الأربعاء، 9 أبريل 2025

"رواية شبح الكليدوني".. إدانةُ التاريخ الاستعماري

 "رواية شبح الكليدوني".. إدانةُ التاريخ الاستعماري


إنّ استيعاب التاريخ مسألة بالغة الأهمية والخطورة في ذات الوقت، إذ يحيلنا استدعاؤه في نص روائي إلى القوى المهيمنة عليه، والسّاعية لتجريده من مضامينه وهامشيته المانحة إيّاه وصفًا مغايرًا عن التاريخ العالمي، دون الحاجة إلى تبريرات الحضارة في الإبادة والتطهير العرقي، ونفي الآخر عن قيم الإنسانية بعنف وعنصرية، ولنقل إنّ "مشكلة الصراع الحضاري" تدور رحاها على "إعادة تشكيل التاريخ" بعيدًا عن المركز.

ومن منطلقه المحلي كونه جدلية مغيّبة وموضوعًا شائكًا، يريدنا أن نوقن أنّ المستحيل لن يتأتى إلا إذا أقررنا بأهمية تأريخ العهد الجريح، فما معنى أن يتباكى المعذبون فوق الأرض على أطلال الثورة وذاكرتهم المعتمة لم تسلم من صدمات تشيب لها الولدان؟

سنقرأ معكم رواية "شبح الكليدوني" للكاتب الجزائري محمد مفلاح، وهو يغوص بنا عبر سردية استثنائية ليس في التاريخ العالمي الملفّق بنزعة استشراقية فوقية، بل في حياة الذين أسهموا بصناعة تجارب اجتماعية في منافيهم وعبر أزقة قراهم لإدانة المستعمِر.

وحينما نقتفي خطى "امحمد شعبان المنفي" الشخصية الرئيسية، نستعيد معها أحداثًا ثورية مغيّبة عن الوعي الجمعي والذاكرة الوطنية، بشكل يبعث على التساؤل في زمن تطرق السياسات الاستيطانية للاستعمارية الجديدة أبواب جغرافيتنا، فما الذي يمكننا أن نرصده في رواية شبح الكليدوني كي نتجنب منافينا الطوعية، ونجرد تاريخنا بكل جرأة وموضوعية؟

صاغت الرواية الخصوصية التاريخية للهامشي المتواري خلف هواجس الترحيل وذاكرته المعطوبة، واكتشفت منه ظلًا لشبح اختلفت عناوينه الكبرى بين الثورة والأرض والتاريخ

أن يكون التاريخ شبحًا

هل كان لهم تاريخ نفخر به؟! بهذه العبارة يسأل امحمد شعبان الملقّب بالمنفي والده الحاج عبدالقوي، بعدما سلّمه ثلاثَ رسائل كانت مخبأة عنده، قد كتبها جده الذي نفاه الاحتلال الفرنسي إلى جزيرة كليدونيا، إذ كانت الهواجس تسيطر على تفكير امحمد منذ صغره بسبب كنيته المنفي، لتراوده أسئلة مربكة حولها، فكانت الإجابة متعلّقة برغبة مثقلة بالاغتراب، وغير مدركة أهمية موضوع الأرض والتاريخ، بالإضافة للحياة وصدماتها المتلاحقة، وما حرّك في نفسه البحث عن هوية المنفي، حياة اللامبالاة والنكران التي أراد أن يتخلص منها، تارة بالاستقالة من عمله، وتارة بسعيه ترك الهروب من مدينته وعمارة ديار الورد، ضمن المشاريع الاقتصادية للجنرال ديغول لوأد الثورة الجزائرية، فكانت مخصصة للأهالي في صورتها الموحشة والبائسة، لترمز إلى احتقار الأهالي من طرف المستعمِر الفرنسي.

تدور أحداث الرواية عقب استعادة الجزائر أمنها بعد المأساة الوطنية، في مدينة غليزان غربي الجزائر، إلا أنّ الكاتب مفلاح استطاع بخبرته الميدانية في تأريخ المحلي، سرد أحداث أثثت نصّه الروائي، وحين تقرأ رواية شبح الكليدوني ستجد فيها هواجس الترحيل عن عمارة، مختلفة كليًا عن طابعه الكولونيالي المتقن، فديار الورد ترامت أطرافها قبالة مقبرة المدينة، واهتمام الكاتب بها وبتفاصيل عائلة المنفي ومخاوفها، أحالنا إلى التاريخ من منظور فلسفي وقواه المبدعة.

صاغت الرواية الخصوصية التاريخية للهامشي المتواري خلف هواجس الترحيل وذاكرته المعطوبة، واكتشفت منه ظلًا لشبح اختلفت عناوينه الكبرى بين الثورة والأرض والتاريخ.

فالكاتب استنجد بمعرفته الأنثروبولوجية لتاريخ بدا أطلالًا في مذكرات كتّاب عالميين ورواة محليّين، ليرسم صورة المنفي زمن المصالحة الذي يعيش حياة عبثية وضجرًا مزمنًا تجاه سيّده في العمل، وتعليماته لتحضير برنامج خاص للاحتفال بالعيد الوطني.

ظل امحمد شعبان يعيش قلقًا واغترابًا عن مجتمعه، وبات رفضه الواضح لا المصادم ينزاح نحو البحث عن التاريخ المغيّب والمهمّش للمنفي، منتقدًا التقديس المطلق لما يفترض أنّه أسطورة لم نستطع رؤية إنسانيتها، والبداية كانت من رسائل جدّه المنفي المخبأة عند أبيه، فتلك الرسائل صاغت أفكارًا حول موضوع تاريخي سينتهي بالبحث عن قبر جَده، الذي خرج من كليدونيا عائدًا إلى الجزائر.

حاول الكاتب مفلاح في روايته استعادة أصوات العهد الجريح الملغاة عن تاريخها الوطني، والتي كان لها الأثر الإيجابي في مجابهة الاستعمار الفرنسي وسياسته الاستيطانية، عبر رواة محليين زاحمت أشعارهم الشعبية وقيمهم الأخلاقية التباينات الاجتماعية والاقتصادية للجزائري، فأن يعود حفيد المنفي للقرية بحثًا عن أبناء عمومته، واتهامهم بالطمع للحصول على الميراث، وذاتية خاله المتعجرفة حين التقاه في مركز البريد، عرّفت ملامح الخوف الذي يكتنز صعوبات الكتابة التاريخية والمصالح المتناقضة، حينما تستدعينا اللحظات الحاسمة، لصياغة مسوَّدة مشروع يجرّم الاستعمار.

فالرواية اهتمت بفضاء تاريخي مثخن بوقائع ملحمية صنعتها الهوامش في أرضها ومنافيها، وانطوت انتفاضاتها على رموز وشخصيات تغزونا أسماؤها، دون الإقرار بأهمية الاعتراف بها وفهم ماضيها الأسطوري، فما معنى أن يكون التاريخ ذاته شبحًا يطاردنا في كل مكان، ويحشرنا في أزقة وعمارات كولونيالية؟، تكاد جرافات المقاول تستحوذ على ذكريات عائلة المنفي، إذ ليس من الممكن العودة إلى الجذور بطرق معرفية ونقدية، ما دمنا نحلم بالتاريخ كونه مستقبلًا يلعن حاضرنا، ويأسرنا كلما حللنا بمدائن الحضارة الإنسانية.

أجابت رواية شبح الكليدوني على لسان أبناء العهد الجريح بأننا نملك تاريخًا، وبإمكاننا إنتاج معانٍ مستفيضة حين نؤرّخ للملحمي والعالمي، لكن السؤال الأكثر جدلية في رواية "شبح الكليدوني" من الذي سيكتب التاريخ؟

قسمةُ التاريخ

أبانت رواية شبح الكليدوني عن قدرة هائلة في الاستعانة بالتاريخ المحلي كموضوع في سياقه الوطني، ولم تستفض كثيرًا في بسط الأحداث تلك، بل استعانت بالأمثال والأشعار الشعبية للرواة المحليين، لترسم ملمحًا نهائيًا لعائلة تعيش مخاوف الترحيل، وابن اختار منفاه الطوعي داخل مجتمع يرفض التفكير بوعي في تاريخ الهامش.

كما أنّ الروائي مفلاح لم يقدّم تفسيرًا عن إهمال التاريخ المحلي في الأعمال الإبداعية الوطنية فحسب، بل فتح نوافذ نقدية تجاه مسألة الأرض، والتابع الذي يسرد الخرافة ويقدّسها كونها تراثًا شعبيًا، ومن نقد الهيمنة والاستعمار سردت الرواية ثقافة ثورية مناهضة للرؤى الاستشراقية للعربي.

عرّجت الرواية على تاريخ عالمي ساهم في تغيير الخرائط السياسية، واستدعت الربيع العربي كمحطة فاصلة لفكرة المقاومة وتاريخها المناهض لسياسات التهجير والإبادة، إذ حمل انتقاد الانتفاضات الشعبية، معاني الرفض للاعتراف بها؛ كونها صدمة دامية تلت أسطورة الاستقلال الوطني.

فاللحظة التاريخية لم تسعف الكثيرين ممن غيبتهم المصالح وهمشهم شبح الانجرار خلف الحالمين، لصناعة تاريخ وطني لا تكتبه البورجوازية الباغية، بقدر ما تتقاسمه ثقافة الاعتراف بالهامشي والاختلاف السياسي، بدل محاضر الصراعات والتبادلات الاقتصادية.

أجابت رواية شبح الكليدوني على لسان أبناء العهد الجريح بأننا نملك تاريخًا، وبإمكاننا إنتاج معانٍ مستفيضة حين نؤرّخ للملحمي والعالمي، لكن السؤال الأكثر جدلية في رواية "شبح الكليدوني" من الذي سيكتب التاريخ؟ ومن سيحمل عبء الهامشي متصديًا للاستعراضات السُلطوية؟

فالمنفي يريد قسمة عادلة للتاريخ الوطني يسرد فيه تضحيات أجداده المغيبين، غير أنّه فضّل بدايةً العودة لذاته يناضل لتحريرها، قبل أن يتجرأ على كتابة تاريخ الذين أسلموا رقابهم للثورة، وأمسوا أشباحًا تطارد ذاكرة المستعمِر والمستعمَر، فأن نتحرر من إملاءات السياسة والمحظور اجتماعيًا، يمثل تحدينا الأكبر للتمسّك بالأرض والاعتراف بأبناء العهد الجريح.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق