أقله في لبنان، حيث تم الاتفاق على وقف القتال لمدة ستين يومًا، وهو ما قد يمثل تطورًا إيجابيًا بدرجة أو أخرى.

وقد يكون من المفيد أن نتوقف عند الاتفاق الذي تضمن بنودًا سرية في «ملحق» لم يُعلن رسميًا، وهو ما قد يكون نموذجًا مصغرًا لبعض ما يمكن أن يتم بخصوص غزة. ولا يمكن أن نغفل أن الولايات المتحدة هي الطرف الرئيسي الذي قام بهذا الدور، مع عدم نفي وجود أطراف أخرى، مثل فرنسا بطبيعة الحال.

في هذا الصدد، أزعم أن للاتفاق أهدافًا ثلاثة على الأقل. الأول، أنه يوفر لإسرائيل فرصة الاستفراد بالفلسطينيين في غزة. الثاني، أنه يخلصها من «الصداع» الذي يسببه لها حزب الله. أما الثالث، فهو يمهد الطريق للتفرغ لتصفية الحساب التقليدي مع إيران، وهو الأمر الذي لا يمانعه الرئيس الأميركي الحالي، ويحبذه دونالد ترامب الذي سيخلفه بعد أقل من 50 يومًا.

من ناحية أخرى، لا يمكننا أن نتفاءل بما هو مسكوت عنه في هذا الاتفاق المفخخ. فمضمون الورقة الأميركية التي أُلحقت به تضمنت بندًا ينص على إمكانية التدخل العسكري الإسرائيلي في لبنان إذا استشعرت إسرائيل خطرًا يهدد أراضيها. وقد عبّر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن شيء من هذا القبيل حين قال إن وقف القتال لا يعني وقف الحرب، الأمر الذي يعني أن الحرب مستمرة، وأن ما تم ليس نهاية لها.

إعلان

ولديّ أكثر من سبب يؤيد ذلك. أبرزها أن لبنان ليس أولوية لدى إسرائيل في الوقت الراهن، إذ إنها مشغولة بتوجيه ضربة قوية للفلسطينيين جميعًا، وليس لحركة حماس وحدها. ومع ذلك، تواجه إسرائيل ضغوطًا من الرئيس الأميركي الحالي الذي يريد إنهاء ولايته بإنجاز يُحسب له، ومن الجانب الفرنسي الذي يعتبر نفسه أحد رعاة الوضع اللبناني.

الخلاصة، أن احتلال لبنان يُعد هدفًا مؤجلًا، على الأقل من وجهة نظر أحزاب اليمين الإسرائيلي التوراتية التي تدير البلد حاليًا، والتي تتبنى الدعوة إلى إقامة "دولة اليهود الكبرى" التي تتجاوز حدود عدة دول عربية. لذلك، فإن الهدف المرحلي هو إسكات لبنان وتأديبه، وليس احتلاله.

أما الثأر من الفلسطينيين، فله حساب آخر، إذ إن تجربة "طوفان الأقصى" أقنعت الجناح المتشدد في الطبقة السياسية الإسرائيلية، على الأقل، بأن أي وجود فلسطيني يمثل خطرًا وجوديًا عليها. ولذلك، فإن استقرار إسرائيل واطمئنانها مرهون بالخلاص من الفلسطينيين، إن لم يكن بالقتل والتهجير، فعلى الأقل بالتركيع الذي لا تقوم لهم في ظله قائمة.

إزاء ذلك، فربما كان الأصوب وصف ما يجري الآن بأنه محاولة لتهدئة إحدى جبهات القتال مع استمرار حملة الإبادة في غزة والقمع الفاشي في الضفة. وذلك تمهيدًا للانتقال إلى طور آخر يتحدد في ظله مصير حرب غزة التي تنتظر الحسم من جانب كل الأطراف.

وهي المرحلة التي يواجه فيها الفلسطينيون أقسى وأصعب امتحان في تاريخ الصراع في ظل القيادة الإسرائيلية الراهنة، كي لا يتكرر ما جرى في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول مرة أخرى. ذلك أن ما جرى لم يكن مباغتة من حركة حماس فحسب، بل كان انتفاضة فلسطينية كبرى جرى الإعداد لها بدرجة عالية من الإحكام والنجاح.

علمًا أن حماس تشكلت في ثمانينيات القرن الماضي، بينما انتفاضات الفلسطينيين تطلقها الوطنية الفلسطينية منذ قرن من الزمان. ومن ثم، يدرك الفلسطينيون جيدًا أن المشكلة ليست في حماس، بل في مبدأ الحضور الفلسطيني على أرضه. في حين أن حماس لها رمزية تمثيل الشعب بمختلف تنويعاته على أرضه وفي بلده. وهي في ذلك لا تختلف عن رمزية حزب الوفد، الذي كان ممثلًا للشعب المصري باختلاف طوائفه في مطلع القرن الماضي.

إعلان

حدث التهدئة في لبنان ليس المراد منه التمهيد لوقف القتال، بل المقصود به تصويب مساره لكي يتجه إلى الوجهة "الصحيحة" (من وجهة النظر الإسرائيلية)، التي تسمح بتحقيق هدف اقتلاع الشعب الفلسطيني يومًا ما، بما يؤدي في النهاية إلى إعادة «أرض إسرائيل» إلى من يعتبرون أنفسهم «أصحابها».

صحيح أن هذا الهدف لا يُعلن بهذه الصراحة في الوقت الراهن في الخطاب الرسمي، لكن بين أيدينا إشارات واضحة تدل عليه، منها تصريح الوزير الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش الذي دعا فيه إلى احتلال قطاع غزة، وتقليص عدد سكانه إلى النصف، وكلام ترامب عن صغر حجم إسرائيل وحاجتها إلى التوسع جغرافيًا لاستيعاب اليهود.

يستوقفنا ذلك الذي ذكرته، لكنه لا يقلقنا؛ لأن التجربة علمتنا أنه يمكن تحدي إسرائيل ومواجهتها وحدها، وتشهد بذلك عملية "طوفان الأقصى". علمًا أن المتغيرات التي حدثت بعد ذلك لم تقع إلا في ظل الدعم الأميركي الذي انهال على إسرائيل، وجهود "الحلفاء" القريبين والبعيدين.

ورغم التفوق لصالح إسرائيل في موازين القوى، فإن المقاومة ظلت ثابتة القدم ولم تنكسر، بل صارت ندًا عنيدًا لم يتوقف عن الاشتباك والمقارعة طوال 14 شهرًا. وهو ما يجعلني أقول إن ما يقلقني حقًا ليس القتال، رغم أن الفلسطينيين يقفون وحدهم وخياراتهم تتراوح بين الجهاد والاستشهاد.

ما يقلقني هو الانتقال من حلبة القتال إلى طاولة المفاوضات، حيث يشارك فيها أطراف عدة، ويصبح المقاومون الطرف الأضعف. وهذا ما يبعث على الحيرة والحرج، حين ينتقل الخلل في ميزان القوى من ميدان القتال إلى طاولة المفاوضات. وفي تلك اللحظة، تقوم الضغوط السياسية التي تُمارس لصالح إسرائيل بدور الصواريخ الفتاكة والطائرات المسيّرة الانقضاضية التي تستهدفهم.

لا أعرف موعدًا لذلك الذي لا أتمناه للتوسّعات الإسرائيلية التالية، لكني أرى مقدماتها في الاستعلاء والزهو الذي ينتاب رئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي يقدم نفسه كما لو أنه سيد الشرق الأوسط، محققًا انتصارًا ساحقًا ينافس به جنكيز خان وهرقل. وهو انتفاخ طارئ لأنه يقف على أكتاف الرئيس الأميركي القادم بعد أن استُهلك سلفه، وإلى جواره في أوروبا زعماء موالون لإسرائيل لأسباب متباينة.

إعلان

هؤلاء الزعماء تدعمهم أحزاب يمينية تتنامى قوتها وتزحف صوب الحكم في أكثر من بلد، وهي كارهة لنا جميعًا وليس للفلسطينيين وحدهم. يضاف إلى ذلك منظمات دولية تراجع دورها وتعذر التعويل عليها.

أما عالم "الأشقاء" العرب والمسلمين، فقد فرض على أغلبيتهم الساحقة أن يقفوا متفرجين، في حين تفرقت أنظمتهم بين موالٍ للعدو في العلن وآخرين في السر، كما أن منهم من رفع راية النأي بالنفس.

وإذا أضفت لكل ما سبق استمرار الانقسام السياسي الفلسطيني، فإن ذلك يصور لك مدى الحيرة التي تنتاب الطرف الفلسطيني المقاوم إذا ما اضطر للتفاوض حول إنهاء الحرب.

ذلك أن الصمود الذي أثبته حين وقف وحده في ميدان القتال لن يكون كافيًا لإنصافه إذا ما دُعي إلى طاولة التفاوض، في حين تجلس إسرائيل ووراءها كل هؤلاء، لأن الغلبة في هذه الحالة ستكون للقوة وليس للحق، إلا إذا أراد ربك شيئًا آخر بمعجزة من عنده.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق