دعاة الإصلاح الدستوري في السعودية: المناضل على الدميني .. العصامي العتيد
سلطان الجميري
باحث وكاتب من السعودية
المناضل على الدميني .. هذا العصامي العتيد .. أحد أعمدة دعاة المجتمع المدني والإصلاح الدستوري في السعودية ،،أجدها فرص لنبش ذكريات الإصلاحيين والتذكير بهم، وإن كنت أجزم أننا نموت قبلهم، إلا أنها فرصة للاستئناس ببطولاتهم حين يتسلل اليأس إلينا.
لم يكن أحد من زملائه في كلية البترول والمعادن عام ٦٨م، يتصور أن ذلك الشاب اللطيف الذي كان ينظر للأرض خجلا، أن يتحول إلى فولاذ لا تكسر الريح.
صاحبنا علي الدميني .. هو زميل دراسة وصديق مقرب لخالد النزهة .. ذلك الرجل الإصلاحي الذي مات تحت وطأة التعذيب أيام الحركة العمالية ..
علي الدميني الشاعر الذي لا يشيخ .. من أرض غامد العز ،، اسم لا يغيب عن خطابات الإصلاح من الثمانيات وحتى اليوم .. قل له لأجل الوطن يأتيك سعيا..
الحديث عن الإصلاحيين الذين ضحوا لأجلنا ليس ترفاً..لكنه يدفعنا إلى ألا نخونهم هو من باب:
كرر علي حديثهم يا حادي ..فحديثهم يروي الفؤاد الصادي!
سجن الدميني لأجل المطالب الإصلاحية في الثمانيات..وسجن مع زملائه الحامد ومتروك الفالح بعد مشروع الملكية الدستورية .. حتى ملت جدران السجن طلته.
اتهم في الثمانيات بانخراطه في حزب سري .. والتهمة "الشيوعية" .. كان اسمه الحركي "مبارك" .. وأنا أقول أنه اسمه الحقيقي ..وفعله الحقيقي.
أكثر ما يحزنني في سيرة على الدميني .. هي رسالته لأبيه من سجن عليشة .. يوم أن كان ع سرير الموت .. ورفضوا إخراجه من المعتقل .. ورحل ولم يره.
كتب لأبيه رسالة لم يقرأها: لقد تعلمت منك كيف أصبح وطنيا شريفا وإنسانا قويا مهما كانت التضحيات.. أنا أنطوي ع حزن مضاعف وألم لا تكتبه الكلمات.
كتب: "يا أبي لا أحد يعشق السجن .. ولا أحد يكره نسائم الحرية، ولأن قضيتنا المطلبية بالإصلاح السياسي عادلة تعلقت آمالي بتبرئتي من التهم".
كان الدميني يرفض دائما وأبدا التوقيع على التعهدات للخروج من السجن ..وكان يعتبره غلاً لا يستطيع الوفاء به، وهو يرى الوطن يهوي..لا يستطيع الصمت.
في سجن الدمام .. وقد أحاطت به الأحزان من كل جانب ..وحيداً في عزلة إلا من الظلام .. كان المحقق يتوسل إليه رحمة بحاله: وقع يا علي وتخرج كزملائك.
وعلي يرد: والله لو تركتم الباب مفتوحا لما خرجت..فالمعركة بيني وبين المحقق منصبة ع بقائي في السجن..هو يريد إخراجي بقيد أجرجره خلفي أمام الناس
وبالفعل ترك له المحقق الباب مفتوحا وكان يتحرك بين الزانازين ..وحجم الفراغ يؤذيه..لكنه كان يشفق على الحراس الذين يتعاقبون عليه كل ٨ ساعات.
أقول وعلى الرغم من تصلبه في مسألة الوقيع على التعهدات، وافق طمعا في رؤية أبيه .. لكن الموت كان أسرع وحال بينهما .. وغاب عنه للأبد.
شارك الدميني ككاتب وشاعر في الصحف المحلية لأكثر من ٣٠ سنة .. ومع ذلك قامت بعضها بالمزايدة كما يقول وكتبت: الدميني يرفض حضور جنازة والده!
يقول الدميني بحزن: "إن هذا الموقف الرخيص يؤلمني حتى العظم، لكن لا عليك، فأنت تعرف مثلي كم هو بائس هذا الوسط الصحفي وفقير".
الدميني يعرف نفسه بقوله: أنا أحد دعاة العمل العلني مهما كانت الفاتورة .. ! وبرهن قوله بفعله وقد دفع هو وزوجته وأولاده .. الثمن باهظاً.
شارك الدميني في بيانات دعم الانتفاضة الفلسطينية .. وبيانات تستنكر انتهاك شارون للمسجد الأقصى..وبيانات تندد بشن الحرب ع العراق،،
ثم شارك في خطاب "معا في خندق الشرفاء".. صدر عام ٢٠٠٣، مُركزا على تعرية الأطماع الأمريكية في المنطقة ..
وبعد أحداث سبتمبر شارك في "خطاب رؤية لحاضر الوطن ومستقبله"، وكانت مسودة طرحت في زيارة الإصلاحي محمد سعيد طيب للشرقية ومعه مجموعة من الوطنيين.
وكان "السيفون" هو شعار السياسي ،، فمضى عدة أشهر ولم يصدر على تقديم خطاب (رؤية) إلى ولي العهد .. أي خطوة إصلاحية .. أو حتى رمزية تقديرية.
فجاء بعده نداء إلى القيادة .. نداء إلى الشعب".. وقع عليه ١١٦ شخص وسعى معه في ذلك الدكتور عبدالله الحامد ومتروك الفالح ..
استقبل خطاب "نداء إلى القيادة" بغضب من القيادة..وتعنيف شديد..واستدعى الأمير نايف عشرين ممن وقعوا الخطاب .. لكنهم أبدوا تماسكا وشجاعة في شرحه.
وأكثر ما كان مزعجاً هو سقف المطالبات التي وصلت إلى "الملكية الدستورية" بشرح مفصل .. فأراد الأمير أن يضع حداً لهذه المطالبات..
واصل النضال والإصلاح والمساهمة في خطاب "على طريق الإصلاح".. لم يكن السجن ولا التهديدات تخيفه لأنه كان يقول: الوطن لنا كلنا ومسؤليتنا كلنا.
قال ذات يوم للمحقق: "لم تتركوا لنا بابا إلا وأوصدتموه .. ولا أملا إلا وقضيتم عليه ، وكأنما تدفعون المواطن إلى اليأس أو الإرهاب أو الانتحار".
حين سجن في الثمانيات: كان ناصر السعيد ورفاقه في الحركة العمالية وقودا لعزائمهم في السجن .. وتأخذ جل وقتهم وأحاديثهم .. ما أجمل رفقاء النضال.
يعرف السجان أن علي شاعر وذو عاطفة..فكانوا يضغطون عليه في الزيارات بزوجته..وابنه عادل ..وقلبه يعتصر إلف مرة .. وقد حكى عن هذا الصراع في داخله.
يقول علي: أرسلت لي زوجتي "فوزية " وأنا في السجن ، علبه فيها جميع أدويتي..فعرفت أنها تقول لي: الثبات على الموقف وأنا معك على هذا الطريق الطويل.
١٩٨٢ كان رفيقه في السجين "سلفي".. فكتب: يا جاري السلفي أنت قلب أبي! ويعلل ذلك: الطريق يوحدنا ضد طغيان ! ولم يكمل شطر البيت حتى اليوم.
مما كتب:
"أفي بلد البترول جوع وحسرة .. وديْن تغشانا جبالا رواسيا،
أفي بلد البترول عجز ولم نجد .. لطلابنا في الجامعات الكراسيا ..
أفي بلد البترول مليون عاطل .. ومليون مسكين ينادي المواسيا .. لعبنا بـ(مال الشعب) حتى ترملت .. بلادي، فلا تلقى عن العري كاسيا ..".
سخر الدميني شعره للوطن .. ولقضايا الإصلاح .. كتب كثيراً عن السجن ،، عن لحظات الصراع بين الثبات والرضوخ للتواقيع .. ليالي الوحدة والجحود،،
وحين كان السجن يذيقه أصناف العذاب .. أرسل له قصيدته يا سادن السجن:
"أقسمت بالله لا خوفا ولا كذبا .. يا سادن السجن أن السجن قد عذبا .. صمت ونوم وأحلام منزهة .. من رعشة الروح أو ما زادنا طربا .. فهنأ بنا خير محكومين في فقص .. لا نسأل الجند إلا الماء والكتبا ..".
ويؤكد الدميني ثباته:
"يا سادن السجن إنا قائمون هنا..حتى نرى بارقا منا قد اقتربا..حرية الشعب والعدل الرشيد وما .. نراه في دفتر الدستور قد كتبا"..
ويعبر عن اللامبالاة :
"وشقت على قلبي دماء أحبتي..تسيل ووجه الموت في الأفق دانيا..وأشقى ضميري، أن أنادي قيادتي .. فلا ألتقي من ذا يلبي التناديا".
قال الدميني إن الشيوعية التي سجن لأجلها العشرات لم تكن رغبة فلسفية عند معظمنا..ولم نلجأ للأحزاب السرية إلا بعد القمع والسحق الذي مورس تجاهنا.
يقول: كنت مستعدا بعد القمع أن أنخرط في أي تجمع أو حزب سواء إخوان مسلمين أو قوميين أو يساريين..لم تكن الأيديولوجيا هي الأساس، المهم الإصلاح.
في معرض الحديث عن خالد النزهة، يقول: كان صافيا صادقا..فاضت روحه ولحقت بالوطنيين المخلصين أمثاله .. سعود المعمر، صفي المداح عبدالرحمن الشمراني..
يقول: مخرجات القمع في الماضي دفعت المواطنين لتبني الخيارات الراديكالية، فمن (جبهة التحرر الوطني) وُلد (الحزب الشيوعي في السعودية)..
من طرائف المحققين معه: عنفه أحد المحققين وقال له تستهزئ بالبدو ياعلي هاه..فأقسم له أنه لم يفعل، فأخرج دفتر التحقيق مكتوب (أتينا إلى البدء)..
من الطرائف أيضا .. وساطته لأبيه لاستعادة حقوقه في أرض استولت عليه البلدية لبناء طريق مختصر لقصر الأمير محمد بن سعود حين عُين أميرا للباحة في العام ٨٩ م.
وعلى نيته علي: كتب للأمير عن مماطلة البلدية في تعويض والده للأراضي التي انتزعت لبناء طريق لك.. ! فجاءته رسالة توبيخ من والده ..
فقال لأبيه: أفا .. توسطت لك يابوي عند الأمير! قال له (ليتهم رقدوا..وش سويت ياحبابي)..استدعتني الشرطة ووقعتني على تعهد عدم إزعاج السلطات..
يكمل: استدعتني الشرطة للتوقيع بعدم مطالبتي بحقوقي، فرفضت، فأدخلوني التوقيف حتى مللت.. ثم وقعت وخرجت (لا بارك الله فيك، لا أنت ولا واسطتك)..
زوجته فوزية خرجت معه في مظاهرة قديمة دعما للانتفاضة الفلسطينية، فقُمع ذاك الحراك، فطلب علي من زوجته الابتعاد فقالت: لسنا أغلى من الفلسطينيات..
الحديث عن المناضلين ذو شجون ..وهو الموضوع الوحيد الذي أكتب عنه دون أن انتبه للوقت..أقف هنا، وتحية إجلال لشرفاء الوطن..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق