أمريكا وإستراتيجية " القيادة من الخلف"
شهد عام 2013 العديد من الأحداث الدرامية والتحولات الجذرية التي جعلت من هذا العام هو الأخطر والأكثر تأثيرا على الصعيد الإقليمي والدولي ، ومن أبرز أحداث هذا العام هذا التحول الكبير في إستراتيجيات السياسة الخارجية الأمريكية والذي كان بمثابة الانقلاب في الأحلاف الإستراتيجية التاريخية للأمريكان والتي وصفت بالثبات والاستقرار من انتهاء الحرب العالمية الثانية . فقد كان اتجاه أمريكا نحو التحالف مع إيران ، والتفكيك التدريجي لشراكتها التاريخية مع دول الخليج بمثابة الانقلاب الثوري في السياسة الأمريكية . فهل هذا التحول كان عملا فجائيا،ثوريا فعلا ؟ أم أنه نتيجة طبيعية للتغير البطيء والمتدرج في سياسات أمريكا الخارجية ، وتغيير أدوات تنفيذ إستراتيجيات الأمن القومي لها ، منذ أكثر من عشرين سنة ؟ وما هي الأسباب الحقيقة الدافعة لأمريكا للقيام بهذا التغيير الشامل في إستراتيجياتها الخارجية ، خصوصا حيال منطقة الشرق الأوسط ؟
من تحليل تطور وواقع السياسة الخارجية الأمريكية تجاه العالم العربي منذ نشأة العلاقات بين الجانبين في أعقاب الحرب العالمية الثانية ، ووراثة أمريكا للنفوذ الإنجليزي في المنطقة ، يمكن رصد عدة حقائق ونتائج هامة ، من أبرزها :
1 ـ أن عناصر الاستمرارية والثبات في الرؤية الأمريكية من حيث الأهداف والمصالح في العالم العربي والإسلامي تفوق عناصر التغيير أو القطيعة ، وأن التغييرات المفاجئة التي طرأت على الأنماط والتحالفات المستقرة بين العرب وأمريكا كانت نتيجة تغييرات مفاجئة وانقلابية في توجهات ورؤى النخب الحاكمة في عدد من بلدان المنطقة ، مثل اندلاع الثورات ، أو الانقلابات العسكرية ، وهذه التغييرات أسهمت في تثبيت وتدعيم وزيادة مكانة الكيان الصهيوني في الرؤية الأمريكية ، كما أسهمت في تغيير الرؤية الأمريكية نحو إيران، واتجاه أمريكا للتعامل معها كشريك محتمل وحليف يمكن الوثوق به ، والتنبؤ بسلوكياته وسياساته نتيجة ثباته واستقراره السياسي .
2 ـ أن جميع الإدارات الأمريكية على اختلاف توجهاتها الحزبية ؛ جمهورية كانت أم ديمقراطية ، كانت حريصة على التعامل مع العالم العربي والإسلامي وفق أجندة ثنائية ، بينها وبين كل دولة عربية على حدة ،ولم تتعامل مع أي دولة عربية أو إسلامية على أساس أنها زعيمة العرب أو المسلمين ، كما أنها لم تتعامل مطلقا مع الجامعة العربية ، ولم تعرها اهتماما ، فهي من وجهة النظر الأمريكية من منتجات حقبة الهيمنة الإنجليزية على العالم العربي في فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية .
3 ـ أن التحول الجذري الذي ظهرت نتائجه بقوة في هذه الفترة قد بدأ منذ أكثر من عشرين سنة ، وتحديدا منذ سنة 1991 والتي كانت السنة الأهم والأخطر في مستقبل العلاقات الدولية والإقليمية ، وخلال العشرين سنة وقعت عدة أحداث ساهمت في تأسيس الرؤية الأمريكية الجديدة في المنطقة من أهمها : انهيار الاتحاد السوفيتي ، غزو العراق للكويت ثم تحريرها ، دخول القواعد الأمريكية في منطقة الخليج العربي ، هجمات سبتمبر 2001 ، احتلال العراق 2003 ، الأزمة الاقتصادية العالمية 2008 ، الثورات العربية 2011 .
4 ـ خلال العشرين سنة تبنت الإدارة الأمريكية المتتابعة عدة مبادئ وقضايا وأدوات للسياسة الخارجية عامة ، والإقليمية خاصة وفق عدة عوامل : ففي الفترة من 1991 حتى سنة 2001 ، وخلالها اعتمد الأمريكان مبدأ " إعادة الانتشار " وركزوا على ثلاثة قضايا : العراق والنفط والمفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية . وفي الفترة من 2001 حتى سنة 2008 اعتمد الأمريكان مبدأ " الحروب الاستباقية " و " التدخلات الإجبارية " بالتركيز على ثلاثة قضايا : الحرب على الإرهاب ، ونشر الديمقراطية وفق المنظور الأمريكي ، وأسلحة الدمار الشامل . وفي الفترة من 2008 حتى 2013 اعتمدت الإدارة الأمريكية مبدأ " القيادة من الخلف " ، حيث تم التركيز على قضيتين فقط وهما : الأزمة الاقتصادية العنيفة ، والثورات العربية .
مبدأ " القيادة من الخلف " بدأت أمريكا في الاقتناع بحتمية العمل به منذ انتهاء حقبة " بوش الصغير " ، بعد ظهور العديد من المؤشرات على تراجع التأثير الأمريكي دوليا ، بسبب أفول قوة الولايات المتحدة النسبية في وقت أخذت قوى جديدة منافسة مثل الصين ، وأيضا بسبب ارتفاع معدلات الكراهية للتدخلات الأمريكية في الشئون الداخلية للدول ، ومن هذه المؤشرات الدالة على تراجع الدور الأمريكي دوليا وإقليميا وداخليا ، وحتمية اعتناق مبدأ القيادة من الخلف : ميل إدارة أوباما نحو الخروج من أفغانستان بعد عشرية مرهقة وباهظة الكلفة ، والانتقاد الحاد التي واجهته هذه الإدارة عندما أعلنت عن نيتها الاشتراك في العمليات العسكرية في ليبيا . أيضا استمرار العجز السنوي في الموازنة ، واستمرار التراجع في النمو ، واشتداد المنافسة العلمية ، خاصة من الصين وألمانيا ، والتي انعكست على الدور الأمريكي في مرحلة الثورات العربية ، وهذا ما أكدته وزيرة الخارجية الأمريكية " هيلاري كلينتون " حيث صرحت في 16 / 8 / 2011 بأن الولايات المتحدة قد تخسر فرصتها في إعادة رسم السياسات في الشرق الأوسط إذا تسببت ضغوط الميزانية في تقييد الدعم الأمريكي للقوى الديمقراطية الناشئة " . وعلى الرغم من ارتفاع ميزانيات الدفاع والتسليح في عهد أوباما لمستويات قياسية إلا إنها تأتي في سياق سياسة تقشفية تستهدف خفض الإنفاق الحكومي لمواجهة عجز الموازنة ، وانسحاب الحكومة من دعم الفئات الأكثر تضررا من سياسات الإنفاق العسكري ، مما يترتب عليه نزيف اقتصادي حاد ومستمر ، وهو ما سيؤدي لانحسار التفوق الأمريكي العلمي والتكنولوجي والعسكري وكلها مرتبطة بالتفوق الاقتصادي .
هذا على المستوى الدولي ، أما إقليميا فقد كانت الدور الأمريكي في مرحلة ما قبل الثورات قويا راسخا ، ولكنه لم يبق على رسوخه ومكانته مع هبوب رياح الثورة في تونس ثم مصر ، إذ أخذ هذا الدور في الانحسار والتراجع بشكل ملحوظ ، ومع دخول هذا البلاد مرحلة الديمقراطية والحكم الجماعي والتخلص من حكم الفرد المستبد ، زادت وتيرة تراجع الدور الأمريكي في مصر تحديدا ، لذلك لم يكن مستغربا أن تعمل أمريكا جاهدة مع شركائها وعملائها داخل مصر وخارجها على إجهاض هذه التجربة الناشئة للحكم ، وهو ما تم فعلا بالانقلاب العسكري في 3 يوليو ، وهو الانقلاب الذي أعاد قدرا كبيرا للنفوذ والتأثير الأمريكي في مصر والمنطقة . وفي ليبيا كان التراجع الأمريكي أشد وأوضح ، حيث اتبعت أمريكا أسلوب القيادة من الخلف ، بعدم تصدر المشهد ، والسماح لقوات الناتو ودول أوروبا بلعب الدور الأكبر في العمليات العسكرية ، وكذلك في عمليات إعادة الإعمار .
أمريكا بعد أكثر من عشرين سنة من إعادة النظر وترتيب الأوراق والأولويات في إستراتيجيات الأمن القومي وأدوات السياسات الخارجية ، قررت أن تعيد ترسيم سياساتها في المنطقة ، بما يتماشي مع مقدراتها الاقتصادية والعسكرية ، والمتغيرات التراجيدية في المنطقة ، فأمريكا قد بان للعيان في النصف الثاني من عام 2013 أنها على وشك الخروج من منطقة الشرق الأوسط ، والاتجاه نحو منطقة القرن الأفريقي والجنوب الأسيوي لمواجهة النفوذ المتصاعد بسرعة للصين ، ولكنها لن تتراجع إلى الخلف في المنطقة التي ترتبط معها بعلاقات إستراتيجية لا تقبل هذا النوع من التراجعات إلا بعد أن تكون قد أعادت تشكيل أحلافها في المنطقة بما يضمن استمرار التدفق الحر لحركة التجارة العالمية ، واستمرار الهيمنة على الممرات المائية الدولية ، واستمرار تدفقات الوقود وعقود الطاقة ، لذلك فأمريكا تعيد تشكيل المنطقة بتسليم بلاد المغرب العربي وليبيا للمحور الأوروبي ، وتسليم مصر وفلسطين والأردن لمحور إسرائيل ، وتسليم دول الخليج والعراق لمحور إيران ، على أن تتحفظ لنفسها بالحد الملائم من العلاقات الإستراتيجية مع كل الأطراف بما يسمح لها بتغيير خططها وأهدافها وإستراتيجياتها ، وبما يضمن لها أيضا بتحقيق أهدافها ومصالحها .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق