آخر الشامخين
فهمي هويدي
الصدمة جعلتني أقرأ خبر التحقيق مع كبار رجال القضاء في مصر مرتين لكي أستوعبه، وأصدق ما وقعت عليه عيناي. أتحدث عن قرار قاضي التحقيق المنتدب من استئناف القاهرة باستدعاء مجموعة من أشرف وأنظف القضاة الوطنيين، الذين اتهموا بأنهم «قضاة من أجل مصر»، ولست أخفي أنني شعرت بالحزن حين رأيت صورهم منشورة إلى جانب خبر استدعائهم للتحقيق.
ذلك أن ذاكرتي تحفظ صور تلك الوجوه على منصة مؤتمر العدالة الأول الذي عقد في عام 1986 وارتفعت فيه أصوات القضاة مدافعة عن حرية الوطن وكرامة المواطن واستقلال القضاة وحصانتهم.
وطوال الثلاثين سنة التي خلت ظلت صورهم تظهر وأصواتهم تسمع عالية في كل مناسبة تذكر فيها قضية الحريات أو يشار فيها إلى سيادة القانون واستقلال القضاء ونزاهته، حتى عرف جيلنا مصطلح القضاء الشامخ مرتبطا بأسمى المستشارين الراحلين يحيى الرفاعي وممتاز نصار، ورفاقهما وامتداداتهما وفي المقدمة منهم الأحد عشر قاضيا الذين استدعوا للتحقيق معهم، وهم الذين لا يزالون يمثلون في وعينا ضمن آخر أجيال الشامخين.
صباح يوم الإثنين الماضي 23/12 نشرت الصحف المصرية بعض صور أولئك الشامخين وسط تقرير يقول: كان مستشار التحقيق قد تلقى معلومات موثقة تفيد بأن المستشارين المذكورين اشتركوا في تأسيس جماعة على خلاف القانون تسمى قضاه من أجل مصر.
التي قامت بإذاعة البيانات المتعلقة بإعلان نتيجة جولة الإعادة في انتخابات رئاسة الجمهورية، وإعلان نتيجتها من جانبهم قبل إعلانها رسميا من لجنة الانتخابات الرئاسية المشرفة على إجراء الانتخابات، وذلك تأييدا من جانبهم لذات النتيجة التي أعلنها حزب الحرية والعدالة بفوز مرشحهم عن الانتخابات محمد مرسي.
لم أستطع أن افترض البراءة في الأسلوب الذي عرض به الموضوع، خصوصا حين أتيح لي أن أطلع على خطاب الاستدعاء الذي أرسل إلى الجميع، ومنهم المستشار أحمد مكي وزير العدل الأسبق الذي طلب منه الحضور إلى جلسة تحقيق يوم 29/12 الساعة الحادية عشرة صباحا بسراي محكمة القاهرة الجديدة بالتجمع الخامس. بمبنى محكمة الأسرة ــ الدور الأول فوق الأرضي ــ وذلك بمناسبة التحقيقات التي يجريها (المقصود هو قاضي التحقيق) في القضية رقم 10371 لسنة 2013 عرائض مكتب النائب العام.
لقد وجدت أن الموضوع عرض بشكل غير لائق، خصوصا مع قامات قضائية لها مكانتها وتاريخها، ذلك أن التحقيق معهم إذا كان ضروريا فإن الأعراف المتبعة تقضي بإجرائه بصورة سرية وفي جلسات مغلقة الأمر الذي جعل المسارعة إلى النشر فيه تصنف باعتبارها تشهيرا متجاوزا لحدود اللياقة، إلى جانب ذلك فإن أحدا من الشخصيات التي تلقت الاستدعاء لم يعرف إذا كان التحقيق معه باعتباره شاهدا أو متهما، فضلا عن أن الاستدعاء المرسل لم يحدد ما هي القضية التي سوف يسأل فيها.
من المفارقات المدهشة أنه لا يوجد كيان أو تجمع باسم قضاة من أجل مصر، وأن المصطلح أطلقته وسائل الإعلام على اللجنة التي شكلها نادي القضاة أثناء انتخابات عام 2005 لمتابعة وحماية القضاة الذين يشرفون على الانتخابات، بعدما تعرض أحدهم للاعتداء عليه من جانب ضابط شرطة في الإسكندرية. وتلك شهادة المستشار زكريا عبدالعزيز رئيس نادي القضاة السابق، وهو أحد الذين تم استدعاؤهم للتحقيق معهم.
لماذا فتح الملف الآن بحيث أضيف إلى قائمة شيوخ القضاء التحقيق مع عشرة آخرين من المستشارين، غير الـ75 قاضيا الذين اتهموا بالانحياز للإخوان، فيما بدا أنه تحضير لمذبحة جديدة؟ حين حاولت العثور على إجابة للسؤال وجدت أن الآراء تباينت في صدره. وإن لاحظت أن ثمة اتفاقا على أنه لا توجد قضية من الأساس، وأن التشهير بكبار القضاة من النتائج التي حققها النشر بالصورة التي تمت، في تفسير ذلك تعددت الآراء، بين قائل إنها تصفية حسابات داخلية في المحيط القضائي بعدما ارتفعت أسهم البعض في ظل الوضع المستجد وبدا أن أسهم الآخرين انخفضت، وقائل إنها حملة لترهيب القضاة عن طريق تجريح أكبر الرؤوس في محيطهم، وذلك تحسبا لدورهم المفترض في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، وسمعت رأيا ثالثا يرجح أن المقصود بالحملة هو استهداف المستشار هشام جنينه رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، الذي يشكل شوكة في حلق أطراف يخشى أن يفضحها استمراره في منصبه الذي لا يجوز أن يعزل منه، طبقا لنص الدستور، ولا سبيل إلى إقصائه إلا باستصدار حكم يدينه.
إن تشويه صورة كبار القضاة ورموزهم النبيلة لا يسيء إلى أشخاصهم فحسب، ولكنه يسيء أيضاً إلى مقام وهيبة مؤسسة القضاء ذاتها، لكن الأخطر من ذلك هو إقحام القضاء واستخدامه طرفا في تصفية الحسابات السياسية.
في هذا الصدد يذكر شيوخ القضاة للرئيس الأسبق جمال عبدالناصر قوله في سنة 1970 إن قادة الثورة أحجموا منذ عام 1952 عن التدخل في شأن القضاء لكي لا يهدم أحد الأعمدة الأساسية للبلد، ولذلك لجأوا لتشكيل محاكم خاصة للثورة وآثروا أن يتحملوا هم مسؤولية أحكامها وأن يكونوا هم قضاؤها.
وكان ذلك هو السبب في تشكيل محاكم الثورة والشعب والقدر التي حققت للثورة ما أرادته دون أن يكون القضاء العادي طرفا فيها، لكن ذلك الميزان اختل حتى فجعنا أخيرا بما صرنا إليه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق